شهادات ومذكرات

وسام حسين العبيدي: الوائليُّ.. الخطيب الذي لم يتكرَّر

لا يمكن لأي منصف أن يتعالى على دور المنبر في الارتقاء بمستوى ثقافة العامة من الناس لما هو أفضل، مثلما لا يمكن لأي منصف أن يتعالى عن دور المدرسة والمعلِّم، أو دور الانخراط في صفوف الجيش، أو في سلك المحاماة، أو العمل في القطّاعات الصحّية، وهكذا يمكن أن نلتفت إلى وسائط أُخر، لها الأثر الطيب في تنمية الشخصية السويَّة، وتغذيتها علميا وفكريًّا بما يخدم الإنسان والأوطان على حدٍّ سواء، ولكل جهةٍ أهميّتُها في جانبٍ بصورةٍ خاصة، وفي جوانبَ أخرى بصورةٍ عامة..

وأعود إلى رأس أمري في أول الكلام، بالقول: لا يمكن لأي منصفٍ عاش إرهاصات الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي، أن يتنكَّرَ لما قام به خطيب المنبر الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله) من نقلةٍ نوعيّةٍ في مجال التبليغ الإسلامي عبر المنبر، فقد كان مؤمنًا برسالته، على الرغم من كون هذه الأداة صار استدعاؤها في الذهن، يستحضر التراث ويُعيد لنا ما كانت عليه الحضارة الإسلامية قبل قرون، من انقطاع تام عن وسائل التواصل الاجتماعي والتبليغ، ما عدا ما كان عليه المنبر من خصوصيةٍ تفرَّدَ بها وِترًا لم يشفع بأي وسيلةٍ تضاهيه، بل توازيه في التأثير على الجمهور.

