أوركسترا
حكاية القهوة والمقاهي في إسبانيا
ترجمة وإعداد: ليلى فاضل حسن
عرف شرب القهوة لأول مرة في موانئ أوربا ويعتبر المشروب الأقدم والأكثر شيوعا في الممالك والمقاطعات. سميت في اسبانيا في أول ظهورها باسم (حفنة ابن سينا) لأنها ذكرت في مؤلفاته باسم (بن جوم) وتم تحويرها إلى (بنجون) ومعناها حفنة باللغة الاسبانية. كما ورد ذكرها في كتاب (المنصور) للعالم أبو بكر الرازي في فصل (الروائح)عندما وصفها بأنها بذور جلبت من اليمن.
والقهوة تعتبر اكتشافا مهما جلبها العرب معهم إلى الأندلس في حرب الفتوحات الإسلامية وانتقلت منهم إلى المسيحيين في حروب الاسترداد إلى جانب أمور كثيرة لكنها اختفت من الذاكرة الجماعية أو من ذاكرة العلماء والنبلاء فالتاريخ سجل البن بسبب قيام المنصور ملك قرطبة بتعريفها لمن يجهلها وهو الذي ولد سنة 938 في قادش وتوفي في صوريا سنة 1002.
يخبرنا الطبيب انطونيو لابيندان وهو من مواليد بلد الوليد في القرن الثامن عشر والذي عمل مترجما للمواضيع الطبية من العربية إلى الاسبانية " ان هذا المشروب كان يباع في المحلات العامة في المدن المزدحمة كما في مدريد وقادش وبرشلونه وأماكن أخرى، وهذه المعلومة جعلتنا على يقين بوجود مقاهي على الطرقات في اسبانيا في القرن التاسع عشر والجديد في الموضوع إن القهوة كان يتم تناولها بمثابة دواء لعلاج الآم الجسم البشري حسب ما تذكره المصادر الطبية في تلك الحقبة.
وذكر الكاتب المسرحي خوزيه كادالسو القهوة في مسرحيته (رسائل مغربية) التي كتبها بين عامي 1741-1782، كما في النص التالي" توقظها الخادمات من نومها، يصففون شعرها بأناقة ويلبسوها، وتتناول القهوة في أواني جلبت من الصين إلى لندن ". وكتب في عمله (حوليات في خمسة أيام) يسخر فيها من حياة رجل يعيش في مدريد ويقبع في منزله وبعد الطعام يتناول القهوة في فنجان منفصل.
كيف نشأت المقاهي؟
المقاهي في اسبانيا وجدت من تحديث وتطوير محلات بيع الخمور، وهذه الفكرة اشتقت من فرنسا التي اتبعت إيديولوجية سياسية لتغيير إطار سلوك المجتمعات الأوربية على شاكلة أثينا في الجلوس بنفس طريقة المنتديات العامة في جميع المدن. يقول مؤرخ المقاهي في اسبانيا رامون دي لا سيرنا "ان الجلوس في المقاهي العامة يبدو مثل الجلوس على رصيف الحياة". أما بنيتو بايلس وهو من مواليد برشلونة عاش في الفترة ما بين 1730-1797، وهو مهندس معماري ومختص بالرياضيات فقام بتعريف أوائل المقاهي بقوله "نوع من الخمارات، حيث يتجمع الناس لتناول القهوة، ثم تطورت بعد ذلك وبدأت بعرض عصائر الماء بالليمون ومرطبات الحليب، وغيرها".
وتحدث انطونيو بونث (1725-1792) في كتابه (رحلة الى اسبانيا) عن مدينة قادش قائلا" في شارع اربولي كان هناك مسرح للأوبرا الايطالية يسمى كامورا حيث يجلس خليط من الناس يطالعون الصحف ويلعبون العاب مسلية، حيث يقدمون الشاي والقهوة والشكولاتة والعصائر.
