مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (12)

خاص بالمثقفالحلقة الثانية عشرة مع الدكتور سامي محمد عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (4)

س33: أ. مراد غريبي: هل الدين هو مرجع الحقائق أم الحقيقة هي بنت الدين – إن جاز التعبير-؟

ج33: د. سامي عبد العال: ربما تتضح الاجابةُ عن السؤال بسؤالٍ آخر: كيف نستطيع إيصال الدين إلى الآخرين؟ ما الطريق الذي نسلكه لمعرفة إيمان شخصٍ ما؟ هل بإمكاننا بلوغ الدين في ذاته (معتقداته وأصوله)؟ وإذا اعتبرنا الدين مرجعاً للحقيقة، فكيف يتسنى تأكيد الحقائق؟! أيةُ حقيقةٍ هي المقصودة دينياً، أهي حقيقة الوجود أم حقيقة الماوراء.. أم غيرهما؟!

لا وسيلةَ لمعرفة ذلك سوى الإعتقاد. لا طريق غير التجربة ذاتها، لا فكرة إلاَّ من الشخص نفسه. أنْ تعتقد هو أنْ تؤمن. أنت تعيش الايمان.. إذن أنت وحدُك ما تقوم بذلك. الدين تجربة خاصة، بل حالة شخصية تماماً. ليس ثمة "تجربة دينية" تكرر نفسها عبر أشخاص مختلفين. صحيح قضية الأديان هي التماثُل بين الأصل والصورة، بين السلفِ والخلف، بين الواقع والمثال، بين المعنى والمرجعية. غير أنّه سيظل تماثُلاً بمكانة السهل المستحيل، السهل المستعصي انجازه. وهذه قضية انماط التدين في أي عصر من العصور. وبالوقت عينه هي قضية اختلاف الناس تجاه الدين وبأية طريقة يسلكون.

لو كان التماثلُ مُتاحاً من أول وهلةٍ ما كانت ثمة اشكاليةٌ في علاقة الإنسان بالاعتقاد وما وُجد الخير والشر، الايمان والكفر، الحقيقة والزيف، الاعتقاد والالحاد. تلك المفاهيم الأكثر انتشاراً في تاريخ الأديان باختلاف صورها. تبقى التجارب الدينية غير مكررةٍ تاريخياً، حتى ضمن الدين الواحد، طالما كانت تجارب نوعية للأشخاص. الأفراد يستمدون منها معاني الحياة، ونوازع السلوك ورؤى الوجود ورمزية الأشياء والكائنات. لكنهم لا يستطيعون تعميم التجارب عل كل الناس.

الدين إيقاع يأخذ الانسان نحو الاتساق والتماسك، يُصقل جوهره البشري قيماً وشعوراً وعاطفة وروحاً. في بوتقة واحدة، يُصهر تلك المكونات مُؤثراً إلى درجةٍ بعيدةٍ. يُشعر الفرد معه بالوسْع وهو محدود، يحس الفرد خلاله بكائنات أخرى وهو المنعزل بذاته، يناجي خالقاً أعظم في حين يبقى قاصراً إزاء الحياة. يقطع الفرد إزاءه باليقين، وهو ما يتردد حائراً خلال أحواله الأخرى. ما يراه في الباطن يجزم به رغم كونه حسير البصر والرؤية. أية وسيلة إذن بإمكاننا اعتبار ذلك حقيقةً؟

جوهر الدين: أنك تنفرد بنفسك كي تلتقي مع ما هو ديني. أي لا بد أن تعرف جوهرك حتى تدرك جوهر الدين. ولهذا كانت وصية السيد المسيح في شكل سؤال: " ماذا ينفع الإنسان لو ربحَ العالمَ كله وخسر نفسه؟.. " أي أن نفسك هي الحقيقة، هي الهدف، هي الربح والخسارة. وفي القرآن " كل نفس بما كسبت رهينة..." ..." وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه...". الغاية ليست كالوسيلة، في الغاية يوجد الهدف والمعنى جنياً إلى جنبٍ، بينما تنطوي الوسيلةُ على الأداة والغرض المؤقت. من تلك الجهة، يلامس الانسان ماهيةَ ما يعتقد ويشعر بعلاقته الأساسية تجاه أسس الأديان.

