أوركسترا
فيكتوريا سونج: لا مكان للذكاء الاصطناعي في كتابة اليوميات

بقلم: فيكتوريا سونج
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
في يوليو 2023، حذفتُ تطبيق كتابة اليوميات Day One من هاتفي وحاسوبي المحمول. ولعلها كانت أفضل خطوة قمت بها بوصفي شخصاً يدوّن يومياته طوال حياته.
جاء قراري مدفوعاً بإعلان آبل عن تطبيقها Journal في مؤتمر WWDC ذلك العام. ففي الكلمة الرئيسية، قالت آبل إنها ستستخدم "التعلّم الآلي على الجهاز" لتقديم موجّهات تعتمد على المحتوى الموجود في هاتفك الآيفون — مثل جهات الاتصال، والصور، والموسيقى، والتمارين الرياضية، والبودكاست، وبيانات الموقع. وقد منحني ذلك شعوراً بالنفور.
وذلك أساساً لأن التطبيق وُصف بأنه تطوير لفكرة ميزة Memories في تطبيق الصور، التي كانت قد أعادت إليّ "بذكاء" في وقت سابق صورة لنعش والدتي المفتوح.
راودتني ذكريات ذلك الموقف الأسبوع الماضي عندما شاهدت عرضاً تجريبياً لرؤية جوجل في تطبيقها الجديد : جورنال/ Journal، إلا أن تطبيق جوجل يميل أكثر إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مقارنة بإصدار آبل. فإلى جانب الموجّهات التي يقترحها الذكاء الاصطناعي للكتابة، يقوم الذكاء الاصطناعي الكامن في الجهاز أيضاً بتقديم ملخصات لمداخلاتك. وهناك كذلك عرض تقويمي صغير يضع رمزاً تعبيرياً يشير إلى حالتك المزاجية بناءً على ما كتبته في يومياتك ذلك اليوم.
في العرض التجريبي، أخبرني جوجل أن الفكرة هي جعل كتابة اليوميات أسهل — بالطريقة نفسها التي يسهّل بها تطبيق Gemini مهام الكتابة الأخرى، مثل رسائل البريد الإلكتروني وملخصات المستندات. فقيل لي إنك أحياناً قد لا تعرف عمّا تكتب في يومياتك. كما أن العودة إلى ما دوّنته قد تكون صعبة. والغرض من Gemini هنا هو أن يجعل الحياة أكثر راحة وفائدة قليلا .
"هذا جميل، لكن كتابة اليوميات لا يُفترض بها أن تكون سهلة أو مريحة. اسأل أي كاتب: الصفحة البيضاء خُلقت لتصارعها. وفي كتابة اليوميات، الموجهان الوحيدان اللذان تحتاجهما هما: 'ماذا حدث اليوم؟' و 'كيف أشعر حياله؟'."
إنه سؤال يبدو بسيطاً على نحوٍ مخادع . ففي بعض الأيام، يكون ما تكتب عنه واضحًا تمامًا مأساة كبرى، مناسبة سعيدة، حدث كنت تنتظره — أي شيء يثير عاطفة قوية يصلح أن يكون دافعاً مباشراً للكتابة. لكن معظم الأيام تمرّ بلا أحداث تُذكر، ما يجبرك على التنقيب في تفاصيل رتيبة للعثور على شيء يستحق التدوين. وهذا هو الهدف بالضبط: صقل قدرتك على التمييز، تمرين عقلك، وإجهاد قاموسك الداخلي بحثاً عن العبارة المناسبة للتعبير عن عالمك الباطني. هذه ليست أشياء يُفترض أن تكون سهلة.
هناك اقتباس في كتاب أربعة آلاف أسبوع: إدارة الوقت للبشر الفانين يلخّص الأمر بالنسبة لي: "المغزى ليس في الفكرة ذاتها، بل في الجهد — أي في المشقة. فعندما تجعل العملية أكثر راحة، فإنك تستنزف معناها."
أنا لا أتفق دائماً مع المؤلف أوليفر بوركمان في هذا. فأنا لا أجد أي معنى في العناء المبذول في غسل الأطباق يدوياً، وأنا ممتنة إلى الأبد لمخترع غسالة الصحون. لكن فيما يتعلق بسعي شركات التكنولوجيا الكبرى الذي لا ينتهي لتبسيط الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي، فأنا أتفق تماماً أن المعاناة هي التي تمنح العملية قيمتها الحقيقية.
يُذكّرني ذلك بالإعلان المثير للجدل من جوجل عن Gemini، الذي يظهر فيه أب يستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة رسالة إعجاب مثالية للعدّاءة الأولمبية سيدني ماكلوفلين-ليفرون، لكنه ينتهي بنص باهت بلا روح. هناك أيضاً بدا أن جوجل قد نسي أن جهد كتابة الرسالة بنفسك، وأن تضع ذاتك فيها، هو ما يجعل رسائل الإعجاب صادقة وذات معنى.
