شهادات ومذكرات
مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (37): گـَـرِي بَكَر
(1930 –2014) Gary Becker
گـَـرِي بَكَر هو استاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا أولاً، ثم استاذ الاقتصاد والاجتماع في جامعة شيكاغو. وهو الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992 على مساهماته النظرية التي وسعت رقعة دراسة الاقتصاد والتي تميزت بكونها جديدة وجريئة وسباقة في ادخال التحليل الاقتصادي على مواضيع وقضايا لم لم يتضمنها الاقتصاد من قبل. فولم يحاول أحد قبله بتحليلها ضمن النظرية الاقتصادية، ذلك انها صنفت في ميادين اخرى كالاجتماع والديموغرافيا والعلوم السياسية وغيرها. يقول ملتن فريدمن: " ان بَكَر هو اعظم اقتصادي-اجتماعي عاش وعمل في النصف الثاني من القرن العشرين". علما انه تتلمذ على يد فريدمن الذي كان درسه في الاقتصاد الجزئي سببا لاهتمام بَكَر بدراسة الاقتصاد والتعمق فيه.
منذ البداية، كانت أشرت اطروحة بَكَر للدكتوراه التي قدمها لجامعة شيكاغو عام 1955 بعنوان " اقتصاديات التمييز العنصري في مجال العمل" اهتمامه ، ثم استمر اهتمامه بدراسة مواضيع اخرى في حقل السلوك الانساني التي ، لاتلتقي مع المواضيع التقليدية التي اهتم الاقتصاد بدراستها والتي تميزت بتمحورها حول السلوك الانساني في انتاج وتوزيع واستهلاك المنتجات والخدمات التي تخدم السوق. ولذا فقد اطلق بَكَر على مواضيعه مصطلح Non-market products and behavior. أي المنتجات التي لا تروّج في السوق والسلوك المتعلق بانتاجها واستهلاكها. شملت هذه المواضيع التي اهتم بدراستها بَكَر رأس المال البشري، والجريمة والعقاب، والادمان على الكحول والمخدرات، وانتاج واستهلاك الأُسرة والعائلة وتقسيم العمل داخل المنزل وقضايا وقرارات العائلة كالزواج في الزواج والطلاق وانجاب الاطفال وحجم العائلة المرغوب ومعدل الولادات والميراث والتضحية والايثار وغيرها. وهكذا فقد فتح بَكَر الباب على مصراعيه لشتى المواضيع الاجتماعية التي خضعت اصبحت تحت مجهر الللتحليل العلمي بموجب النظرية الاقتصادية. وتجدر الاشارة هنا الى التمييز بين الاسرة Household أو اهل البيت أي الافراد الذين يسكنون منزلا واحدا وقد يكونوا او لايكونوا مرتبطين بقرابة، وبين العائلة Family التي تتميز علاقة افرادها بصلة الدم والزواج.
ولد بَكَر عام 1930 في پوتسفل – پنسلفينيا لعائلة يهودية بسيطة، حيث لم يستطع والداه مواصلة الدراسة بعد المرحلة المتوسطة. فكان والده يجاهد من اجل التمكن من امتلاك محل صغير لبيع المواد المختلفة. وبعد ان تمكن من ذلك بفترة قصيرة اصيب بالعمى فواصلت والدته ما بدأه الوالد. وكان ويذكر گـَـرِي انه اعتاد ان يقرأ لوالده ماينشر في الصحف حول اخبار السوق المالية والاخبار السياسية، مما زوده بالمواد الثقافية الاولى لتأجيج اهتمامه بالاقتصاد.. انتقلت العائلة من پوتسفل بوتسفل الى بروكلن – نيويورك عندما كان گـَـرِي في الخامسة من عمره، مما اتاح له ان ينشأ ويترعرع في مدينة نيويورك ويلتحق بمدارسها لغاية قبوله في جامعة برنستن في نيوجرسي عام 1948 . وقد تألق في برنستن فحصل على البكالوريوس بثلاث سنوات ليلتحق بعدها مباشرة بالدراسات العليا في جامعة شيكاغو، ويصبح طالبا وزميلا لملتن فريدمن وجورج ستگلر وگرگ لوس وثيودور شلتز وآخرين، . ويحصل على الدكتوراه عام 1955، حيث اُعتبرت اطروحته عن التمييز العنصري موضوعا غريبا على المواضيع التقليدية وجديدا في التحليل الاقتصادي.
