شهادات ومذكرات

صائب المختار: هارون الرشيد ومجالس الأنس

هارون الرشيد خامس خلفاء الدولة العباسية. على الرغم من أنه لم يكن أفضل الخلفاء العباسيين لكنه أكثرهم شهرةً، فأبي جعفر المنصور هو المؤسس الفعلي للدولة العباسية والخليفة المأمون هو صاحب الفضل الأكبر في تطوير العلوم والعلماء والثقافة في الحضارة الإسلامية، فلماذا يكون هارون الرشيد أكثرهم شهرةً؟

يمكن القول، إن سبب شهرة هارون الرشيد تعود إلى القصص والحكايات التي قيلت عنه وعن عصره، والتي كانت مملؤة بالمغامرات والعجائب والغرائب، ومجالس السهر والسكر والمجون. هذه الصورة لشخصية الرشيد هي الصورة المنتشرة في عقول الناس والثقافة وبعض الكتب التي تروي مثل هذه القصص. لكن هناك صورة أخرى عن شخصية هارون الرشيد تذكرها المصادر التاريخية، فتصفه بالخليفة التقي الورع، الذي يصلي مائة ركعة في اليوم، يحج إلى بيت الله الحرام بين عام وعام، وفي العام الذي لا يؤدي فريضة الحج، فإنه يتصدق بالمال بما يعادل تكلفة الحج، ويهبها للمحتاجين صدقة لوجه الله.

من كل ذلك، يمكننا أن نستنتج أن هناك روايتان عن شخصية هارون الرشيد، متضادتان ومتعاكستان، لا تصلحان لشخص واحد. فمن يكون تقياً ورِعاً يخاف الله، لا يحضر مجالس سكر ومجون. ومن يحضر مجالس السكر والمجون، لا يهتم بأداء العبادات ولا يخاف الله. وواضح من كل هذا، أن إحدى الشخصيتين غير صحيحة، مختلقة وتخالف الحقيقة. فأي الشخصيتين تمثل حقيقة شخصية هارون الرشيد؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نراجع المصادر التاريخية، والكتب التي كتبت عن حياته وسيرته وأفعاله، وبالتالي يمكننا أن نتعرف على حقيقة شخصية هارون الرشيد.

لمراجعة الكتب التاريخية، اخترت الكتب التالية: كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الثامن، كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي الجزء الثالث، كتاب الكامل في التاريخ لأبي الفداء الجزء الخامس، وكتاب تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر الجزء الثالث. واختيار هذه المراجع كان على أساس أنها الأكثر شهرة والأكثر مصداقية من بين الكتب التاريخية. ومن المصادر الحديثة اعتمدنا كتاب هارون الرشيد لأحمد أمين وكتاب موسوعة هارون الرشيد تأليف الدكتور سعدي ضنّاوي، واخذنا ما كُتب عن هارون الرشيد في موقع ويكيبيديا.

تتحدث هذه المصادر التاريخية عن سيرة الرشيد عندما تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الخليفة موسى الهادي، عام 170 هجري (786 م) ولغاية وفاته في عام 193 هجري. تتحدث كتب التاريخ هذه عن أعماله في إدارة حكم البلاد، كعزل ولاة الأمصار وتعيين ولاة آخرين، والتعامل مع الفتن والثورات التي حدثت خلال حكمه، ونكبة البرامكة، وغيرها من شؤن الدولة. وما يهمنا في هذا البحث، ما كُتب عن شخصية هارون الرشيد المتناقضة. يمكن ملاحظة أن جميع هذه المصادر تتفق على وصف شخصية هارون الرشيد بالورَع والتقوى ومخافة الله، ولم تُذكر عنه صفات الخلاعة والمجون. يُذكر، أنه كان ملتزماً ومحافظاً على التكاليف الشرعية، ويعظّم حرمات الإسلام، ويبغض النفاق في الدين. وتذكر المصادر التاريخية، ان الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وأنه أدى فريضة الحج مرات عديدة خلال فترة حكمه.

يقول الطبري " وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام (سنة 170 هجرية وفيها تولى الخلافة)، فأعطى أهل الحرمين عطاءً كثيراً، وقسّم فيهم مالاً جليلاً " وكرر الطبري ذكر حج الرشيد في الأعوام التي حج فيها بالناس، وكان يحج كل عامين أو ثلاثة. ومنها أن الطبري ذكر في عام 179 هجرية " اعتمر هارون الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة وأقام بها إلى وقت الحج ثم حج بالناس" وأيّد ذلك الواقدي وقال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم. وآخر حجة أدّاها الرشيد كانت في عام 188 هجري (حج الرشيد تسع مرات خلال حياته). يقول ابن خلدون عن هارون الرشيد " كان الرشيد على ما نقله الطبري يغزو عاماً ويحج عاماً، ويصلي كل يوم مائة ركعة ويتصدق كل يوم بألف درهم من صلب ماله، وإذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحج أنفق على ثلاثمائة حاج نفقة شائعة" 