لكن الذي استطاع إن يصف ببراعة كيف كانت مقاهي مدريد وما دورها في تلك الحقب السياسية الساخنة هو بينيتو بيريث كالدوس، في روايته فونتانا دي اورو (النافورة الذهبية) التي صدرت سنة 1862 عندما نقل بصدق أجواء المقاهي حيث تنتشر أبخرة الحماسة الوطنية والثورية بين الرواد الشباب، كما في هذا المقطع، "بينما نتوقف عند هذا الوصف، تتقدم المجموعات باتجاه منتصف الشارع وتختفي من خلال باب ضيق، مدخل مكان لا يجب أن يكون صغيراً، لأنه يتسع لعدد كبير من الناس. هذا هو فونتانا دي أورو، المقهى والنزل الشهير، حسب اللافتة الموجودة على الباب ؛ إنه مكان التقاء الشباب الناري الصاخب، الذي لا يهدأ مع كل الصبر والإلهام، المتحمسين لإثارة عواطف الناس وسماع تصفيقهم الطائش. تم تشكيل نادٍ هناك، وهو الأكثر شهرة وتأثيراً في ذلك الوقت. ومن الآن فصاعدًا، قام خطباءها، وهم مبتدئون ممجدون لعبادة جديدة، بتوجيه سياسات البلاد؛ يعيش الكثير منهم اليوم، وهم بالتأكيد ليسوا مغرمين بالمبدأ الجميل الذي بشروا به حين ذاك ".
و من اعرق مقاهي مدريد مقهى (صليب مالطا) وكان عبارة عن نزل في مدريد يعود إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر والذي أصبح فيما بعد مقهى للحفلات الموسيقية، قبل أن يختفي في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر تم تسميته هكذا، ربما لأنه الصليب المالطي وهو رمز وشعار فرسان الإسبتارية وهم فرسان مالطا يتبعون نظام ديني كاثوليكي تأسس في القدس في القرن الحادي عشر.
كان مالكها الايطالي كارلوس خوسيه لورنزيني في عام 1808 ، والذي تم استبداله في عام 1814 بالاسباني بيثنته غاييغو، كان من المفترض أن يكون مسؤولاً عن تحويل نزل القرن الثامن عشر إلى مقهى للغناء في القرن التاسع عشر، وغير اسم المقهى إلى صليب مالطا الكبير. حاليا لم يعد للمقهى وجود فقد تم تهديمه وأنشئ عليه شارع غران بيا.
في نهايات القرن التاسع عشر كان هناك وسط مدريد وبالتحديد في رقعة تسمى (بوابة الشمس) اربعة عشر مقهى ابرزها (مقهى فورنوس). تم افتتاحه في 21 يوليو 1870من قبل رجل الأعمال خوسيه مانويل فورنوس (مساعد ماركيز سالامانكا). وقد تصدر تقرير الافتتاح مجلة مدريد المصورة بقلم الشاعر غوستافو أدولفو بيكير مصحوبًا بصور فوتوغرافية لسقوف المبنى والتي كانت بريشة الرسامين اغناثيو ثولواغا واينريكه ميليا وخوان فرانثيس، وتم تغطية الجدران بالخشب الماهوجني الاحمر مع مراعاة أدق التفاصيل من تماثيل البرونز ومصابيح الكرستال. كان الافتتاح حدثا فريدا في مدريد بسبب الديكور الفاخر على طراز لويس السادس عشر.
ومنذ ذلك الحين أصبح المقهى نقطة التقاء الأدباء والأرستقراطيين في ذلك الوقت. كان المالك خوسيه مانويل فورنوس صاحب مقهى آخر في مدريد،و هو المقهى الأوروبي الواقع في شارع أرلابان. تم غلق (مقهى فورنوس) لأول مرة في سنة 1908 بسبب انتحار احد أبناء المالك داخل المقهى مما أدى الى تغير المالك وضعف الإقبال عليه،الى جانب بروز نجم مقهى آخر اسمه (بومبو). وقد تأثرت المقاهي بالحرب الأهلية في 1936، لتعود إلى الانتعاش بعد ذلك بثلاثة أعوام.
معظم المقاهي الأسطورية اشترتها البنوك وشركات التأمينات وتجار الموضة وبدأت باختفاء معالمها تدريجيا، لأن أي شكل من أشكال الحياة سواء حديثة أو متوارثة، نشير هنا إلى المقاهي الرومانسية حيث يجتمع الأدباء والمثقفون، لا بد أن تختفي عندما تظهر بدائل للتواصل أكثر فاعلية وعالمية.
بعض المقاهي الكلاسيكية تحولت إلى مطاعم بنسخة حديثة يعاملها الأجانب معاملة المتاحف ويشتد الإقبال عليها في مواسم السياحة.
المقهى هذه الظاهرة العامة والعالمية تقف على شفا الزوال فالنساء والرجال ممن كانوا يتذوقون طعم القهوة ورائحتها وملمس الكوب الدافئ ويتبادلون الأحاديث وجدوا البدائل في التواصل، فهل من عودة إلى أقدم شبكة اتصال عرفها التاريخ؟
***
الاستاذ المساعد ليلى فاضل حسن
التدريسية في جامعة بغداد / كلية اللغات / قسم اللغة الاسبانية