شهادات ومذكرات

طه جزاع: خزانة الفنون الشعريَّة

طَغت البحوث الصوفيَّة، وبالأخص تحقيق وشرح ديوان الحَّلاج، على ما سواها من كتب الدكتور كامل مصطفى الشيبي. وفي الوقت الذي طُبعت فيه تلك المؤلفات والدواوين الشعريَّة مرات عديدة بسبب اقبال القراء عليها، بقيت نتاجاته المهمة الأخرى في الشعر الفصيح، والشعر الشعبي العربي القديم على طباعتها الأولى، بل يمكن القول إنها قد أصبحت طي النسيان. وفي مقدمة تلك الكتب « ديوان الدّوبَيت في الشعر العربي» وهو من منشورات كلية التربية في الجامعة الليبية سنة 1972 وفاز في العام التالي لصدوره بجائزة جمعية أصدقاء الكتاب في بيروت.

بذل الشيبي جهداً مضنياً في هذا الكتاب الذي يعتز به كثيراً كواحد من أكثر مؤلفاته التي تطلبت منه جهداً متواصلاً، وبحثاً وتنقيباً، وفهرسة وترتيباً في أمهات كتب التراث العربي ونوادره لمدة عشرة قرون، غفل عنها الباحثون والنقّاد قدماء ومحدثين، وشدَّ الرحال إلى شتى بقاع العالم الإسلامي عبر مسالك الزمان، لا المكان « فبعُد بي ذلك ألف سنة من العصر والأوان» كما يقول الشيبي في تصديره للكتاب الذي شرح فيه دوافع انكبابه لإصداره والتعريف بجهود الذين سبقوه في هذا الميدان، وبشعر الدّوبَيت ابتداءً من القرن الخامس الهجري : « ولا شكّ أن القراء سيفاجؤون بجدةّ الدّوبَيت عليهم، وسيدهشهم خفاؤه عليهم كل هذه السنين ويتساءلون: لمَ لم يشُر إليه كبار الباحثين؟ ولمَ لم تتعرض له رسائل الطلبة في الدراسات العليا».194 khamel alshebi

ويجيب الشيبي بنفسه على هذا التساؤل بالقول أن السبب في ذلك هو تطلّب السلامة والرهبة من المجهول أولاً وقبل كل شيء. وفوق هذا، فمن الملاحظ أن الأبحاث العلمية في الدراسات الأدبية تنتهي، على العموم، عند أبي العلاء المعرّي من رجال القرن الخامس الهجري كما تنتهي الدراسات الفلسفية عن ابن رشد الفيلسوف، من رجال القرن السادس الهجري. لهذا لا نجد لشعراء القرن السادس فما بعده ذكراً في المباحث الأدبية. ثم يقدم الشيبي لنشأة الدّوبَيت وتطوره في الأدبين الفارسي والعربي، موضحاً أنه لفظ فارسي معناه «البيتان» وهو قالب شعري ظهر في المشرق مثل ظهور الموشح في الأندلس والمغرب ونموذجه في الفارسية «رباعية» لعمر الخيام، ونموذجه في العربية ترجمتها على الوزن نفسه من نظم القاضي نظام الدين الأصفهاني، ويتّتبع انتشار الدّوبَيت في البلدان العربية والإسلامية في رحلة الألف سنة، وشعراء الدّوبَيت في القرون الهجرية من القرن الخامس الهجري « الحادي عشر الميلادي» حتى القرن الرابع عشر الهجري « العشرين الميلادي»، ومن أبو العباس الباخرزي، والخطيب البوشنجي من شعراء القرن الخامس الهجري، إلى أحمد بن الصافي النجفي، وصالح الجعفري، ومحمد صالح شمسة، من شعراء القرن العشرين الميلادي. من دون أن يهمل أشعاراً متفرقة من الدّوبَيت لا يعرف قائليها، ولا الزمن الذي ينتمون إليه .

لقد فتح ديوان الدّوبَيت الأبواب واسعة أمام الشيبي، فقد توفرت له خزانة ثمينة من الأشعار الفصحى والعامية من مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، دفعته للتفكير، وعد العدة، لإستكمال جهوده في سلسلة أسماها «خزانة الفنون الشعريَّة» أصدر منها « الفُلْكُ المُحَمَّلَة بأصداف بحر السّلسَلة»، و «ديوان الكان وكان في الشعر العربي القديم»، و «ديوان فنّ القُومَا في الشعر الشّعبي العربيّ القديم»، كما عمل على اخراج « ديوان المواليا» الذي يصفه بالسمين العملاق، لتكتمل أربعة من الفنون الشعرّية التي يميل المصنّفون إلى جعلها سبعة هي الشعر القريض، والدّوبَيت، والموشح، والمواليا، والكان وكان، والقوما، والزجل. واهملوا الإشارة إلى فن السلسلة الذي أولاه الشيبي عنايته واهتمامه .

***

د. طه جزاع

في المثقف اليوم