أمَّا الحقيقة (العلمية أو المادية)، فبالضرورة تكون مشتركةً حتى نزعم كونها حقيقةَ. لو ظللنا- سنوات وسنوات- نصيح إزاء فكرة معينة: "إنها الحقيقة... ها هي الحقيقة.. لا بد أنها الحقيقة"... ستكون الفكرة تحت التوقيف، تحت الزعم المتواصل. لكونها لم تخرج من بين جوانحنا إلى سوانا من العقلاء. كيف نبلغ " يقين سوانا "، حتى نبثُ فيهم فكراً أو معتقداً أو تجربة؟!

الدين يحتاج تصديقاً، يقيناً، اطمئنانا، سكُوناً، استبطاناً، استبصاراً، ارتباطاً بالغيب. من سيُصدّق غيرُ الإنسان؟ من سيظل مطمئناً سوى المؤمن الذي يتيقن؟! بل ما معنى كل ذلك خارج الإنسان ابتداءً؟!... هي العلاقات الرأسية مع موضوعات الإيمان بما هو كذلك. لأنَّ حقائق الدين– إن أُجيز استعمال لفظ الحقيقة هنا- عمودية، نازلة من أعلى إلى الاعماق تمكنّاً من كيان المؤمن. ولذلك يُشار إلى الوحي بأنه ينزل من أعلى إلى أسفل (إنّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً..) ... (وأوحينا إلى النحل...). علاقة سرية بين الخالق والمخلوق. وكلما كانت العلاقة الدينية صافية خالصة، كانت الحقيقة من لونها بمعناها الفردي.

لعلّ هذه السمات موجودة في الحقيقة الدينية، نظراً لإرتباطها بالمسئولية. أي أنَّ كل فرد سيكون مسئولاً عنها، وبالتالي هناك جزاء وعطاء ومنح ومنع وهبة وتكليف من قبل الدين (الخالق). وجميعها لابد أنْ تكتمل في الإنسان كفردٍ بعينه لا آخر. لا تُوجد مسئولية جزئية أو حتى معطاة مناصفةً خارج ذات الإنسان. المسئولية إمّا أن تُعطى للفرد أو لا تُعطى. قال القرآن مباشرة: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أنْ يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " (الاحزاب/ 72) .. جاء العرض على أشياء الكون بصيغة الجمع، بصيغة الكثرة، بينما جاءت المسئولية أمام الإنسان بصيغة المفرد. حتى وإن جاء الإنسان هنا حاملاً لكافة ألوان البشر من جنسه. أي حتى لو كان القرآن يخاطب الناس بلغة منطق الجنس، لكن المسئولية في النهاية سيتحملها الإنسان فرداً لا جمعاً.

إضافةً إلى ذلك أنه لا توجد حقيقة في الأديان. لأن انعدام وجود الحقيقة أمر من طبيعة الدين نفسه. فلو عرف الإنسان" الحقيقة " في الدين لبطل الايمان. لقال المؤمن إنني أمتلك " الحقيقة كل الحقيقة" وكفى. وقد يختفي حماسته للتدين والتمسك بما هو قادم من ثواب ونعيم. ولما كان ثمة معتقد في طريقه لأنْ يظل كذلك. لماذا يعتقد الناس؟ لكونهم لا يمتلكون حقيقة.. لماذا يخفي الخالق ذاته؟ لكون حقيقته غائبةً ولكن مُستدل عليها. إنَّ محاولة البرهنة عليها بالأدلة العقلية أو الانطولوجية أو اللاهوتية أو العلمية أمر آخر تماماً. ليست هذه حقيقة، لكنها بعبارة عالم الفيزياء ماكس بلانك "صورتنا عن الحقيقة" لا الحقيقة ذاتها.

كل حقيقة هي رغبتنا حول الحقيقة لا ماهيتها. تظل الحقائق أشكالاً متمنعة على الحضور باستمرار. وهذا ليس موقفاً " لا أدرياً agnostic"، لكن يجري وجود الإنسان وعالمه هكذا. رغبات بلا موضوع، عواطف دون محتوى، أخيلة دون متخيلات، قدرات في طريقها إلى شيءٍ دون نهاية، استعارات فكر كأنها الواقع. وتلك بمثابة القُوى الجبارة التي تشعل طاقات البشر لمواصلة الحياة وخلق عالم فعلي دون خوف ولا نكوص.