وإذا قاد الشيخَ الوائليَّ إيمانُهُ باتّخاذ المنبر وسيلةً للتبليغ، فهو لم ينقد كلَّ الانقياد لما كان عليه رجالاتُ المنبر، من سابقين درجوا، ومعاصرين تخرّجوا على يد أولئك، من نزعةٍ تقليديةٍ صارمة، سواء أكانَ ذلك التقليد في مضامين المحاضرات التي تُلقى على المنبر، أم كان في الأسلوب والطريقة التي انتهجها ذلك الرعيل من الخطباء، فالواحد منهم ليس إلا تكرارًا لما سبقه، وكلُّ ذلك ليس إلا إمعانًا في التقليد، والنأيَ كلَّ النأي عن مواكبة متغيَّرات العصر على مختلف الصُعُد، وهنا لم يكن الوائليُّ - وهو ابن ذلك الوسط - مثل سابقيه أو مُجايليه، رقمًا يُحسب في قائمة الخطباء الذين ارتقوا أعواد المنبر، (وكفى الله المؤمنين القتال)[1] بل آثرَ التعبَ والعَنَت في سبيل النهوض بواقع المنبر الإسلاميّ، مؤمنًا بدوره في التغيير لما هو أفضل، ومُعوِّلاً على قِدراتِهِ الذاتيّةِ في إحداث ذلك التغيير، فكان أن انخرط في الدراسة الدينية في حوزة النجف، فأصاب منها سهمًا وإن لم يرضَ بما وصل إليه من تحصيل تلك المعارف؛ لكونه لم يُكمل الدورات الدراسية المتعلقة بالعلوم الإسلامية، من فقه وفلسفة وكل مشتقّات العربية، عادًّا تلك المعارف أساسًا ضروريًّا للمنبر[1]، وفي الوقت نفسه لم ينقطع عن الدراسة في المدارس النظامية، وصولاً إلى الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بما انعكس أثرُ ذلك الاكتناز المعرفي، وتحصيل أهم العلوم القريب منها والمجاور، على المضامين التي يطرحها في خطابه المنبريّ، وتسلُّحُه بالمعارف قاده إلى ما لم يقد الآخرين، ممَّن آثروا التقليد، واكتَفوا بترديد الروايات من دون أدنى درايةٍ بسُبُل توثيقها من عدمه، فالغايةُ عند الكثير منهم، هو الوصول إلى النعي في آخر مطاف المحاضرة، وإبكاء المستمعين لهم بأيِّ طريقةٍ كانت، حتى وإن كان ذلك على حساب الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بصورةٍ غير مباشرة وغير مقصودة من لدن أولئك الرعيل، ولعل ما أشار إليه الوائلي في كتابه المهم في هذا الصدد (تجاربي مع المنبر الحسيني) ناهيك عمّا يرد عرَضًا في محاضراته الموثّقة صوتيًّا ومرئيًّا، دليلٌ على ما قلناه، فقد ذكرَ في أكثر من موضعٍ من هذا الكتابَ ضيقَ ذرعه بأمثال هؤلاء، ممّن بذل "جهدًا بصورةٍ مبالغٍ فيها أحيانًا تُحشَّدُ فيها صنوفٌ من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى استُحضِرت خصّيصًا للمناسبة وبشكل يبدو عليه التكلّف وتضافُ إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات لتتظافر جميعها في إبكاء الحاضرين"[2] وفي موطنٍ آخر ذكر أنَّ "حصر الحسين في نطاق الدمع والمأساة بينما هو ثورةٌ على الباطل ومنهج سلك الشهادة لبناء مجتمع، ولردِّ طغيان، ولوقوفٍ بوجهِ باطل"[3]، وهذا الإسراف الذي رصدَه الوائليُّ عند الكثير من الخطباء في زمنه، رآهُ سببًا لتقزيم دور المنبر لما ينبغي أنْ يكون عليه، ولما يطمحَ أنْ يُؤثِّر فيه من جمهور، وذلك في قوله: "وقد أدّى استبداد الدمع ومظاهر الحزن في إحياء مراسم الطف إلى مقاطعة أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى لهذه المناسبات بل ومقاطعة كثيرٍ من أبنائنا أو امتناعه من الحضور لما يرون في ذلك من مبالغة"[4]، وفي موردٍ آخر، يُعرب عن أسفه لما يصدر عن بعض أولئك الخطباء، ممّن لا يحسب ألف حساب عمّا يصدر عنه من كلام يكون شاهدًا بين أعداء الدين بعامة والمذهب بخاصة لإدانة مذهب آل البيت والتشهير به سوءًا بسبب تصرُّفات هؤلاء، وذلك في قوله: "إنَّ مما يبعث على الألم أنْ لا تكون هناك رقابة على ما يُقال على منبرٍ يقوم بحمل رسالتنا للجماهير وينبغي أنْ يشعر بمسؤولية الكلمة وخطر الفكر وصلة ذلك بوضعنا ككل. لقد أصبح العالم مكانًا واحدًا تنتقل فيه الكلمة والفكرة بسرعة البرق كما أصبحَ يقرأنا من مختلف الفعاليات التي نقومُ بها. نحن تحت المجهر، فالكُفر يُسلِّط علينا الأضواء ليقول كلمة هل إننا متطرفون أم معتدلون..؟ وإخواننا من المذاهب الأخرى هم الآخرون قد أرهفوا أسماعهم لاقتناص كلمةٍ ولو من مُخرِّفٍ عندنا ليملأوا الدنيا بالضجيج والتستُّر وراءها على طريقتهم في رفع بعض القمصان والمصاحف"[5].