في عام 1957 عمل استاذا للاقتصاد في جامعة كولومبيا في نيويورك، وباحثا في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية NBER. وفي عام 1965 اصبح زميلا لجمعية الاحصاء الامريكية، وفي 1967 فاز بجائزة جون بيتس كلارك المخصصة للاقتصاديين الشباب اللامعين تحت الاربعين. في عام 1970 عاد الى شيكاغو ليبقى ليتبوأ درجة الاستاذية في حقلي استاذا لالاقتصاد والاجتماع. فبقي في هذا الموقع لغاية تقاعده من العمل الجامعي.
يقول بَكَر : "بعد ثلاثة عشر عاما من العمل المثمر في جامعة كولومبيا، عدت الى شيكاغو، حيث المناخ الاكاديمي الحيوي الذي افضله والذي كنت محظوظا ان اجد فيه اطيب الاصدقاء واحسن الباحثين. مع عودتي لشيكاغو تركز اهتمامي هذه المرة على اقتصاديات العائلة، فبدأت في العمل بالكتاب الرئيسي في هذا المجال، كما افتتحت سمنارا خاصا بهذا الموضوع شاركني فيه الزميل شيرمن روزن".
في عام 1972 اصبح بَكَر زميلا لاكاديمية العلوم والفنون الامريكية، وفي عام 1973 اصبح زميلا في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، ثم في عام 1990 اصبح باحثا اقدم فيه. كما اصبح وعضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم عام 1975. في عام 1981 نشر كتابه المركزي الهام حول اقتصاد العائلة والذي اسماه Treatise on the Family. يقول بَكَر: "لم تثر دراساتي اهتماما كبيرا في الوسط الاقتصادي خلال الربع قرن الاول من عملي الاكاديمي. لكن الانتباه اليها والاهتمام بها كان قد تفجر في مطلع الثمانينات". وما دعوته ليكون استاذا مشتركا في قسمي الاقتصاد والاجتماع الا واحدة من علامات تأكيد ذلك الاهتمام المستحق المتأخر. و في عام 1985 بدأ بكتابة عمود صحفي في مجلة الـ Business Week ممثلا الاتجاه المحافظ في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والذي نشر بالتناوب مع عمود الجانب اليساري الذي كان يكتبه استاذ الاقتصاد في برنستن ألن بلايندر. وقد استمرت هذه المناظرة الصحفية لغاية 2004. وفي هذا العام بدء، بالاشتراك مع القاضي ريجرد ريچرد بوزنر تجربة صحفية اخرى تمثلت باطلاق ما سمي بـ Becker – Posner Blog الذي يخاطب الجمهور العام حول قضايا راهنة كانتشار الاسلحة وتفشي الجريمة وسبل السيطرة عليها وقضايا الضرائب والزواج والطلاق والاطفال وحمل المراهقات والعواقب الاقتصادية لهذه المشاكل ومسؤولية الدولة والقوانين المنظمة لذلك.
وكان بَكَر قد انخرط في العمل كمستشار اقتصادي للحملة الانتخابية الرئاسية للمرشح الجمهوري السناتور بوب دوول عام 1996. وفي عام 2000 حاز على الميدالية الوطنية للعلوم. في عام 2007 قلده الرئيس أوباما وسام الحرية الرئاسي من النوع المدني وهو اعلى تكريم تمنحه الدولة لمواطنيها المدنيين تقديرا لخدماتهم الابداعية. وفي عام 2008 نال شرف جامعة برنستن التي ادرجته بتسلسل 11 في قائمة اكثر خريجيها شهرة وابلغهم تأثيرا في المجتمع، حيث اخذ المرتبة الاولى الرئيس الامريكي وأحد الآباء الاوائل جيمس مادسن الذي كان ضمن دورة عام 1771. في عام 2011 استحدثت جامعة شيكاغو مركزا للبحوث الاقتصادية اطلقت عليه اسم Becker-Friedman Institute for Economics .