أما الحقيقة الأخرى (العلمية- الواقعية)، فتتميز بالجانب المعرفي، الجانب التجريبي، الجانب الكمي، الجانب العملي. وهذه تشترك جميعاً في قابليتها للإدراك الجمعي، أي قد يتم الاتفاق عليها في مرحلةٍ من المراحل. فهي حقائق أفقية، أي تنتقل بين إنسانٍ وآخر. عندما يتوصّل العلماء إلى حقيقةٍ ما عليهم أنْ يطرحونها في صورة نظريات أو قوانين. هم قادرون على البرهنة عليها أمام أدوات التجريب والفحص. ليس لأنفسهم فقط، بل لغيرهم كذلك. والحقائق من هذا اللون لها أدواتها وأفكارها وتداعياتها التي تلقى قبولاً أو رفضاً. ومن السهولة بمكان – لمن يمتلك القدرات- أن يدركها ويعرف صورة الوقائع المعبرة عنها. ويستطيع أن يفندها تفنيداً من جنس إدراكه لها.

الحقيقة العلمية قائمة على الإدراك المشترك، النقد، الحوار، النقاش، الشك، اعادة النظر، المحاولة والخطأ. وتظل الحقيقة هنا مؤقتة لا ثابتة، متغيرة لا أبدية. وثمة حقيقة أخرى تنال منها قريباً أم بعيداً. لأنَّ إدراكنا للحقائق هو الادراك غير الحقيقي على الدوام. إنه الإدراك المحدود بحدود قدرات البشر. إذن هو إدراك خطأ بنسب متفاوتة، هو أفضل الاحتمالات القابلة للتحقق.  فلا ينعدم الخطأ بتاتاً، هو جزء من تكويننا المعرفي والفكري مادمنا نعرف. الإنسان كائن يعرف لكونه كائناً يخطئ في تقديراته ويستطيع أنْ يقارب الأشياء والقضايا. المعرفة قائمة على الخطأ لا الصواب، كل العلماء الأفذاذ توصلوا إلى حقائق لكونهم ارتكبوا أخطاءَ لا العكس، لأنَّ الصحة (الحقيقة) لا تدوم.

لكن رغم كل ما قيل منذ قليل، مازال السؤال مطرُوحاً: هل الدين مصدر الحقيقة؟ بالإمكان فهم سؤال الحقيقة في الدين، عندما يدخل الأخير دائرة التكرار خارج ذاته. أي يصبح الدين مرجعيةً لحقائق أخرى تستند إليه وتعبر بواسطته عن نفسها. لأنّه في تلك الحالة يُمسِي وضعاً مُشتركاً له قوة الإلزام والنفاذ. وهو في أشكاله المتحولة يمثلُّ متصلاً أفقياً خارج نطاق الأفراد، وقد ينتقل الدين من مرحلة الفردية إلى المسئولية الجمعية ويمارس سيطرة خارج ذاته. والتحول الذي يطرأ على الدين بمثابة تأويلات عملية، يتم نسجها من بناء الحياة وخيوطها المشتركة وتتلون بالتاريخ والقوى السائدة ضمن المجتمعات. بكلمات واضحة سيتجلط الايمان- هذا الدفق الروحي الخالص- في شكل مادي ملموس، وسيعطي لنفسه فرصةَ الظهور والتأثير.

الدين كعقائد عامةٍ:

يصبح الدينُ مصدراً للحقيقة عندما يتشكل في عقائد مشتركةٍ. عقائد تأخذ صفة اليقين الجمعي وتتجلي عبر الممارسة على نطاق واسع. أي يتشكل الدين داخل وجودنا إذْ يسهم فيه كلُّ فردٍ من الجماعة البشرية بنصيب وافر. عندما نقول" نحن نؤمن" بكذا، فهذا اعتقاد عند نقطة التقاء الأفراد حول الدين كمعتقد. ثمة علامات تدل على وجود المعتقد العام مثل الطقوس والشعائر والعبادات والمناسبات الدينية.

لا ينكر أحد هذه الحقيقة الجمعية، بل يصعب انكار الدين مرجعاً للحقيقة بهذا المعنى. لأنّ ثمة أفعالاً وسلوكيات تُجسد المعتقدات الدينية. ولئن أردنا فهم الأخيرة، علينا ربطها بالدين وأصوله. الدين حين يدخل نطاق الارادة العامة ويصبح مظهراً غالباً على حياة الناس. وقطعاً سيكون التأويل المتبادل بين الناس (لما يعتنقون) أمراً ناشطاً طوال الوقت. فالأزياء تأويل علاماتي لجوانب الدين من تعاليم وطقوس. التحية المتداولة لون من التأويل للخطاب الذي يتداول، المظاهر الجسدية تأويل حي لما يؤمنون به، وقد حرصوا على أن تظهر على هذه الشاكلة دون سواها.