وثمة نتيجة شخّصها الوائلي عبر هذا الإسراف، وهي بحسب قوله: "حينما طغى الدمع في مراسم الواقعة استأثرَ بامتلاكَ المزاج الشعبي"[6] ويُريد بهذا ما دخلَ بعنوان البكاء أو التباكي من ممارسات توحي لمن يقوم بها أنها جزءٌ من المأساة التي جرت على الإمام الحسين وعياله وأهل بيته، وبعبارة أكثر وضوحًا يُشاع استعمالها في كثيرٍ من الكتابات مؤخّرًا، يُطلَق على ما شخّضه الوائلي بـ"الشعبوية" التي تغوّلت كثيرًا عند ممارسي إحياء الشعائر، وصار أصحابُها يتفنّنون سنةً بعد أخرى في تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه التصرّفات الدخيلة، أتاحت لأجواء الحزن أن تلفَّ قضيّة الإمام الحسين من دون إيلاء سائر الجوانب التي ينبغي للخطيب التطرُّقَ إليها.

وهنا يُحسَبُ للوائليِّ أنّه شخّصَها بعين الناقد الحريص على إدامة شعلة الخطابة الحسينية مؤثِّرةً لما هو أبعد من حدود المأساة عبر هذه الممارسات، وهو إذ يُشخِّص مثل هذه الأسباب والنتائج، لا يُريد أنْ يغلقَ باب الحزن والبكاء على ذكر هذه المأساة الخالدة، ولكنَّه يُريد لتلك الدمعة أنْ لا تكون على حساب الدروس العظيمة المستلهمة من ذكرى عاشوراء، بأن يقوم الخطيب بإيراد الروايات الضعيفة السند؛ لمجرّد أنّها تصوِّر لنا ما تعرَّضَ إليه الإمام الحسين وآل بيته من أحداث، أو تقويلهم عبر أشعارٍ تتحدَّثُ عن لسان حالهم، وتحكي ما تعرّضوا إليه من إهانةٍ على يد أعدائهم، بما يجعلهم في صورةٍ لا تليقُ بكرامة المسلم، ومهما كانت الغايةُ نبيلةً لدى الخطيب، فلا يعني ذلك أنْ تُبرِّر الوسيلة لديه باستجلاب ما يُساء فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكرامة الإمام الحسين ونهضته العظيمة ضد الظلم، وفي هذا الصدد ذكر الوائليُّ أنَّ "مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة وُظِّفتْ من أهل البيت لتكون وسيلةً فاعلةً في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف وتجنيد النفوس المُشاهدة لاستشعار مصيبة أهل البيت لا لتكون غايةً في ذاتها تطغى على الهدف الأهم. ولقد أدّت ولا شكّ دورها وكانت سلاحًا فاعلاً حين تعذّرَ حملُ باقي الأسلحة ولكنّها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة وإنْ بقِيتْ وسيلةَ تحصيلٍ أجرٍ لما فيها من مواساةٍ لأهل البيت ومشاركةٍ في أحزانهم، فَحَرِيٌّ بها أنْ تُقدَّرَ بقدرها وأنْ تأتي بصورةٍ عفويّةٍ وبدون تكلّفٍ يُخرجُها من الطبيعيِّ إلى المصطنع وما أكبر الفروق بين دمعةٍ حارَّةٍ ودمعةٍ باردةٍ فإنَّ صدق العواطف يُفرِزُ دمعًا حارًّا"[7]، وفي موضعٍ آخر، قال: "ويبقى للدمع حجمُهُ دون أنْ يستأثِرَ باحتوائنا ويأخذنا بعيدًا عن ردود الفعل السليمة وما يناسب تلك التضحيات من مردود، وحبَّذا لو تسامينا بدمعِنا وارتفعنا به عن أنْ يكون طرفًا في معاوضةٍ من خوفِ عقابٍ ورجاء ثواب – وإنْ يكن ذلك أمرًا سليمًا في نفسه- بل أنْ يكونَ الدمعُ تعبيرًا عن أسىً لنفسٍ حملتْ روح محمد (ص) وجسدٍ ورثَ سماته وكيانٍ هو خلاصةُ أمجاد آل عبد المُطَّلب"[8].