نستطيع ان نلخص مساهمات بَكَر الاساسية في الموضوعات التالية:
التمييز العنصري في مجال العمل Discrimination in the Labor Market
كان هذا موضوع اطروحة الدكتوراه المقدمة الى قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو عام 1955، والذي استمر بَكَر بتطويره وتنقيحه ونشره بكتاب صدر عام 1957. وقد، حيث اعتبرت هذه الدراسة أول معالجة نظامية تفصيلية لاستخدام النظرية الاقتصادية في تحليل الغبن والاجحاف في مجال العمل والتعيين وقضايا الادارة المدنية للعاملين في الرواتب والترفيعات والترقيات والعلاوات. في البداية لم يعتقد اغلب الاقتصاديين بأن هذا الموضوع ينتمي لصلب الاقتصاد اضافة الى اعتقاد اغلب علماء الاجتماع والديموغرافيا والادارة بأن ادخال النظرية الاقتصادية كان يشكل نشازا منهجيا في التحليل الاجتماعي السائد. إلا ان اغلب اقتصاديي شيكاغو رحبوا بالفكرة واشادو بشجاعة بَكَر لتناولها، واعتبروها مساهمة اصيلة لربط الاقتصاد بالعلوم الاخرى . وكان على رأس المتحمسين فريدمن وشلتز ولوس. وبدعم منهم اصبح بَكَر استاذا مساعدا وهو مايزال في سنة دراسته العليا الثالثة. في ملخص سيرته الذي كتبه الى لجنة جائزة نوبل تحدث بَكَر عن هذا الدعم العظيم، شاكرا وممتنا : " ان التبني والدعم المخلص الذي تلقيته في قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو اشعرني بأن من الاصلح لي أن اخرج عن طوق تلك الرعاية المستفيضة من اجل ان لا اعول عليها فاصبح معتمدا وانا انشد الاستقلال والحرية. ولهذا فقد فضلت ان اترك عملي كاستاذ مساعد وألتحق بجامعة كولومبيا بوظيفة بنفس العنوان ولكن براتب أقل".
المقصود بالتمييز هنا هو تحيز بعض اصحاب العمل أو العاملين وكذلك بعض المستهلكين ضد بعض المجموعات الاجتماعية التي لايرغبون فيها من ناحية توصيفها على اساس العرق والعنصر والخلفية الاثنية واللون والدين او الجنس. ويتجلى ذلك بالامتناع عن استخدامهم كعاملين او عدم بيعهم المنتوجات كمستهلكين. ويشير بَكَر الى ان هذا التمييز يحصل بالرغم من انه يزيد كلفة العمل . فعدم تشغيل العمال السود مثلا سيزيد من اجور العمال الاخرين المرغوبين بالتوظيف. فاذا كان صاحب العمل مستعدا لتحمل نسبة مئوية قدرها d، من الاجور، فان كلفة الاجور ستكون w(1+d) . وبهذا سيكون بالامكان اعتبار d كعامل التمييز Discrimination Coefficient (DC) . وبنفس الطريقة سيتخذ عامل التمييز هذا اشكالا مختلفة كأن يشير كميا الى رغبة واستعداد جماعة من البيض لمقاطعة سلع ومنتجات منتج أسود، حتى لو كلفهم ذلك أكثر. كما يشير الى ان خسارة اصحاب العمل بسبب التمييز ستتحول الى كسب من قبل اصحاب العمل الذين لا ينتهجون التمييز. وكلما زادت المنافسة بين اصحاب العمل، قلت وطأة التمييز. وطبيعي فان التمييز يشتد في مجالات الانتاج غير التنافسية وتلك التي تقل فيها حمى الربح والخسارة، فيما تنخفض شدة التمييز في المجالات و المحكومة باجراءات وضوابط معينة كمؤسسات الدولة. كانت هذه الطروحات رائدة في وقتها ، وهي بالطبع غير معصومة من النقص والهنات لكنها فتحت الطريق فحدثت تحسينات كبيرة عليها ، خاصة في دراسات أررو (1972) وأكيرلوف (1976).