وعن سيرته، تتفق معظم المصادر التاريخية على فصاحته وبلاغته، وحبه وتكريمه للعلم والعلماء، فقد كان يُجزل العطاء للعلماء والمترجمين. تذكر المراجع التاريخية، أنه كان محباً للشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه. ومن الشعراء المقربين له، الأصمعي (كان شاعراً وفقيهاً وعالم نبات)، وأبي العتاهية الذي عرف عنه التنسك والزهد والابتعاد عن ملذات الدنيا. ولم يكن أبي نؤاس من المقربين في مجلس الرشيد، وكان غالباً ما ينتهي به الأمر إلى السجن إذا ما قال شعراً لا يليق بالمجلس. وتزخر مجالس الرشيد بالمناظرات الأدبية والشعرية البلاغية. وقد رفض ابن خلدون في مقدمته الروايات التي تروّج لمعاقرة الرشيد للخمر. ينقل المؤرخون حب الرشيد لمنادمة الشعراء والادباء والمغنين، وكان يطرب لأجواء الغناء ومجالسها. كان يحب الغناء ويطرب به، وإذا أعجبه بيتاً من الشعر طلب فيه لحناً وغناءً، فالغناء متمم للشعر. تدار مجالس الرشيد الغنائية من قبل اساطين الغناء العربي، مثل إبراهيم الموصلي، الذي كان اديباً وعالماً بالجغرافية، وابنه اسحق الموصلي، وزرياب تلميذ اسحق الذي انتقل إلى الأندلس لشدة التنافس بينهم وأنشأ أصول الغناء الاندلسي.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، إذا كانت المصادر التاريخية تصف هارون الرشيد بالورع والتقوى، فمن أين جاءت الصورة الأخرى المشوهة والمسيئة؟ على الأرجح، هناك كتابين يُنسب لهما ذكر تلك القصص والروايات، وهما كتاب ألف ليلة وليلة الذي يزخر بالقصص الوهمية والخيالية، وكتاب الأغاني الذي وصِف بالكذب والتلفيق.

كتاب ألف ليلة وليلة، لا يعرف له أصل، هل هو هندي المنشأ أم فارسي، أم أن أصله عربي. ولا يُعرف له مؤلف، ولا زمن تأليفه، فهو مجهول الأصل. هناك إشارات تدل على إن الكتاب عُرف في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر، وترجم إلى اللغة الفرنسية عام 1705 في 12 مجلداً، بعدها ترجم إلى الإنكليزية والألمانية، وطبع باللغة العربية عام 1814. عندما نشر الكتاب في أوروبا، انبهر به الأوروبيون وأصبح جزءً من ثقافتهم وادبهم وفنونهم وكتاباتهم. ولما كان الكتاب مكتوباً باللغة العربية، استنتجوا أن قصصه حدثت في بغداد، التي كانوا يعرفونها كحاضرة الدنيا وأرقى مدن العالم في ذلك الزمان، من خلال علاقة هارون الرشيد بشارلمان حامي الإمبراطورية الرومانية المقدسة وخصوصاً الهدايا العجيبة التي أهداها إليه الرشيد، كالساعة المائية والفيل وغيرها. وكان الأوروبيين يعرفون هارون الرشيد وترفه وبذخه وسلطانه وسطوته، حتى أنهم سموا الكتاب باسم الليالي العربية (Arabian Nights) وليس ألف ليلة وليلة. وهكذا انتشرت قصص وروايات هارون الرشيد.

في الثقافة والادب العربي يعتبر الكتاب تافهاً وليس فيه ثقافة أو علم مفيد 

أمّا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني فهو موسوعية أدبية يقع في 24 مجلد، ألّفه في خمسين عاماً، في القرن الرابع الهجري. ذكر فيه اخباراً وروايات عن اللهو والخمر والغناء في مجالس الرشيد. احتوى الكتاب على أكثر من مائة اغنية ولحْن، لذلك سُميَ بالأغاني. لم يُعتمد ككتاب تاريخ، وتنقصه الكثير من المصداقية وصحة الأخبار. احتوى الكتاب على الكثير من الأخبار الكاذبة. ركّز الكتاب على قصص الخلاعة والمجون، مما جعل القارئ يتوهم أن بغداد كانت مدينة الخلاعة والإلحاد. طَعَن به المؤرخ العراقي وليد الأعظمي في كتابه، السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني. وطعنه أيضاً العلامة ابن الجوزي البغدادي والخطيب البغدادي. قال الخطيب البغدادي: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طباطبا العلوي، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن الحسين بن النوبختي، كان يقول: كان أبو الفرج الأصفهاني أكذبَ الناس، كان يشتري شيئاً كثيراً من الصحف ثم تكون كل رواياته منها. لكن هناك أيضاً علماء معروفين أثنوا على كتاب الأغاني واعتبروه من المصادر المهمة أمثال الدكتور طه حسين والعالم ابن خلدون. لكن هذا التناقض في تقييم الكتاب يوجب التشكيك في مصداقيته، إذ لو كان الكتاب موثوقاً لما اختلف فيه العلماء.

في هذه العجالة يمكن أن نقول، إن هارون الرشيد كان يخشى الله ويلتزم بتعاليم الدين، وإن مجالسه الأدبية والشعرية والغنائية فيها من الادب والشعر والفن ما يعكس المستوى الثقافي الراقي للمجتمع العربي العباسي وخصوصاً مدينة بغداد، أرقى مدن العالم في ذلك الزمان. وإن الصورة المشّوهة والسيّئة عن الخليفة هارون الرشيد غير صحيحة، أخذت من القصص الخيالية والأخبار الكاذبة والملفقة. ولما كانت هذه الصورة الخيالية عن الرشيد هي المتداولة في القصص والروايات والأفلام والمسلسلات، التي تتحدث عن زمن الرشيد ويشاهدها الناس، لذا كانت هي الشخصية الأكثر انتشاراً بين الناس وليس في المصادر التاريخية.

***

 د. صائب المختار

في المثقف اليوم