أوركسترا
عدنان حسين أحمد: الدكتور حمّودي.. الهروب من القمع والاستبداد إلى فسحة الأمل وفضاء الحرية
يتكئ فيلم "الدكتور حمّودي" للمخرج هادي ماهود على سؤال منطقي يدور في خَلَد الراوي العليم مفاده:"هل يستحق الوصول إلى أستراليا كل هذا العناء والمجازفة؟". فثمة مراكب صغيرة تغرق، وأناس من مختلف الأعمار والجنسيات يلقون حتفهم، وأحلام وردية وكبيرة تُقبَر قبل أن تجد طريقها إلى التحقّق.
تشكّل هذه التوطئة مَدخلاً مُوفقًا لأحداث هذا الفيلم الاستقصائي الذي يقوم على البوح والمكاشفة واستعادة الماضي القريب. يتمحور الفيلم على شخصية الدكتور حمّودي نشمي فيما تؤازره ست شخصيات ثانوية أبرزها الدكتور ستيفن ناپولي، والدكتور پيتر جوينر، والأركيولولوجي عبد الأمير الحمداني وثلاث شخصيات أخرى سنأتي على ذكرها عند الحديث عن قصه الفيلم التي تنمو وتتطور دراميًا على مدى 17 دقيقة.
قبل الخوض في تفاصيل الثيمة الرئيسة وتشعباتها لابد من الإشارة إلى أن هذا الفيلم قد صُور في أماكن عديدة من بينها أهوار الجبايش، ومدينة أور الأثرية، والناصرية، والسماوة، وسيدني، ومدينة (مَنم) التي تقع في جنوب أستراليا. أما زمن الفيلم فيعود إلى تسعينات القرن الماضي وتحديدًا إلى سنة 1991م التي غزا فيها صدام حسين دولة الكويت الشقيقة ووضع العراق برمته على كف عفريت. وإذا كان الوصول إلى أستراليا يستحق كل هذا العناء والمحازفة أم لا هو السؤال المهيمن على مدار الفيلم فإن الثيمة الرئيسة تتمحور على شخصية الدكتور حمودي نشمي الذي هرب من العراق في تسعينات القرن الماضي والتجأ إلى أستراليا عبر رحلة محفوفة بالمخاطر على متن يقارب يحمل في جوفه 360 لاجئًا يحلمون بالوصول إلى أستراليا التي توفر لهم الملاذ الآمن، والحرية المنشودة، والعيش الكريم.
تنطلق الأحداث من ذي قار أو (الناصرية)، المدينة العتيقة التي تزخر بالآثار الشاخصة والمدفونة حيث تعيّن الدكتور حمودي في كانون الأول 1996م طبيبًا عسكريًا في هذه المدينة الجميلة التي كانت تخضع للقبضة الحديدية لسلطة النظام الدكتاتوري السابق ولكن بعد أن غزت قوات الحرس الجمهوري لصدام حسين دولة الكويت عام 1991م ارتخت هذه القبضة وكان حجم الدمار الذي لحق بالعراق لا يُصدق. كان الدكتور حمودي خائفًا ومرعوبًا في تلك المنطقة الجميلة التي تعتبر ملاذًا لكل المعارضين والمناوئين لنظام صدّام حسين الذين حاولوا إنقاذ البلاد الأسيرة والمقموعة من قبضته لأنه كان عازمًا على تدميرها والقضاء عليها بشكل كامل. وقد اختار الراوي هذه المنطقة لأن تكون نقطة البداية لرحلته الطويلة المحفوفة بالمخاطر والهروب من الظلم والقمع والحروب المتواصلة. لقد اصطحبه المهرّب على متن زورق صغير يسمى بالمحكية العراقية بـ "المشحوف" لم تكن الرحلة سهلة أو يسيرة كما يقوم بها الآن في إعادة التمثيل فهم هادئون ومسترخون تمامًا حيث لا تتواجد أجهزة أمن صدّام ويغيب الحرس الذي يضطرك لأن تسير مختبئًا من مكان إلى آخر. ففي الظروف الطبيعية يحتاج الهارب أو المتسلل إلى بضعة ساعات لكي يقطع المسافة لكن رحلته المروّعة استغرقت ثمانية أيام لعبور الحدود العراقية والوصول إلى الجانب الإيراني.