الدين كنظام:

أي انتقال الدين من دائرة الاعتقاد إلى نظامٍ حاكم للمجتمع، كحال المجتمعات الذي تعلن أنّ دينا معيناً هو مرجعيتها ومرجعية القيم والاخلاقيات العامة. وهو يظهر في المجتمعات التي تسمح بالتعبير الواضح عن التدين.

المجتمعات– على اختلاف أنظمتها - تسمح بالجوانب الدينية سواء المجتمعات الشرقية أو الغربية. ليس صحيحاً أن الأديان قد اختفت من الحياة المعلمنة بلا رجعة. لأنّ ديناً - كمصدر للحقائق- يخلق بدائل له طوال الوقت، بل وتتشكل الأخيرة في ممارسات مغايرة عادةً. السياسات تأخذ شكل الوظائف الدينية مثلها مثل الطقوس والشعائر بالضبط. ورجال السياسة يعمدون أنفسهم في محراب الهيئات والمؤسسات كما يعمد رجال الدين أتباعهم. وتصدر القرارات والقوانين بصرامةٍ واجبة النفاذ، كأنَّها خارجة عن مرجعيةٍ لاهوتيةٍ.

الدين كسلطة:

كل دولة من الدول المعاصرة ترقد في أصولها على ضريح لإله قديم. وسلطة الدين هي المثال الذي لا يُنسى في أية سلطةٍ أخرى.. اجتماعية كانت أم سياسية. السياسة كانت وما زالت تحتذي الأديان خلال أي عصرٍ من العصور، تعتبر قوة الأديان قوةً رمزيةً وقادرةً على تحقيق أية أهداف تريدها.

من ثمَّ، نشأت تأويلات الدين لصالح قوة في الواقع. وكانت بالنتائج أن غدا الدين نفسه سلطة، بدءأ من المرجعية والنصوص والطقوس وانتهاء بكل ما ينتظم أتباعه وفقاً لنمط التدين السائد. هذا الوضع يُسمى حقيقةً، لكونه يحدث نتائج في الواقع، يُحرك صورة معينةً داخل أفق المجتمع.

بإمكان المتابع أنْ يرى الدين – أي دين من هذا الجانب – منبعاً للحقيقة طالما يترك آثاراً ملموسة. هي خاصية استثمرها اتباع الأديان جيداً. لان وجود الدين سلطة. نصوص الأديان سلطة. رجال الأديان سلطة. التفسيرات المعمول بها للأصول سلطة. دور العبادات وإقامة الشعائر سلطة. التأويلات العملية والممارسات الحاصلة سلطة. وإذا كانت الحقيقة من التحقق، التحقيق، فالدين كسلطة يعد مرجعاً لأحداث وظواهر إنسانية.

الدين كتراث:

بعد وصول الأديان إلى اتباعها المعاصرين، وبعد أن قطعت عصوراً ماضية، ظهرت اشكالية التراث. التراث ناجم عن تأثيره في آفاق الحياة مع تأثير الأحداث بجانب مخزونه الرمزي. والدين مصدر الحقائق في هذا الاتجاه، لكونه غير منفصل عن التراث. الدين هو الأثر الحاصل تراثياً لدينا نحن البشر. وما لم يكن الزمن له هذا التأثير ما وجدت هناك اشكالية التراث. كيف نؤمن بصورة راهنة مع وجود معتقدات وأفكار لا تنتمي إلى حاضرناً؟ لماذا يذهب الإنسان في تفكيره إلى الماضي؟ ما السبب في تفرق كيان البشر بين الماضي والمستقبل؟ ... هذا التناقض البادي للعيان في الثقافات المختلفة.

بدا التراث مهماً في نماذج التفكير والتدين وأساليب الحياة. التراث هو الجنة المفقودة في حياة الأديان. ولاسيما مع العودة لأصول الأديان والبحث عن استعادة الماضي بطرق شتى. سؤال الحقيقة كامن في تلك العودة سلباً وايجاباً. الدين يشكلُّ مرجعاً بهذا المفهوم، لأنَّ ثمة مقارنةً متواصلةً بين الماضي والحاضر. وما إذا كانت العودةُ ظاهرةً ما في صميم الدين أم لا؟ فالتعاليم والطقوس والأخلاقيات لا تخلو من معنى الحقائق (العودة) إذا كانت مرتهنة بسؤال التراث. وللتراث الديني هذا الحضور، نظراً لأنه تجارب حياتية شكلت التاريخ. تجارب معنى بالنسبة لأتباع الأديان وتحتل مكانة سامقةً لديهم.

