شهادات ومذكرات
ألكسندر أدامز: ألكسندر تراكي.. حثالة المدن الكبيرة
بقلم: ألكسندر أدامز
ترجمة: صالح الرزوق
***
قبل ظهور الكاتب ألكسندر تراكي، ابن غلاسكو، عام 1962، في مهرجان إدنبرة الأدبي، سبقه صيته. سيء السمعة، منهار، مدمن على الهيروين، هارب من العدالة، فاجر معروف، ومؤلف كتب تهتم بالجنس المفضوح والعنف وتعاطي المخدرات. عدا أنه مصنف مع الشخصيات الآثمة والخطيرة. وحينما صعد تراكي على المنصة دخل بمهاترة كلامية مع الشاعر القومي الإسكوتلاندي هيو مكديرماد والذي خلع عليه لقب "الحثالة الكونية". لكن تراكي اعتز بشتيمته كثيرا.
يعتبر تراكي بنظر الكتاب الإسكوتلانديين المتمردين مثل جيمس كيلمان وآيرفين ويلش نقطة بداية. فكتاباته عنيدة ولا ترحم ومتوترة وغير عاطفية وذات طابع إسكوتلاندي واضح، ولكن هذبتها الوجودية الفرنسية ومضامين بيكيت. وهي أيضا عتبة لكل كتاب إسكوتلاندا الطموحين الذين أنجبتهم أجيال لاحقة. وفرت الشهرة الدولية لتراكي وساما خاصا. غير أن حياته المتصفة بالإفراط - وهذا يشمل تعاطي وتداول المخدرات ومواجهة عقوبة الإعدام والفرار من القضاء الأمريكي والمتاجرة بشرف زوجته ليكسب ثمن الهروين الذي أدمنا عليه - طارده بلغط لا يستهان به. بالمقابل تحولت حياته إلى نمط أناني مريض وأرعن ويدعو للشفقة. وعانى من الجدب في الإبداع، وأصابه عوق الكتابة فترة مسهبة كانت بمثابة إنذار للفنانين المبدعين الذين أغراهم الانحراف. ولم يتوفر، يوم وفاته عام 1984، غير القليل من المواد غير المنشورة. ويمكن لأي إنسان، إذا رغب، أن يقرأ كل قصص تراكي الجادة في أمسية طويلة واحدة. وإذا استبعدنا ثماني روايات إيروتيكية تجارية، كتبها ليجني النقود، يتبقى له "آدم الصغير" 1954، "كتاب قابيل" 1960، و"الرجل المقدس وقصص أخرى" 1965. يضم آخر عمل أربع قصص. أما "الرجل المستجم" 1972 فهو مجموعة من الأشعار، ويستكمل به رباعيته الأساسية المنشورة في دار كيلدر والتي انتقلت ملكيتها إلى ألما بوكس.
يوضع تراكي، على وجه العموم، مع جيل المتمردين Beat، وبالأخص وليام بوروز في بواكير مرحلة كتاباته التسجيلية المعروفة بمرارتها. غير أن جون كيلدر يرى أن تراكي فعليا ينتمي إلى الكتاب الفرنسيين "المذمومين"، من بودلير ورامبو حتى سيلين وجينيه. وفي بعض المناسبات أمكن ذكر اسم كوكتو، الذي عرّفه على الهيروين، وهو سبب "سقوط" تراكي في خاتمة المطاف ثم موته. وكان تراكي أيضا عضوا نشيطا في حركة الأوضاع الدولية Situationist.