رأس المال البشري Human Capital
المصدر الرئيس في هذا الموضوع هو كتاب بَكَر الموسوم "نظريات رأس المال البشري" الذي نشره عام 1964 واعيد طبعه في عامي 1975 و 1993. يتمثل رأس المال البشري بالقيمة الاقتصادية لصفات الفرد المتجسدة بالمعرفة والمهارة والذكاء وحسن التطبيق والخبرة وامكانية الخلق والابداع والتي لها الاثر الفعال على الاداء الاقتصادي والانتاجية. على ان هذه الصفات بامكانها ان تنمو وتتطور بالتعليم والتدريب والممارسة. والكلفة التي تترتب جراء الانفاق على التعليم والتدريب والممارسةفي هذا المجال، اضافة الى مايخسره الفرد من دخل بسبب انخراطه ببرامج التعليم والتدريب. وهذه هي الكلفة الاستثمارية التي يؤمل ان يغطيها ويتجاوزها المردود الاقتصادي. وبذلك سيكون الهدف هو ارتفاع معدل العائد من التعليم والتدريب للحد الذي يكون فيه صافي القيمة الحاضرة ايجابيا
positive Net Present Value (NPV)، ). وستعكس الاجور الناتج الحدي الحقيقي للعمل
real Marginal Product of Labor (MPL).
لم يكن مفهوم رأس المال البشري جديدا، ولم يأت حصريا في دراسات بَكَر. فقد جاء عموما في أدبيات آدم سمث، وورد في أدبيات إرفنك فشر. وحتى ضمن مدرسة شيكاغو فقد درسه جيكب منسر (1958) وشلتز (1961)، إلا ان معالجة بَكَر (1962،1960، 1964) كانت أشمل وأدق وجاءت بنتائج عملية للبحث التطبيقي الذي رافق الدراسة النظرية. لقد ميز بَكَر بين التدريب العام والتدريب الخاص. يزيد التدريب العام من مهارة وامكانية العامل وبالتالي يرفع من ناتجه المتوسط والحدي. ولكن لا يتحمس له صاحب العمل لانه لايستطيع الحفاظ بكل العمال المدربين حيث سيخرج بعض منهم ويلتحقوا بشركات اخرى. أما التدريب الخاص فهو الذي يفصله صاحب العمل على مقاسه، فيستثمر في العمال والمهارات الخاصة بانتاجه هو حيث سيكون من المستبعد ان يتركه بعض العمال المدربين ويلتحقوا بشركات اخرى.
الجريمة والعقاب Crime and Punishment
بدأت دراسة بَكَر لموضوع الجريمة والعقاب في نهاية الستينات، وذلك بمقالته الموسومة :الجريمة والعقاب: معالجة اقتصادية"" المنشورة في مجلة الاقتصاد السياسي لعام 1968. اصبحت هذه المقالة فيما بعد من الاصول في هذا المجال. والفكرة الاساسية هنا هي ان قرار ارتكاب الجريمة بالنسبة للمجرم يخضع، ولو بشكل ضمني ومستتر، الى حساب الربح والخسارة. فلا يقدم المجرم على ارتكاب جريمته مالم يعتقد ان ما يجني منها يفوق ما قد يخسره جراءها. وما يخسره منها هنا لا يشمل الخسارة المعنوية والعاطفية، بل يقتصر على مدى احتمال ان يُمسك ويُحاكم ويُجرّم ويُنفذ فيه الحكم. وهذه قضية معقدة وطويلة تقبل الكثير من الاحتمالات التي تُبطل فاعليتها. ولهذا فللحد من تفشي الجريمة يقترح بَكَر ان يزيد المجتمع من كلفتها على المجرم وذلك بتوسيع رقعة العقاب وتأكيد عدالته وتقوية احتمال تنفيذه بسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها ان يتملص المجرم من تلقي عقابه. كما يناقش بَكًر مسألة الانفاق العام الذي تتطلبه تلك الزيادة في كلفة الجريمة على المجرم، ويذكر ان دوائر العدل والقانون الحكومية التي تواجه نقصا مزمنا في مواردها أو تواجه فسادا اداريا في طواقمها ستلجأ الى تعظيم الغرامات وغض النظر عن امتلاك نظم السيطرة والمراقبة العالية التكنولوجيا.