روح المكان وعصبه النابض
يتلاقح المخرج مع ثلاث أغنيات لمطربين عراقيين مشهورين وهي "يمّه يا يمّه" لداخل حسن، و "للناصرية" لحسين نعمة، و "المگيّر" لياس خضر وهؤلاء المطربون يمثلون روح المكان وعصبه الفني النابض. ومع أنّ غالبية أفلام المخرج هادي ماهود جميلة وحادّة نقديًا وتترك أثرًا طيبًا لدى المتلقي إلاّ أنّ أفلامه المنجزة في أوروپا أو أستراليا أو في الطريق إليها، أو التي تزاوج ما بين الفضاءين العراقي والأسترالي هي الأكثر شدًا للمتلقي وجذبًا له من الأفلام التي تجري أحداثها في بلد واحد. ولعل التقاطاته الذكية وموضوعاته الشائقة وتسليطه الضوء على الآخر سواء أكان أوروپيًا أم عراقيًا يعيش في أوروپا أو أستراليا هي التي تمنح أفلامه ومعالجاته الفنية بُعدًا إضافيًا يُخرجها من إطارها المحلي ويضعها في السياق الاجتماعي الهجين الذي يخز المتلقي ويستنفز حواسه الست إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الحاسة السادسة هي "الحدْس" أو توقع الأشياء قبل حدوثها. وفي هذه المرة يأخذنا هادي ماهود إلى مدينة "مَنم" Mannum في جنوب أستراليا حيث انتقل الدكتور حمودي في أوائل سنة 2008م كجزء من عملية التدريب ليكون طبيب أرياف وطبيب عائلة في الوقت ذاته. ويوضّح الدكتور حمودي بأنه ما إن نزل في اليوم الأول إلى هذه المدينة وشاهد النهر حتى وقع في غرامها لأنه يحب الأنهار ولديه ارتباط وثيق مثل غالبية العراقيين بالأنهار، فالعراق هو بلد ما بين النهرين كما أن هناك العشرات من الأنهار والجداول الصغيرة المبثوثة على خارطة العراق الكبيرة.
نتعرّف في هذا الفيلم على وجهات نظر طبيبين أستراليين أولهما الدكتور ستيفن ناپولي الذي قال:"أنا أعرف الدكتور حمودي منذ عشر سنوات، وأنا معجب حقيقة بشغفه بالناس، وحبّه لعائلته، وهو طبيب رائع في العمل، ومهتم بالمجتمع أيضًا".وثانيهما هو الدكتور پيتر جوينر الذي عبّر عن رأيه بصراحة وقال:"نحن رحّبنا به لأننا متعودون على عيادة فيها كل الأعراق، وأطباء من مختلف البلدان، وهو طبيب متحمّس وماهر جدًا ويستمتع بطب الطوارئ وهو المعروف بمهارته وتحمّسه وقابليته على تحمّل العمل المضني وقد ساعدنا كثيرًا خلال السنوات الأخيرة، ونتمنى أن يبقى لسنوات طويلة قادمة".
أمّا ردّ فعل الدكتور حمودي على هذه الآراء الإيجابية المشجّعة فتتمثل بقبوله لهذه الوظيفة لأنه شعر بترحيب عالٍ من قبل زملائه في العمل والقبول الحسن من قبل مجتمع المدينة التي قرر البقاء فيها بعد أن أمضى عشر سنوات من العمل الدؤوب سواء في المستشفى أو في العيادة. يشيد الدكتور ناپولي باندماج الدكتور حمودي معهم ومع المجتمع الجديد بشكل رائع وأعرب عن سعادته بهذه العلاقة معه ومع عائلته وهو يعرف جيدًا أطفاله الذين ترعرعوا في "منم" ويعرف زوجته دنيا، وسمع بما مرّ به من ظروف قاسية خلال رحلة هروبه من العراق حتى وصوله إلى أستراليا وكان يشعر بالأسى والألم كلما تذكر هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر لكنها لم تُضعف من عزيمته القوية، ولم تؤثر عليه، ولم تمنعه من تحقيق أهدافه في الحياة، وهو يقوم بعمله بكفاءة، ويقدّم خدماته للمجتمع ولمرضاه بشكل رائع.