وكتابه "آدم الصغير" رواية ألغاز بوليسية تقريبا. يسرد راويها كيف وجد جثة امرأة في القناة في الصباح، ولم يهتم لها، واختار أن يتناول إفطاره أولا قبل انتشال الجسم الميت. كان رؤية ساق عارية تتدلى من تحت غطاء فوق جسم محمول على نقالة، شيئا يشبه "جزرة بيضاء". حتى أنه راقب المشهد وهو يأكل تفاحة. تجري أحداث الرواية في عالم لم يلمسه التطور تقريبا منذ العصر الفكتوري - رواتب متدنية، وجبات قليلة، عمل يدوي، وصحف القراءة تتوفر في صالونات عامة حيث لا يوجد مذياع أو تلفزيون - مع النذر اليسير من عالم ما بعد الحرب. وهكذا ننغمس في اضطراب وغربة الراوي. ونلاحظ أنه يستجيب لحافز قوي وحيد هو إغراء زوجة زميله. ونكتشف لاحقا علاقة الراوي بالمرأة الميتة ونراقب ردة فعله كلما توالت عواقب موتها في القصة. ولكن يؤثر بنا الخليط المكون من اللامبالاة والعاطفة. ونطلع على نفسية الراوي الباردة والأنانية باثولوجيا بطريقة غير مباشرة من خلال ملاحظاته عن ردود أفعاله على الأحداث، والتي يبدو أنه انفصل عنها.
تدور حكاية "كتاب قابيل" حول رجل يقود قاربا يتبع شركة مياه نيويورك. والراوي هو من يعتني ويوجه القارب (زورق يستعمل للشحن في المجاري المائية الداخلية)، وذلك في أوقات الصيانة. وهو مدمن ويتعاطى الماريغوانا. ويكتب أيضا رواية. ونتعرف خلال ذلك على زملائه وزميلاته في العمل، مع أنه يحاول تجنبهم. ومشاغله في الكتابة لا تتعدى اهتمامه بالقراءة والدردشة مع الآخرين. فهو قليل الطموح ولكن دون إضرار بشخصه، ويعيش اللحظة، وأحيانا يتذكر أحداثا من ماضيه وزواجه الفاشل. وحينما يتوقف في نهر على مشارف مانهاتن يتذكر ماضيه في إسكوتلاندا ووقوفه في قرية غرينتش.
يجدر بنا مقارنة هذا العمل بـ "صيد السمك" 1966 للكاتب ب. س. جونسون. فالراوي كاتب يبحث عن موضوعه على متن قارب للصيد. ويغمرنا بمونولوجه الداخلي وانشغاله بفشله الرومنسي وحياته المحدودة ودوار البحر. في رواية "صيد السمك"، الموضوع والحبكة، تحت سيطرة الوعي المفرط بالذات. لكن تتم الكتابة في "كتاب قابيل" بالصدفة، ويمكن للمرء أن يتخيل أن الرواية بدون ذلك الجانب ليست مختلفة بموضوعها عن بقية نتاج تراكي الذي يكتب عن الإدمان انطلاقا من تجربته الشخصية. ولكن ليس هذا جوهر الرواية، بل هو مجرد عامل واحد في الظروف التي تتحكم بالراوي.
ينتاب المدمن في نيويورك اليأس. وأن تكون مدمنا يعني أن تستعد لتعيش في مصحة عقلية. الكل يعوي مثل كلاب مريضة: القوانين، قوات الشرطة، الجيش، عصابات المواطنين المعدمين. وربما هؤلاء أقلية ضعيفة في هذه الحياة: فهم على حافة المجاعة، يتمرغون بالوحل، مهتاجون ودون حماية من أي غيتو شرعي. حتى اليهودي التائه لا يفقد الاتجاه مثل المدمن الذي فقد كل أمل له بالحياة. عدا أنه مضطر للتنقيب والتنقل، يتوجب عليه أن يتواجد حيث يتوفر المخدر، ولا أحد يضمن مكانه، ولا أحد يعلم يقينا ما إذا كان مكان المخدرات هو السجن ذاته.