وقد ذهب بَكَر في هذا المجال الى تناول المشكلة بتحليل شقيها ، التحليل الوضعي Positive الذي يتناول سلوك المجرم وقراراته وواقع الجريمة، والتحليل المعياري Normative الذي يتناول ما ينبغي ان يكون عليه التعامل مع المجرمين وفعالية وعدالة العقاب وما ينبغي ان تكون عليه القوانين المتداولة والسياسة العامة المثلى ازاء الجريمة.
الانتاج الأُسري Household Productionأو العائلي
بادئ ذي بدء، لابد ان نفرق بين الأسرة أو أهل البيت Household وبين العائلة Family. فالأسرة هي الوحدة الاقتصادية والاجتماعية التي لا يشترط ان يرتبط اعضاؤها بروابط الدم او الزواج. فقد تكون بين اعضائها روابط قربى أو صداقة أو لاتربطهم أي رابطة سوى السكن والعيش المشترك. أما العائلة فهي التي تتميز برابطة الدم الاولى والزواج. كان عمل بَكَر الرائد في تحليل دالة الانتاج الأسري Household Production Function رائدا في هذا المجال. فبموجب الموديل النيوكلاسيكي تسعى الاسرة لتعظيم منفعتها تبعا لثلاث محددات:
- دالة انتاج الاسرة بموجب معادلة المدخلات-المخرجات، حيث ترد المدخلات التي تأتي من السوق ومن المنزل كوالوقت الذي يصرف داخل الاسرة من اجل الانتاج. مثال على ذلك وجبات الاكل التي تعدها الاسرة والتي تتُنتج بمدخلات تشتريها الاسرة من السوق كاللحم والخضروات والرز والدهن وغيرها وتستخدم الخبرة والمهارة والاجهزة والتكنولوجيا المتوفرة كالطباخ والفرن ووقت التحضير والطبخ والوقت المستقطع من وقت واحد او اكثر من الاعضاء. المخرجات ستكون انتاج الاسرة المتمثلة بوجبة الطعام التي تستهلكها الاسرة ايضا. وبذلك فان مايجري داخل الاسرة من انتاج وتوزيع واستهلاك واستثمار وادخار يؤهل الاسرة ان تشبه نفسها بمصنع صغير فيه ادارة وعمال يمكن احتساب اجورهم بمثابة كلفة الفرصة opportunity cost وقد يشتركون في صنع القرارات الاقتصادية كالانفاق والادخار والاستثمار وغيرها. وهنا يعتبر بَكَر أحد ثلاثة اقتصاديين تنسب لهم صياغة نظرية الاستهلاك الجديدة The New Theory of Consumption أو مايسمى بنظرية انتاج الاسرة Theory of Household Production التي يشاركه فيها ريجرد مووث Richard Muth (1966) وكلفن لانكاستر Kelvin Lancaster (1966).
- ثاني المحددات هو تخصيص الوقت بين المطلوب منه لانتاج الاسرة وما مطلوب منه للعمل خارج الاسرة اضافة الى ماهو ضروري للنوم والنشاطات الاخرى كالراحة والاسترخاء والترفيه Leisure time.
- -وثالث المحددات هو الميزانية المالية التي تتطلب تساوي الانفاق مع الدخل المستحصل في سوق العمل.
