شهادات ومذكرات
الرفاعي وهلع الكتابة
تمثل جهود د. عبد الجبار الرفاعي امتداداً لحركة تجديد الفكر الديني والكلامي، وهو بذلك ينتمي إلى سلالة المفكرين والفلاسفة المسلمين الأوائل في المشرق والمغرب أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، أولئك الذين عملوا على التوفيق بين الوحي والعقل بما يخدم الشريعة الإسلامية ويعزز مفاهيمها الغيبية بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية، مثلما ينتسب إلى حركة التنوير والتجديد الديني التي بلغت ذروتها نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على عهد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد إقبال، وصولاً إلى حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد من المعاصرين، وقبلهم بما يقرب من أربعة قرون صدر الدين الشيرازي المتوفي عام 1640 للميلاد.
لستُ هنا بصدد عرض الجهود العلمية للرفاعي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وسعيه لنشر البحوث التي تصب في هذا الميدان لمفكرين وباحثين إسلاميين من شتى المذاهب والنحل، فتلك مهمة تحتاج إلى جهد مضاعف وصفحات طويلة لا يمكن أن تُختزل بعمود صحفي محدود المساحة، لكني اكتفي بالإشارة إلى ما لمسته من اقبال كبير على اقتناء كتبه حتى أن أغلبها نفد تماماً من جناح مكتبة الرافدين في معرض الكتاب الأخير، وهي المكتبة التي تولت طباعة ونشر وتوزيع سلسلة كتبه: "الدّين والنزعة الإنسانية" و "الدّين والظّمأ الأنطولوجي" و "الدّين والاغتراب الميتافيزيقي" و "الدّين والكرامة الإنسانية" و "مقدمة في علم الكلام الجديد"، وذلك عكس ما هو شائع من صعوبة ترويج مثل هذا النوع من الكتب وثقل بيعها في المكتبات ودور النشر، وفي ذلك يكمن سر من أسرار تفرد الرفاعي، وبلاغته اللغوية، وثقافته الموسوعية، واسلوبه السهل الممتنع، وفكره المتحرر من قيود الدوغمائية والصيغ الجامدة في عرض المشكلات العويصة في الفلسفة والدين وعلم الكلام، ولذلك فإن مؤلفاته لا تحظى باهتمام ومتابعة المتخصصين والأكاديميين فحسب، إنما تلقى رواجاً بين عموم القراء المتعطشين للمعرفة الرصينة والفكر المستنير خصوصاً وأن كتب الرفاعي تمثله شخصياً، وأن أسلوبه غير مُفتعل ولا مُقحم على شخصيته، انما هو نابع من جوهرها وفق القول الأثير للكاتب الفرنسي التنويري جورج بوفون "الأسلوب هو الرجل"، أو هو «الإنسان» عموماً رجلاً كان أم امرأة، فضلاً عن روح المعاصرة التي يعتمدها في تفكيك وتفسير وترميز النصوص القديمة، والعمل على احيائها من جديد وكأنها قيلت لعصرنا هذا، ولمشكلاته وتحدياته وقضاياه وأزماته الروحية والنفسية والمادية، وفضيلته فوق ذلك كله أنه مفكر مؤمن بعمق، يستخدم الشك أداة للوصول إلى الحقيقة على طريقة ديكارت ومن قبله الغزّالي صاحب المقولة الشهيرة "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال" لذلك فهو من الثائرين على مقولات الكلام الاعتقادية القديمة التي "لا تورثُ الروحَ سكينتها، ولا القلبَ طمأنينَته، ولا تكرّسُ التراحمَ والمحبّة".
ولأن التواضع صفة أخلاقية من صفات العلماء، فإن الرفاعي عبد الجبار على كل ما أنجزه من بحوث ومقارنات وكتب ومحاضرات ومناظرات وندوات وجلسات ومؤتمرات وتعقيبات ونَشرٍ في الصحف والمجلات على مدى ما يقارب من نصف قرن، فإنه مازال يتهيب من الكتابة في معانيها السامية المستمدة من سمو الكلمة: "أشعر بالغثيان من الإسراف المبتذل بكتابة رثة لا تنتمي إلى الكتابة. منذ بدأتُ الكتابة قبل 45 عاماً مازلت أتهيّب الكتابة، ففي كل مرة أقرر أن أكتب أحاول الهروب، وغالباً ألتمس الأعذار بانشغالي، وندرة ما يتوافر لدي من وقت فائض أخصصه للكتابة، وربما هربت إلى حيل نفسية، تنقذني من مأزق "هلع الكتابة". كنتُ أحسب أني مصاب بشلل في الإرادة، وأني أنفرد بذلك، غير أني اكتشفت أن معظم الكتاب الجادين يعانون من ذلك، ولعل من أعنف توصيفات لوجع الكتابة ما تحدثتْ عنه الأديبة آني إيرنو، بأن "الكتابة كخنجر". يكتب الرفاعي ذلك ويعرف حق المعرفة أن خنجر الكتابة الذي يمزق أحشاء الكُّتاب في الغرب، ويتغلغل بين ضلوعهم، هو غير خنجر الكتابة المسموم في الشرق الذي لا ينجو منه مفكر ولا فيلسوف ولا كاتب ولا أديب ولا باحث تنويري ولا ثائر، من صلب الحلّاج إلى نكبة ابن رشد، وصولاً إلى طعنات نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة، والتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، ومحاكم تفتيش القرن الحادي والعشرين! ولا عجب أن يكتب الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكلدان الكاثوليك بعد قراءته لكتاب "الدّين والظمأ الأنطولوجي": أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب كلُّ رجل دين مسلم ومسيحي، حتى تكون له شجاعة الأنبياء في تبليغ الناس رسالة الإيمان.
ورسالة الرفاعي هي المحبة والإيمان لا أكثر، في مواجهة طغيان الإنسان وجبروته وقسوته وخروجه عن الفطرة السليمة والنواميس الإلهية، مقتفياً في ذلك قول جلال الدين الرومي: "توضأ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بقلبٍ حاقدٍ لا تجوز".
***
د. طه جزّاع
باحث وأكاديمي عراقي، أستاذ للفلسفة بكلية الآداب في جامعة بغداد.