شهادات ومذكرات
الطيب النقر: الإمام المهدي السوداني والتنكر للمتصوفة
نجد أن الإمام محمد أحمد المهدي الذي كان يرى أن” إمامته أو مهديته صمدية لا تتكرر، ولا يأتي بعده إلا الدجال والنبي عيسى عليه السلام، وأن إمامته تجمع بين إمام الشيعة المعصوم وشيخ الصوفية الملهم، لذلك فإنه فوق كل أصحاب الطرق والمذاهب، لذا قام السيد المهدي بإصدار منشور في أواسط سنة 1301ه/أوائل عام 1884م أبطل فيه العمل بالمذاهب الأربعة، وكان يرى أن كل ما كُتب من إجماع وقياس وتفاسير تناول مسائل فرعية لا قيمة لها من حيث الأركان الأساسية للعقيدة الإسلامية، كما قام السيد المهدي في نفس المنشور بإبطال الطرق الصوفية، وقد هدف السيد المهدي من إلغائه للعمل بالمذاهب وإبطاله للطرق الصوفية، إلى وقف الخلاف بين المسلمين، وقد أشار إلى ذلك بقوله:” تعددت الطرق واختلفت حتى ظنّ أن كل شيخ يقوم بتأسيس دين جديد وأن غيره من زعماء الطرق خارج عن الدين وحتى ضلّ القوم ضلالاً مبيناً وأصبحوا يوجهون أنظارهم لمشايخهم بدلاً من ينبوع الدين والعرفان الأصيل القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومما يذكر أن السيد المهدي كان قد مهّد في بعض منشوراته السابقة إلى مسألة إلغاء العمل بالمذاهب وإبطال الطرق الصوفية، كما يشار إلى أن المهدية قد استندت إلى أسس الطرق الصوفية وعددها ستة وأضافت إليها أسسها الذاتية وعددها ستة أيضاً، وصارت المهدية بذلك تقوم على أثني عشر أساساً، فأصبحت أعلى وأسمى من الطرق، وأوسع منها وكان إلغاء الطرق تمشياً مع هذه الفكرة”. هذه الحقيقة التي أوردناها تحتم علينا الحديث عن مشرب الإمام لفكرة المهدية، واتجاهه وتعامله نفسه مع هذه الفكرة، فقد اكتسب هذا المشرب الاتجاه الصوفي بحكم طبيعة الطرق الصوفية التي كانت سائدة في ذلك العهد، ولعل من الدلائل والمؤشرات التي تؤكد أن تناول محمد أحمد لفكرة المهدية جاء نابعاً من تصوفه أن محمد أحمد المهدي” كان يكرر القول بأن العلماء لا يدركون مهديته بمقاييسهم العلمية وإنما يدركها أهل البصائر، وحين ولادته عرفه أهل الباطن والحقيقة لا العلماء.
عدد المهدي نفسه الروافد الصوفية وروافد المهدية في حركته في القول الذي أورده على لسان الشيخ الطيب في وصف حضرة تنصيبه فقال:” الطريقة فيها الذل والانكسار وقلة الطعام وقلة الشراب والصبر وزيارة السادات، فتلك ستة، والمهدية أيضاً فيها ستة: الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله تعالى واتفاق القول فهذه الاثنا عشر لم تجتمع لأحد إلاّ لك”، وهكذا يوضح ما هو من أصل المهدية وما هو آت من التصوف، ثم لاحظ أنه يسمي حركته” الطريقة” مما يثبت قولنا بأنه كان يدير حركته في أول الأمر على نمط طريقة صوفية، وكما ترى فان نصف الروافد صوفية، وضعه لراتب وحزب قرآني، والعناية بالتسبيح والبسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأدعية على نحو ما يفعل الصوفية.
اعتماده البيارق، والبيارق التي رفعها هي بيارق صوفية، وقد كتب في كل راية من الرايات الأربعة اسم قطب من الأقطاب، وتحمل هذه الراية لون طريقة القطب، والراية الخامسة هي راية المهدي، ولونه أبيض وقد كتب فيها اسم المهدي، وهكذا يضع المهدي نفسه صنواً للأقطاب، كما أن تصوراته صوفية في كثير من أحواله وقد اعتمد على الرمز كثيراً عند توضيح الأمور، وأيضاً تسمية أعوانه في الأقاليم في أوائل المهدية خلفاء على نحو خلفاء الطرق، وأيضاً القول بالحضرات ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأن الأولياء يخبرونه بأمور، والقول بأسرار للأمور لا يراها إلا الخاصة، وأيضاً مما يبرهن أن مهدية محمد أحمد نابعة من توجه صوفي محض قوله بجنة للعامة وهي ملذات الآخرة وبجنة للخاصة وهي التمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وأيضاً بتفسيره الباطني للقرآن والقول بالتوكل المطلق في كل أمر”. بناء على ما تمّ ذكره نجد أن الإمام المهدي رحمه الله شديد الإيمان بحقه في الإصلاح، شديد الحرص على أن يظل هذا الحق واقفاً عليه لا يتعداه لغيره، والإمام المهدي رحمه الله وأنصاره مهرة في فهم هذه الحقوق التي تتجلى قدرتهم على التوفيق بين متناقضاتها، والجمع بين متبايناتها، ولا نستطيع أن نفرغ من هذا الحديث دون أن نأتي بتعريف موجز عن الإصلاح العقدي الذي هو عبارة عن “تلك المعارف التي تشرح وتفسّر حقائق عالمي الغيب والشهادة في ذهن المسلم بشكل منهجي ويقوم على ربط المعارف المتعلّقة بحقائق الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من عالم الغيب، وربط المعارف المتعلّقة بحقائق الكون والحياة والإنسان، من عالم الشّهادة بخالقها ليقوم المسلم بأداء الواجبات المطلوبة من على خير قيام، حتى يتجنب العذاب في الدارين أو يحيى بحياة طيبة في دنياه وآخرته.
كان هدف الإمام المهدي الذي كان مريدوه يعتقدون أنه لا ينطق إلا عن ميراث حكمة، وأحاديثه قد صُبت فيما هو أشبه بقوالب العصمة، أن يحكم شريعة الله في الأرض، ويحرر بنو جلدته من رهق الاستعمار، يقول سيد قطب معلقا على معنى حكم الجاهلية في الآية أنها: “حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية اللّه، ورفض ألوهية اللّه، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون اللّه، والجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع، هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس في أي زمان وفي أي مكان إما أنهم يحكمون بشريعة اللّه ويقبلونها ويسلمون بها تسليما، فهم إذن في دين اللّه، وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر ويقبلونها، فهم إذن في جاهلية وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين اللّه، والذي لا يبتغي حكم اللّه يبتغي حكم الجاهلية والذي يرفض شريعة اللّه يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية”.
كما سعى المهدي بعد أن دانت له الأمور أن يكبح جماح الطرق الصوفية التي أضحى عددها في تنامي وازدياد، وأن يعزز النفوذ والسيطرة لطريقته التي سعى أن تحدث في المهج موضع الإعجاب والفتنة، وأن يقطع دابر التعلق بتلك الطرق التي ناصبه شيوخها العداء، كما أن منشوره الذي أصدره يجعلنا في حالة ذهول من كثرة تلك الطرق، الأمر الذي يحفز خيالنا للاعتقاد بأن سودان القرن التاسع عشر لم تطف في صقع فيه أو واد إلاّ وجدت ناسكاً أو واعظاً يدعو لنصرة طريقة، أو اتباع شيخ جليل.
***
د. الطيب النقر