توجد روايات أخرى يمكن مقارنتها مع كتابات تراكي. مثل مونولوجات بيكيت التي تدور في ذهن أفراد معزولين (صدّر تراكي "كتاب قابيل" بمقتطفات من "مالون يموت" 1951 لبيكيت). ولا ننسى الروايات الجديدة العارية التي انتشرت في تلك الفترة. كلاهما يتوازى مع روايات تراكي. وتوجد علاقة مع عمل آخر من الحقبة السابقة وهو "ساحة المخمورين" 1941 لباتريك هاملتون. وهي عن جريمة تتبع مسيرة وتدهور جورج بون، الذي يصارع رغبة من طرف واحد نحو نيتا لونغدون، الممثلة الثانوية. تفرط نيتا باستغلال مظهرها، وتنجرف في حياة منحلة. تنام وتشرب وتأكل في مطاعم عالية التكاليف وتقترض النقود بلا مبالاة واضحة. وفي النهاية يقتلها بون مع عشيقها، ثم ينتحر. ويشتهر أبطال "ساحة المخمورين" بالعزلة - هم مفككون اجتماعيا وعائليا، ومتوحدون بذواتهم عاطفيا واقتصاديا - ويبدو أن لديهم القليل من العلاقات والواجبات وينتمون لهوامش المجتمع ويتكلون على الكسب الآني والسخرية المحسوبة. وهذا لا يختلف عن أبطال تراكي المشتتين. والبغاء غير العلني والصامت خيط آخر يربط نساء هاملتون مع تراكي. ومع أن نثر تراكي أقرب لموضوعه، تجد قرابة مع المونولوجات الداخلية وسلوك الشخصيات والبيئة. يتضمن كل من "ساحة المخمورين" و"كتاب قابيل" اقتباسات هذيانية تتصدر الفصول.
تضم مجموعة "الرجل المقدس وقصص أخرى" أربع نصوص. قصة "وجود من مسافات" تصف جنازة عائلية، وتستعيد أجزاء من "كتاب قابيل". تتابع قصة "الرجل المقدس" سكانا مهجنين في بناء باريسي، وهي تدين لبيكيت بنبرتها. "أن تحيا وتكبر وتموت: هذه هي كل الحكاية". ويقلل فيها من السخرية والشحنة السلبية، ويؤكد على الجانب الوجودي من رجل دين يعيش في سقيفة بحالة اضطراب. تهتم قصة "بيتر بيرس" بأعمال رجل يعقد صفقة مع رجل مشوه. وتركز قصة "اجتماع" على وصف موظف، بعد ظهيرة أحد الأيام، وهو يعمل في مكتب خانق ويتحاور مع سكرتيرته. وهذه القصة هي الأكثر حرفية في المجموعة - وعلى ما يظهر هي أهم عمل سردي بين أعمال تراكي القصيرة.
بقيت مجموعة قصائد بعنوان "الرجل المستجم". صدّرها الناشر جون كيلدر بكلمة تمهيدية، مع مقدمة لوليام بوروز. يروي كيلدر أنه اقتحم مسكن تراكي بصورة غير شرعية ليستولي على المخطوط الذي وقع تراكي عقده ولكنه أخر التسليم عدة مرات. ولذلك لم يراجع الشاعر مخطوطه كما يجب. يتراوح تاريخ القصائد منذ عام 1951 حينما كان الكاتب في غلاسكو، مرورا برحلاته الواسعة في أوروبا وأيامه في نيويورك، حتى إقامته عام 1972 في لندن. ولذلك تختلف في الأسلوب لأبعد حد. ولاحظ بوروز محقا تأثير شعر جون درايدن الميتافيزيقي في بعض القصائد. يقول في قصيدة ميرتل ذات الشعر الأزرق الباهت: "...ما عرضته/ على الرجل، & بلا خجل ../ خطوطا مرنة نحيفة وناعمة/ من فخذيها الإمبراطوريين الفخمين، وعنف الدلتا الحارة الراكدة هناك..". وأكثر ما يلفت النظر تكرار ظهور كلمات مثل "فخذان"، "بطن"، "حضن" و"نطفة". - عموما هذه الظاهرة معروفة لدى مارفيل ودون، وكذلك في إيروتيكا عصر تراكي. في أوقات غيرها نجد سلسلة من عبارات عجيبة وغريبة وأقوالا سياسية على نمط غينسبرغ: "..السياسة الخارجية يعنب / أن تكشر القردة عن أنيابها / أسنان قردة سوداء / أسنان قردة بيضاء / أسنان قردة بنية / أسنان قردة قوية / مشحوذة الأطراف / قردة / غرباء / يقرعون الأجراس".