اقتصاديات العائلة والمرأة والخصوبة Family Economics, Women, and Fertility
بدأ بَكَر دراسته في هذا المجال في مقالته المعنونة "حول الخصوبة" المنشورة عام 1960، وقد استفاد من دراسة صديقه جيكب منسر الرائدة حول عرض العمل النسوي المنشورة عام 1962. وتحمس اكثر فقام باستحداث وادارة السمنار الخاص باقتصاديات العائلة الذي شاركه فيه جيكب منسر في جامعة كولومبيا حيث سجل فيه وتخرج منه مئات الباحثين في قضايا العائلة سواء كانوا من طلبة الاقتصاد او الاجتماع والعلوم الاحرى. كتابه اللاحق كان عن تخصيص الوقت Allocation of Time عام 1965 والذي تطور واصبح فيما بعد موضوعا قائما بذاته ومن صلب اقتصاديات العائلة التي سيوسعها ويطورها بَكَر كثيرا في كتابه الشامل A Treatise on the Family المنشور عام 1981 والذي نقح واعيد طبعه عام 1991.
في هذا الكتاب تناول بَكَر تقسيم العمل بين الزوج والزوجة وافراد العائلة الآخرين وركز على اساسيات صنع القرار حول من ينجز هذا ومن ينجز ذاك، خاصة فيما يتعلق الموضوع بالعمل في السوق من اجل استحصال دخل العائلة والعمل في المنزل من اجل الانتاج العائلي. وقد لاحظ عمليا انه كلما ازداد معدل اجور العمل في السوق كلما شعرت المرأة بضرورة انتهاز الفرصة والانخراط في سوق العمل وتدبير اعمال المنزل بتعويضات اخرى كشراء الاجهزة المنزلية التي تخفف العبء وتختصر الوقت وشراء الاطعمة الجاهزة وتناول بعض الوجبات في المطاعم واستخدام مربيات الاطفال. وبذلك فقد اصبح واضحا ان دخول المرأة في سوق العمل سيعمل على رفع قيمة وقتها ويقلل من امكانيتها ورغبتها في انجاب الاطفال، مما سيترجم بمرور الزمن الى تقليل عدد الاطفال في العوائل التي تمارس نساؤها العمل خارج المنزل. وقد اثبتت البيانات الفعلية هذه العلاقة العكسية بين عدد الاطفال وبين عمل المرأة الخارجي ودخل العائلة. تشير الاحصاءات الاقتصادية في الدول المتقدمة الى انه مع ازدياد معدلات النمو الاقتصادي ومعدل دخل العائلة انخفضت معدلات الانجاب ورغبة العوائل في انجاب عدد كبير من الاطفال لكل عائلة. ومن هنا توسع بَكَر بدراسة ما اصبح في ذلك الوقت ولحد الان موضوعا مثيرا للجدل بسبب التوصيفات الاقتصادية، حيث كان الاقتصادي الاول الذي اعتبر الاطفال ناتجا للعائلة، يُنتج كما غيره بموجب دالة الانتاج العائلية ويُطلب كما تطلب السلع الاعتيادية Normal goods التي ترتبط بعلاقة طردية مع الدخل. أي ان الطلب يزداد عليها بازدياد الدخل ويقل بنقصان الدخل. وزيادة على ذلك فانها Durable goods بمعنى انها طويلة الاجل الاستهلاكي اي انها لاتعطي منافعها بشكل عابر ووقت قصير بل تمنحها بامتداد وقت طويل. الجدل الذي اثير كان من منطلق عاطفي غير متعلم يرفض مناقشة موضوع الاطفال بمنطق الانتاج والاستهلاك. ولو دققنا علميا في معاني المصطلحات لوجدنا ان الاستهلاك تعني استحصال المتعة من امتلاك او استخدام الاشياء، ولا شك في ان العائلة تنجب الاطفال من اجل ان تجعل الحياة ممتعة بهم وتربيهم وترعاهم وتسعى ان يكونوا بأحسن حال. واحسن الحال هذا يترجم الى مفهوم نوعية الاطفال Quality of Children التي تفسر بتعليمهم وتهذيبهم ونجاحهم في الحياة. وقد قاد هذا المنطق الى اكتشاف العلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعيتهم. ولا شك فان تربية ورعاية وتعليم وتهذيب الاطفال مهام مكلفة ماليا ومعنويا. وكلما تمكنت العائلة من الانفاق الاستثماري على اطفالها كلما صح توصيفهم بانهم ذوي جودة عالية. وعلى العكس من ذلك، فان العوائل ذات الدخل المحدود لا تتمكن من توفير رأس المال الاستثماري مهما رغبت في انتاج اطفال بنوعية عالية، خاصة في هذا الزمن الذي يتطلب انفاقا عاليا على توفير السكن اللائق ووسائل النقل وادامة الصحة الجيدة وتسديد فاتورات المدارس والجامعات وشراء الكتب والمستلزمات ووسائل التعليم والثقافة الالكترونية الغالية الثمن.