ويتَّضح من أعلاه، ما كان يُحرِّك الوائليَّ من وعيٍ يُلقي بظلاله على خطابته، ما جعله مُميَّزًا بين أقرانه، وحاملاً لواء التجديد في الخطابة الحسينية، مُشخِّصًا بعض المعوِّقات التي تمثَّلت بما ذكرناه، فضلاً عن أمورٍ أخرى وجدها تُشكِّل حائلاً لتأثير المنبر الإسلامي في صياغة الوعي لدى الجمهور، وإثرائه بكلِّ ما يجعل ذلك الوعيُ منسجمًا وتطلّعات العصر، في الوقت نفسه لا يُفرِّط بالقيم الإنسانية النبيلة التي دعا الإسلام إلى تمثُّلها عمليًّا في الواقع، ومن أبرز تلك الأمور، ضرورة أنْ يكون الخطيبُ مواكبًا لروح العصر، بمطالعته المستمرة لكثير من المعارف التي يتّصل بعضها بالآخر، ويكون لها مدخلٌ فيما يطرحه المنبر من قضايا يُحاول معالجتها؛ لما في ذلك من أثرٍ طيّبٍ على الجمهور، وفق حدودٍ تقتضيها الفكرة التي يتناولها الخطيب، فالتوفُّر على معرفتها بحسب الوائلي "مدعاةٌ لتوظيفها في مضمون المنبر إنْ لزِمَ الأمر، هذا من ناحية، وما هو أهمُّ أنَّها تُسدِّد الخطيب الذي أصبح يعرُضُ الأحكام الشرعيّة والأصول العقائدية وغيرها، وناحية أخرى أنه يُوفِّر للمنبر في نفس السامع زخمًا ومكانةً تحمله على الاعتداد بعطاء المنبر وترتيب الأثر عليه، يُضاف إلى ذلك أنَّ روّاد المجالس في هذه الأيام فيهم من يهضم هذه الأمور ويهمُّه الاطمئنان إلى أنَّها على النهج العلمي، وبعد ذلك كله أصبحت بحوث المنبر تُسجَّل وتُسوَّق للخارج ولأناسٍ مُختلفين في ثقافتهم ووعيهم، فإذا كان المضمون علميًّا ومُوثَّقًا فسيكون ذلك مكسبًا لعقيدتنا وداعيًا لاحترامنا والعكس بالعكس"[9]، وهو في موضعٍ آخر، إذ يستعيد لنا ذاكرته عن بداياته في فن الخطابة الحسينية، وكيف كان حال الخطابة في تلك البدايات، يُشخِّص تلك السلبيّة لدى أكثر الخطباء آنذاك، المتمثِّلة بابتعادهم عن العقلانية في الطرح، وتغلُّب المزاج الشعبوي الذي تقوده العاطفةُ لا العقل، ويكون سببًا في استساغتهم طرح ما ينافي العقل، وذلك في قوله: "كما لاحظتُ أنَّ بعضَ ما يُحشَر في أجواء المنبر عند قراءة الموضوع أو المصيبة يتّسمُ بالمبالغةِ وبالأسطورة وبمحاولة العبور ولو على حساب الحقائق والذوق والعقل أحيانًا وهي أمورٌ تكون مصادرُها أحيانًا من خطيبٍ يُريد أنْ يكون شيئًا مذكورًا أو يُشار إليه بأنَّه من الولائيين الذين يَفنون ويذوبون بولاء أهل البيت يُساعد على ذلك بساطةُ القاعدةِ المُستمِعة ذات النفوس الطيِّبة التي يحملُها ولائها الصادق على تصديق كلِّ ما يُقال في أهل البيت فيستغلُّ هؤلاء حبَّ المُسلمين لأهل البيت ويُوظِّفونه لمصالحهم على حساب الحقائق. من قبيل أنَّ ولاية علي (ع) عُرِضت على الأرضين فما قبلها كان عذبًا وما أباها كان سبخًا. ومن قبيل أنَّ البرقَ وجهُ عليٍّ في السحاب والرعدَ صوتُهُ، ومن قبيل أنَّ الحسين قَتَل يومَ الطفِّ اثني عشر ألف فارس إلى أمثال ذلك"[10]، وهو إذ يحتجُّ على هؤلاء ممّن ارتقى الأعواد، وصاروا يُروِّجون لمثل هكذا روايات أبعد ما تكون عن المنطق والعقل، إنما يعكس حرصَه وغيرته على الدين الإسلامي بصورة عامة، من أن يكون نُهزةً بيد المُتربِّصين به سُوءًا، حين يتلقّفون مثل هكذا موارد تكون سببًا لتشويه صورة الإسلام بعامة والتشيُّع بخاصة؛ فلذلك كان يحرص كلَّ الحرص على تهذيب المنبر من أنْ يكون وسيلةً للتهريج، عبر شروطٍ أطلقها في كتابه آنف الذكر، جعلها مما ينبغي أنْ يلتزم الخطيبُ بها، وهي : "الأول التأكُّد من مصادر الرواية في السند، وثانيًا أنْ لا يصطدم المضمون مع الأسس العقلية، كما ينبغي أنْ نلحظ كرامة أهل البيت فوق كل ذلك قبل أنْ تجمحَ بنا عاطفةٌ نُسمِّيها حُبًّا لهم"[11].