بعض القصائد خفيفة جدا، ولا تزيد على أن تكون أبياتا شعرية عابرة، وقصيرة جدا. وبالإضافة للتسرع والرعونة تجد أنها تفتقر للبداهة والعمق أو الحرفية، ولكن هذا لا يعني أن تراكي شاعر رديء، بل في الحقيقة حاول قرض الشعر في نوبات، ليصل أخيرا لنتائج غير متشابهة.
أكثر القصائد طموحا هي "درس قصير في الجغرافيا من أبنائي وبناتي". وتقدم وصفا عاما للغرب والشرق، فهي وصفية بامتياز ومكتوبة بمهارة وحذر ولكن بقدرات وأصالة ملحوظتين. وفيها يتعرض تراكي للمعنى الشائع عن الثقافة المضادة والتي تؤكد أن الغرب عقلاني ومذكر، ومرهق ومتعب ("الغرب غرف نوم نساء وممثلات/ وأرستقراطية تحتضر"). أما الشرق فعاطفي ومؤنث، وخصب وغير واضح ومليء بالحيوية ("الشرق رحم أسود / أكثر إظلاما من ماء النيل والفرات/ امرأة & نسلها / وطمي ناعم نفوذ.."). تكرر القصيدة تصورات الاستشراق وأعداء الرأسمالية، ولذلك تتكل على إحالة للجنسين المتقابلين، ذكر وأنثى. بغض النظر عن السياسة، هي قصيدة قوية ومؤثرة. ما يدعو للأسف أن القليل من شعر تراكي يصل إلى هذا المستوى من الإنتاج الشعري. في قصيدة "كيف ألقى النبي تيريسياس القادم من طيبة موعظته" يحاول تراكي إعادة صياغة قصيدة إليوت "الأرض الخراب". فهي شعر يقوم على مزيج من الأساطير القديمة والحياة الحديثة، والسخرية والمفارقة والاستعمالات اللغوية المتعددة والصياغة المركبة. وهي أطول قصيدة ولكنها ليست تامة. لا يسع المرء أن لا يرى أن تراكي يجرب، ويستمتع بكتابة دون اتجاه. وقد أتاح الشعر لتراكي أن يفصل نفسه ويبتعد بها عن الجدال، والوصف والمعاني غير الغامضة وأن يربط نفسه كثيرا بأطراف مستقلة، وحرة، وأن يستمتع قليلا باللعب بالكلمات. وهنا تلاحظ لمعان وبريق موهبة الوصف والرؤية التي تميز نثر تراكي.
25 آب 2019
***
ترجمة وإعداد صالح الرزوق
.......................
ملاحظة:
1- أول من عرفني على ألكسندر تراكي Alexander Trocchi الدكتور لويس عوض في كتابه "الجنون والفنون في أوروبا". وفيه فصل عن مشاركته عام 1962 بمؤتمر أدباء المملكة المتحدة في إسكوتلاندا. ويتضمن عرضا لجدول أعمال المؤتمر ومناقشاته، وأسماء أشهر الحاضرين ومنهم تراكي، وأنغوس ولسون، وهو كاتب إنكليزي شبه أعمى ومثلي جنسيا. ومن بينهم فرانسيس كينغ، إنكليزي آخر اعترف بمثليته الجنسية في أحد كتبه.
2- يذكر الدكتور سكوت هايمز من جامعة ستيرلنغ، واختصاصه السياسة والرواية الأوروبية، أن أحدا لا يسمع حاليا باسم تراكي. ويمكن أن نتابع المشهد الروائي في إسكوتلاندا من خلال جيمس كيلمان ومن جاء بعده. لكن هناك من يدافع عن تراكي ويؤكد أنه حرك حدود التعبير الروائي. وأدخل للتقاليد البريطانية أساليب مختلفة في البناء والرؤية. ومن ضمن ذلك أعماله سيئة السمعة مثل "سياط" و"هيلين والرغبة" وغيرها. وهي أعمال تعود لفترة حياته في فرنسا. وكتبها ليجني قوت يومه.
ألكسندر أدامز Alexander Adams ناقد وفنان وشاعر. ينشر في مجلة بيرلنغتون البريطانية. من أهم مؤلفاته "ثقافة الحرب".