لقد وجدتُ أن جعل كتابة اليوميات “غير مريحة” قدر الإمكان يعود عليّ بفوائد كبيرة. فبعد أن حذفت تطبيق "Day One"، عدتُ إلى الكتابة في دفتر ورقي، وقد أدى ذلك إلى تحسّن ملحوظ في صحتي النفسية، وتفكيري النقدي، وإدارتي للوقت، وذاكرتي. أظهرت دراسات عديدة أن الكتابة باليد أفضل للاحتفاظ بالمعلومات والتعلّم مقارنة بالكتابة على لوحة المفاتيح. والكثير من ذلك يعود إلى كونها عملية غير مريحة: يدك تتشنج بسرعة أكبر عند الكتابة بالقلم، والحبر يصعب محوه، وفي حالتي، عقلي يفكر أسرع مما تتحرك به يدي. هذه القيود تجبرني على تحديد ما يستحق التدوين، وتدفعني للجلوس مع أفكاري بطريقة أكثر قصدية. وهذا يعني أنه حين أرغب في العودة إلى الوراء، عليّ أن أتذكر متى وقعت الأمور بدقة لأنه لا توجد خانة للبحث. ما لم تكن هناك أسباب تتعلق بإمكانية الوصول (وفي تلك الحالة قد يكون جهاز تسجيل الصوت بديلاً جيداً)، أرى أن كل من يهتم بكتابة اليوميات ينبغي أن يعود إلى التدوين الورقي.
تمنحك العودة إلى التدوين الورقي خصوصية أيضاً. فالكتابة في اليوميات ليست في الغالب عن التفاصيل الصغيرة في الحياة. (مع أن لا أحد سيمنعك من كتابة قصيدة مديح عن ذلك الشاي الفقاعي الذي غيّر حياتك أثناء الغداء). كثير من الناس يكتبون يومياتهم لمواجهة المشاعر الكبرى: الانفصال، والموت، والقلق، والسأم، ومحاولة العثور على بهجة في حياة محدودة، قاسية، وغير عادلة. هذه أمور شخصية لا يُفترض أن يراها أحد غير الكاتب نفسه. لا يهم ما إذا كان جوجل يقول إن تطبيق "Journal" يعمل بالكامل على الجهاز، ويمكن قفله وحذفه، فكل ما يتصل بالإنترنت لا يبدو يومًا ملكًا خالصًا لك.
أما الملخص الذي يولّده الذكاء الاصطناعي ليعطيك أهم النقاط المستخلصة من تدويناتك فهو في جوهره معيب. فمن المفترض أن تقلّب الصفحات بنفسك، وأن تُنقّب وسط الجمل المبعثرة عن ومضات المعنى. ومن المفترض أن تتذكر الشخص الذي كنت عليه ذات يوم، وأن تتأمل في من أنت الآن. الفكرة أن يكون الأمر أشبه بالعثور على رسالة في زجاجة، أو ورقة نقدية من فئة عشرين دولاراً في جيب معطف قديم. وأشك كثيراً أن قراءة ملخص من إنتاج الذكاء الاصطناعي لمقطع من يومياتي قد تمنحني الإحساس نفسه.
بينما كنت أكتب هذه السطور، ظللت أسترجع صيف عام 2009. آنذاك، وبعد صدمتي العاطفية الحقيقية الأولى مباشرة، ملأتُ دفتر يومياتي الورقي بصفحات غارقة في الدموع، وحبر متلطخ، وقصائد ركيكة إلى حدٍّ لا تجرؤ حتى أكثر فتيات "تَمبلر" كآبة على الاعتراف بكتابتها. وعندما كنت أعجز عن النوم أو الطعام، كنت أشغّل ألبوم أديل 21 بأعلى صوت ممكن، وأكتب كل ذرة من شك في نفسي، ونفور، ورفض، وحنين، وغضب، وخيانة، وحزن مدركة أن كل حب لا يمكن أن يدوم إلى الأبد.
بعد ستة أشهر من ملء ذلك الدفتر بأكمله، جلست لأقرأ كل صفحة فيه. كان التعريف الدقيق لـتلك التجربة هو "الإحراج"، لكن هذه القراءة الطويلة جعلتني أرى بوضوح كيف ضعت في علاقة استنفدت أغراضها وانتهى زمنها. وقد ساعدني ذلك على أن أسامح ولا ألتفت إلى الوراءً. وعندما انتهيت، أحرقت الدفتر بولاعة سجائر قديمة فوق سطح شقتي الجديدة البائسة. وأنا أراقب الصفحات وهي تتحول من برتقالية إلى سوداء، لم أشعر في حياتي الشابة بحرية أعظم من تلك اللحظة. أما مجرد حذف تطبيق يوميات يعمل بالذكاء الاصطناعي، فلن يمنحني أبداً مثل هذا التطهّر.
***
.......................