ويُقابل الوائليُّ ما ذكرناه آنفًا من مظاهر عاشها بنفسه، وشخَّصها أدواءً لا تصبُّ في خدمة القضية التي يطرحها المنبر الإسلامي، بمظاهر أخرى إيجابية، كان لها الأثر الطيِّب في تعزيز مكانة المنبر وتطوُّره بما ينسجم وتطلّعات العصر وإرهاصاته، من أجواء علميّة تميّزت بها النجف، جعلت الخطيب يحسب ألف حساب لما يقوله من على المنبر، فالعلماء وأفاضل المؤسسة الدينية، كان لهم النصيب الأوفى في إقامة تلك المجالس أو الحضور فيها، ويسرد الوائلي بعض تلك الوقائع التي جرت معه، وحسبُنا من تلك الشواهد، ما نقله عن الشيخ عباس الرميثي أحد كبار علماء الحوزة آنذاك، في مجلسٍ مرَّ فيه الوائلي على مسألة وقال إنها محلُّ إجماع، وكان للشيخ الرميثي بعد انفضاض المجلس، أن ينبري له بالقول تعقيبًا على هذه المسألة: "إنَّكَ ذكرتَ أنَّ هذه المسألة مُجمَعٌ عليها ولكنَّك لم تذكر هل هو إجماع منقولٌ أم مُحصَّلٌ وهل تَتبَّعتَ مدرَكَ هذه المسألة ثم أحبُّ أنْ أعرِفَ هل أنَّكَ درستَ هذا القسمَ من الأصول وعرفتَ منشأَ حجِّية الإجماع هل لأنَّهُ إجماعٌ أم لأنَّهُ يكشفُ عن قول المعصوم.. الخ وأخذ يشرح لي – والكلام للوائلي – جوانبَ ممَّا يتعلَّقُ بموضوع الإجماع وقال إني أريد لك أن لا تقرأ شيئًا لم تهضمْهُ بعد في الوقت الذي أبارِكُ لك فيه طموحَكَ، كما أذكر أنَّه قال لي لا تتأثَّر من توجيهي لك إني أريد أنْ أُجنِّبَكَ ما قد تتعرَّضُ له من إشكالات وأنبِّهُكَ إلى ما يُسدِّدُ خطواتك. وأذكرُ أنِّي شعرتُ بنقصٍ شديد وأخذتُ أُجدِّد العزم على الحصول ولو على الحدِّ الأدنى من الأصول والفقه"[12].