لا يفوّت الدكتور حمّودي فرصة للحديث عن جمالية الحياة الاجتماعية لمدينة الناصرية حيث يجلس الرجال في المقاهي الشعبية التقليدية ويحتسون الشاي، وثمة مطعم يديره رجل ضرير يقدّم كبابًا شهيًا ولذيذًا ويعّد النقود باللمس فقط لأنه لا يرى شيئًا على الإطلاق. يشقُّ نهر الفرات مدينة الناصرية إلى شطرين شرقي وغربي. ولعل أجمل شيء هو المشي أو التنزّه على ضفتيّ النهر. الناصرية هي المدينة الضاربة في عمق التاريخ العراقي ويُعتقد أنّ ابراهيم الخليل قد بدأ رحلته من أور التي تقع في الجزء الجنوبي من المدينة.
يوضح الدكتور عبد الأمير الحمداني وهو متخصص بعلم الآثار ووزير سابق لوزارة السياحة والثقافة والآثار بأنّ أور قد أصبحت مدينة قبل 2500 سنةق.م، وأور تعني المُستقر وهي معروفة بالموسيقى والتاريخ والتشريعات. أمّا معنى الزقورة فهو مشتق من الفعل الأكدي "زيقارو" الذي يعني المكان المرتفع حيث تصل الزقورة إلى ارتفاع 47 مترًا عن سطح الأرض.
لا تقتصر الثقافة والمعرفة على حملة الشهادات العليا فـ "ضايف محسن" حارس المدينة القديمة يقول:"إنّ العراق ليس بلد الكتابة فقط، وإنما هم يفهمون بعلم الفلك، والصناعة، وسنّوا القوانين، وصنعوا العجلة، ووضعوا التشريعات"، ثم يستفيض في الحديث عن الزقورة ويؤكد بأنّ أحد الأبواب يحتوي على قوس يعتبر أقدم قوس معروف من نوعه. ويعتقد ضايف أنّ الزقورة لها اسم ثانٍ وهو "المگيّر"، وهي التسمية المحلية التي أطلقها أبناء العشائر القريبة، وسبب تسميتها بـ "المگيّر" لأنّ المادة الرابطة للطابوق هي القير. وأغنية "المگيّر" كتبها شاعر من الناصرية وغنّاها الفنان ياس خضر ويقول في أحد أبياتها:"وأردْ للناصرية إردود مخنوگ بألف عَبرة".
قوارب الموت تصارع أمواج البحر العاتية
يروي الدكتور حمودي بأنّ الحياة كانت مرعبة في العراق بعد الحرب وسنوات الحصار ثم غزو الكويت ومع ذلك فقد استطاع الوصول إلى أستراليا بعد تجربة مروّعة لا يمكن تخيلها في قارب يصارع أمواج البحر. وقد سمع الدكتور حمودي وزيرَ الهجرة الأسترالية وهو يتحدث عن اللاجئين ويقول بما معناه "أنّ اللاجئين ليس لديهم تعليمًا جيدًا أو غير متعلّمين" وهذا الكلام غير صحيح لأنه يتذكر جيدًا أنه كان في قارب يضم 360 طالب لجوء كان بينهم ستة أطباء ويورد مثالاً لواحد من زملائه في المُحتجَز اسمه منجد المدرس قد وضع في ذلك الوقت تحت طائلة المراقبة والاستجواب وسئل أكثر من مرة عن سلوكه حتى أنهم سجنوه لفترة وأعتقدوا أنه متمرد لأنه لم ينسجم مع معاملتهم اللاإنسانية وفي النهاية أثبت لهم أنه الأفضل وأصبح رائدًا في جراحة العظام والكسور في أستراليا.
يعترف منجد المدرس بحبه للبحر والماء لذلك اقتنى هذا القارب في سدني لكن تجربته في اللجوء إلى أستراليا في قارب صغير مثقوب كانت تجربة مرعبة وخطيرة جدًا. وكان البحر هائجًا جدًا والسماء تمطر بشكل متواصل والأمواج عالية جدًا بحيث يصل ارتفاعها إلى 20 مترًا، وكان طالبو اللجوء خائفين ويتقيئون في كل مكان حتى اعتقد الجميع بأنهم لن يصلوا أحياءً إلى هدفهم. ولو تسأل منجد المدرس:"هل ستفعلها مجددًا لو عدت مرة أخرى لنفس الأوضاع السابقة؟" فجوابه سيكون: نعم، لأنه ليس لديه خيار آخر.