تناولت اقتصاديات العائلة مواضيع عديدة اخرى كقرارات الزواج والطلاق والتضحية والايثار والارث وغيرها. وكانت اغلب الجوانب النظرية يدعمها البحث التطبيقي الذي يسفر عن النتائج العملية. فمثلا ليس صدفة ان تبوح البيانات بتزامن ازدياد معدلات الطلاق مع زيادة فرص عمل المرأة خارج البيت وزيادة قيمة وقتها ودخلها وشعورها بامكانية استقلال قراراتها نحو مستقبلها.
نظرية الطفل السيء Rotten Kid Theorem
جاءت هذه النظرية في معرض توضيح الانتاج العائلي الذي تتظافر فيه الجهود التي تجمعها المحبة ويكون نبراسها المصلحة العامة للعائلة والتي قد يساعد مناخها الصحي على من يميل الى الشذوذ عن الهدف العام. تنص النظرية على انه اذا كانت العائلة تضم على الاقل عضوا واحدا يتسم بالتفاني والتضحية والايثار من اجل الهدف العائلي الجمعي فان ذلك سيؤثر ايجابيا على اي طفل او عضو آخر اناني او متكاسل او اتكالي فيجد له الحوافز التي تدفع به في طريق السعي الى تعظيم منفعة العائلة الكلية والعودة للانسجام مع اعضائها وهدفهم الجمعي.
تزوج بَكَر مرتين، الاولى عندما كان في الرابعة والعشرين، عام 1954 ورزق ببنتين. لكن زوجته توفت عام 1970، فانتظر عشر سنين ليتزوج مرة اخرى عام 1980 وهو في الخمسين. كان اقتصاديا محافظا عبر بصراحة عن افكاره التقليدية المحافظة كالميل لتقليص حجم الحكومة ومهامها، وجعل الانتماء للقوات المسلحة بموجب التطوع الاختياري، وتفضيل كوبونات التعليم ليتسنى للعائلة اختيار مدارس اطفالها بدلا من التعليم العام الشامل، وتفضيل قوانين صارمة ضد الجريمة والاستثمار في الوسائل الفعالة لتطبيق العقاب، وجعل سوق المخدرات قانوني ومفتوح ، والتساهل مع فرض الحد الادنى لاجور العمل.
مؤلفاته الرئيسية:
- An economic analysis of fertility (1960). Demographic and economic change in developed countries
- Investment in human capital: A theoretical analysis (1962). Journal of political economy. 70 ,5
- A Theory of the Allocation of Time (1965). The economic journal 75, 299
- Crime and punishment: An economic approach (1968). Journal of political economy, 76,2
- A theory of marriage: Part I (1973). Journal of Political economy, 81,4.
- On the interaction between the quantity and quality of children (1973). Journal of political Economy, 81,2
- Law enforcement, malfeasance, and compensation of enforcers (1974). The Journal of Legal Studies 3, 1
- A theory of social interactions (1974). Journal of political economy, 82,6
- A treatise on the family (1981), (1991). Harvard university press
- Human capital, effort, and the sexual division of labor (1985). Journal of labor economics, 3, 1
- Human capital and the rise and fall of families (1986). Journal of labor economics 4, 3
- Human capital, fertility, and economic growth (1990). Becker, Murphy, and Tamura. Journal of political economy, 98,5
- Human capital: A theoretical and empirical analysis, with special reference to education (2009). University of Chicago press
- The economics of discrimination (2010). University of Chicago press
***
ا. د. مصدق الحبيب