وإذا كان الميلُ لدى الوائليِّ إلى عقلنة الخطابة الحسينية، وترويض العاطفة بالاتجاه الصحيح، بما يرتقي بالثقافة الإسلامية لدى عامة الناس، فهو لا ينكر الضغط الذي يُلاقيه الخطيب من جمهورٍ يمثِّل الأكثرية، يطالب الخطيب بأنْ يكون قريبًا من وعيهم، ويناغم عواطفهم الجيّاشة في موسم الحزن على مصيبة الإمام الحسين، وهذه المستوى يتطلّب من الخطيب أنْ يُماشي الجمهور فيما يرغب، ولعلَّ بعض الخطباء يجد في هذا الجمهور بُغيته؛ لأنه لا يتطلّب منه التدقيق فيما يقرأه من روايات وأحاديث، بمقدار ما يطالبه بالإكثار في النعي، والاستزادة فيه من أشعار تُلبِّي تلك الرغبة، سواء أكانت بالفصحى أم باللغة الدارجة، ممن لا يتمتع أكثر ناظميها بمستوى ثقافي مرتفع يُحسن انتقاء الفكرة الجيدة والمضمون العالي[13].

وهو إذ ينتقد إسراف بعضهم في هذا الجانب، لا يريد إلغاء هذا الجانب بالمرّة، إذ المجلس الحسينيُّ ينبغي أنْ يشتمل على العِبرةِ والعَبرة؛ فلذلك ارتأى – بحسب قوله - أن يمسك "العصى من وسطها، فنقف بين المُصرِّين عليها وعلى توسعتها وبين المُطالبين بحذفِها والاستغناء عنها، فنُجري الأمر على العادة، ولكن بحجمٍ صغير، ونُركِّز على الشعر القريض والمنتقى الذي يتميّز بأداءٍ حارٍّ ومستوىً مُرتفع فإنَّ بالشعر القريض وبالشعر العامّي ما هو جيِّد وما هو دون المستوى فلا بد من الانتقاء"[14].

ولعلَّ ما يُضيف أهمّيةً لما ذكره الوائليُّ في تجاربه المكتوبة عن المنبر، ما فيها من اعترافٍ جريء يُنبئ عن شجاعةٍ قلَّ نظيرُها لمن يدخل هذا السلك – وأعني به المؤسسة الدينية في كلِّ مجالاتها – وصراحةٍ ليس في معرض التهجُّم، بل في سياق المصلحة العامة، وتسديد خطى المنبر لما فيه توسيع مساحة تأثيره لأكثر شرائح المجتمع، ومن دون أنْ يقتصر تأثيره لطائفة من طوائف المسلمين من دون أخرى، وهذا ما كان الوائليُّ يسعى إليه، وفي هذا السياق، يذكر ما كان عليه في السابق من نمطٍ تقليديٍّ في الخطابة، وما شخّصه من معوِّقات، بقوله: "لقد درجتُ في بداية قراءتي في المجالس على الأسلوب السائر والنمط الدارج في ذكر المصيبة بغثِّها وسمينها، بل ربَّما أكَّدتْ بعض القضايا في ذلك وهي ممَّا إذا ذكرته الآن أشعر بعدم الرضا منه وسببُ ذلك أولاً غلبةُ التيار السائد وعدم وجود النقد في هذا المضمار؛ لأنَّ النقد يتأتَّى من الناقد نفسه ويستنكره عليه الوسط المندمج في عالم المجالس، وليست مسألة النقد موجودةً عندنا ولو وُجِدتْ لأسهمتْ كثيرًا في تنظيف الساحة من الشوائب والطفيليّات ولكنَّها مع الأسف معدومةٌ لأسبابٍ كثيرة. وثانيا لأنَّ مستوى وعيي كان محدودًا ومساحةُ ممارستي للمنبر كانت ضيِّقةً وحتى لو اتَّسعت فإنَّ الوقتَ آنذاك كان المستوى فيه ليس بالمطلوب"[15]. ومثل هذا الاعتراف، يؤكِّد لنا ما كان يطمح إليه الوائليُّ من سعيٍ لتغيير واقع المنبر والوظيفة التي ينبغي أنْ يُحقِّقها في المجتمع؛ لأجل أنْ لا يكون ترفًا اجتماعيًّا، أو إسقاط فرض يُؤدّيه الناس من مُقيمين لهذه المجالس، أو مستمعين يحضرون إليها.