لم تكن شخصية الدكتور حمّودي اجتماعية فقط فهو إنسان حميمي مُحب للحيوانات أيضًا وحينما قدِم إلى "مَنم" اشترى مزرعة صغيرة وربّى فيها عددًا من النعاج وحيوان اللاما ومعزى واحدة، كما بدأ يكتب قصصًا أسبوعية عن حيواناته يوثّق فيها سلوك الحيوانات ويعززها بثيمة سياسية حتى أنه أعطى حيواناته أسماءً وشخصياتٍ مميزة وقد بلغ عدد القصص التي كتبها حتى الآن أكثر من عشرين قصة قصيرة. ويستطيع القرّاء الربط بين سلوك حيواناته وأشخاص من الطبقة السياسية العامة. يكتب الدكتور حمودي هذه القصص عادة حينما يشعر بالاسترخاء بعد نهاية يوم عمل حيث يتناول عشاءه وقبل مغيب الشمس يشرع في الكتابة ويصف سلوك حيواناته الذي لا يختلف كثيرًا عن السلوك البشري.
بالإضافة إلى شخصيتيّ د. ستيفن ناپولي و د. پيتر جوينر يقدّم لنا المخرج أحد المتحدثين شخصية الشاعر الأسترالي بروس داو وهو يخاطب الدكتور حمّودي قائلاً:"كان بودي أن أعرّفك على شاعر أسترالي وقف مع التجربة السياسية في العراق اسمه بروس داو وكتبه غالية الثمن جدًا لكنه أصدر طبعة شعبية كما يفعل الشعراء غير المعروفين حتى يستطيع الناس الناس شراءها ويذهب ريعها للمنظمات الإنسانية". إن مجرد ذكر اسم الشاعر الأسترالي بروس داو سيدفع المتلقي للبحث عن هذا الشاعر ومعرفة مجموعاته الشعرية والكتب النقدية التي كُتبت عن تجربته الشعرية خاصة وأنّ بعض النقّاد يعتيرونه " أحد أكثر الشعراء الأستراليين تأثيرًا على الإطلاق". وقد نال العديد من الجوائز والتكريمات وبيعت من مجموعته الشعرية الموسومة "السعادة أحيانًا" أكثر من 100.000 نسخة في عدة طبعات كما تشير الوكيبيديا. ومن أبرز مجموعاته الشعرية العشرين "العين بالسن" و "نحو شروق الشمس" و "هذا الجانب من الصمت" و "النقاط العمياء".
يختم هادي ماهود فيلمه بنفس السؤال الذي أثاره في مُستهل الفيلم مع تغيير طفيف مفاده:"هل يستحق العيش في أستراليا كل هذا العناء والمجازفة؟" ويأتي الجواب الجازم:"نعم، قطعًا" لتكتمل الرحلة التي انطلقت من أهوار الجنوب إلى مضارب مدينة "مَنم" الأسترالية.
وفي الختام لابدّ من الإشارة أنّ هادي ماهود من مواليد السماوة 1960م، وقد تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، وأخرج عددًا من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة، من بينها:"بائع الطيور، الساعة 1800، الغريق، جنون، تراتيل سومرية، عُرس مندائي، عاشوراء، سندباديون، العراق موطني، ليالي هبوط الغجر، سائق الإسعاف، العربانة، انهيار، سوق سفوان، في دائرة الأمن، مراثي السماوة، والدكتور حمّودي" وقد حصل على عدد من الجوائز المحلية والعالمية. كما أصدر سنة 2022م أول كتاب سينمائي له يحمل عنوان "الفيلم الوثائقي العراقي والهُوية الوطنية"، وسوف يصدر له كتاب يحمل عنوان "أفلامي" وفيه توثيق شامل لكل الدراسات النقدية التي كُتبت عن أفلامه، والرسائل التي كتبها لبعض المسؤولين وأصدقاء المهنة من الأدباء والفنانين، والمقابلات الشخصية التي أُجريت معه منذ تخرجه وحتى الآن.
***
عدنان حسين أحمد