وقد لا تخفى على اللبيب الغايةُ من التصريح بهذه الآراء التي بثَّها الوائليُّ في كتابه (تجاربي مع المنبر) أنَّه يبتغي من ذلك إشهار هذا الموقف الناقد والمسؤول لمن يترسَّم طريقه إلى الخطابة، وأنْ يتحلّى بروح المراجعة النقدية لما يختطّه من أسلوبٍ في الخطابة يكون الهدف الأساس من ورائها الارتقاء بمستوى الخطابة بما ينسجم ورقيَّ الإسلام ومبادئه الإنسانية السمحاء، والاستفادة منها في ترصين أدوات الخطيب بما يجعله ممثِّلا عن الإسلام بأجلى صوره وأنقاها[16]، في الوقت الذي لا يتناسى فيه تطلّعات الدين الإسلامي والحفاظ على المشتركات وتأكيدها بين جمهور المسلمين، إذ كان يؤكِّد على ضرورة الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى، والتفاعل معها نقدًا وتقييمًا بأعصاب هادئة وموضوعية تامة واتّباعٍ للدليل لا لقسر الدليل على أتباعه، وقد تلمَّسَ الوائليُّ ثمار هذا الانفتاح في فتح أبواب الحوار مع الآخرين، وتقريب وجهات النظر للمختلفين في داخل الإطار الإسلامي الواحد، وتصحيح كثيرٍ من الأفكار الخاطئة المأخوذة عن المذهب للآخر المختلف[17]، بما جعل المنبر منفذًا لهذه الغاية النبيلة.

وبعد كلِّ ما ذكرناه آنفًا، تزول الوحشةُ وينقشع استفهام السائل، حين يطالع عنوان هذه المقالة؛ لما يجدُهُ في واقعنا من خطباء لم يترسّموا الخطى الرشيدة التي اختطّها الوائليُّ، وما كان له من منهجٍ سديد عمل على تطبيقه في محاضراته التي بقيت إلى يومنا هذا مثار إعجاب واهتمام المسلمين، من أهل "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ممّن لم تلوثِّهم المذهبيّةُ الضيِّقة وتحدو بهم إلى سبل اللقاء إنْ سمحت في كثيرٍ من الموارد، ويجدون في محاضراته مثالاً للاعتدال والموضوعية، ومنفذًا لتوحيد الصفِّ لا لتفريقه، وطريقًا لحبًا للتزود من الثقافة الإسلامية، وغيرها من معارف تعمل على بناء شخصية معتدّة بدينها في الوقت الذي تحترم فيه العقل، وتنتمي لكل ما ينسجم والطرح العقلاني من أفكار وقضايا ومواقف.

***

د. وسام حسين العبيدي

...............................

[1] سورة الأحزاب: من الآية 25 .

[1] ينظر: تجاربي مع المنبر، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1998م: 146 .

[2] نفسه: 60 .

[3] نفسه: 61 .

[4] نفسه: 61 .

[5] نفسه: 21 .

[6] نفسه: 62 .

[7] نفسه: 60 .

[8] نفسه: 62 – 63 .

[9] نفسه: 64 .

[10] نفسه: 106 .

[11] نفسه: 107 .

[12] نفسه: 138 – 139 .

[13] ينظر: نفسه: 213 – 214 .

[14] نفسه: 214 .

[15] نفسه: 218 .

[16] ينظر: نفسه: 118 .

[17] ينظر: نفسه: 152 .

 

في المثقف اليوم