الدين كأيديولوجيا:

تبدو أسئلة الحقيقة مطروحة، عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا. أي جهاز فكري قابل للاستعمال دفاعاً عن مصالح قوى معينة. يعمل الجهاز مع اكتساب مناطق نفوذ تتطلب استثماراً للموارد الدينية وتشغيل الرأسمال الرمزي للموروثات.

هنا تعد الأديان مرجعاً للحقيقة بصورة مزدوجة: سنعرف بأية وسائل استطاع أصحاب الايديولوجيات استغلال جانب كهذا. إضافة إلى ذلك، سنعرف: ماذا طرأ على الدين من تغيرات وكيف أُلبس رداء ليس له إلاَّ بقدر تأويله المتطرف. ستصبح الحقيقةُ مشكلةً تجدد نفسها من وقت لآخر. فمع ظهور الجماعات الدينية كان سؤال الحقيقة مثاراً على ألسنة المتابعين. لم تكن ممارسات التطرف إلا مظهراً من مظاهر اغتصاب الحقائق. الحقائق محل بحث ونقد وغربلة. هل الدين الاسلامي يؤكد التطرف أم ينفيه؟ هل ثمة تطرف دموي بهذه الطريقة لدرجة تحوله إلى أداة قتلٍ؟ هل تسمح مقاصد الاسلام باستعمال النصوص والأحاديث لإرهاب الناس؟ كيف يتحول الدين إلى وسيلة هدمٍ لا بناء؟

س34: أ. مراد غريبي: بين الحقيقة والفضيحة في المجتمعات العربية يرتفع صوت ماهية الأخلاق وفلسفتها وموقعيتها في خريطة الدين وجغرافيا التدين، لماذا نعيش في مجتمعات تعشق الفضائح وتخاف الحقائق أو ما تسمونه بــــــــ «الهرش الديني"؟ وماذا عن الأوهام والخرافات التي كرست مجتمع الرداءة والنفاق والعنصرية والطائفية؟ هل هاجرت الأخلاق بعدما انتشرت الأوهام المقدسة والثقافة الدينية المغشوشة؟

ج34: د. سامي عبد العال: بين الحقيقة والفضيحة ما لم يفعله الحداد. لأنَّ " ما فعله " الحداد أننا اكتوينا بناره التي تلين الحديد. أمّا "ما لم يفعله" هذا الشخص الرمزي، فهو تكريس" حالة الحدادة " في مجتمعاتنا العربية طوال الوقت. أي مواصلة اشعال النيران بجوارنا التي تأخذنا إلى شيءٍ آخر. وهذا موضوع مختلف يخص نار الفضيحة الكاشفة لأعماق أزماتنا المعرفية والاخلاقية، إذْ نظل نلوك العبارات والأخبار الرائجة على أنّها حقائق، بينما هي محض فضائح بفعل فاعل.

حالة الحدادة (أي عمل الحدادين) لم تنته بعد، يجري اشعال نيران الفضائح (الاجتماعية / السياسية/ الاخلاقية) على ايقاع تزييف الوعي وإلهاء الناس بتوافه الأمور واللهاث وراء المكانة الفارغة وضعف المعرفة والفكر. البيئات العربية مُهيئةٌ بميراثها الثقافي لهكذا أفعال، حتى باتت سمات فاصلة لدى قطاع عريض من أفراد المجتمع. هؤلاء أناس مغيبون لا يعرفون شيئاً ذا بال في واقع الناس.

الوضعية السابقة تتداخل فيها أربعةُ خطوط:

أولاً: سياسات الحقيقة: المقصود أنَّ صناعة الحقائق في مجتمعاتنا العربية آلية رائجة. فهي رهان الأنظمة الغالبة على استمرارية قبضتها. ليست الحقيقة واضحة بذاتها على ما نفهم من رنينها الخطابي. تنطوي على مناطق غامضة إلتهمتها عن بكرة ابيها. استطاعت أنظمة السلطة تحويل فكرة الحقيقة إلى " ثقب أسود".

إنَّ الحقيقة موضوعة تحت الاقامة الجبرية. لو تخيلنا الحقيقة انساناً، فلن تخرج إلى الشوارع والساحات والملاعب والنواصي والمؤسسات والهيئات والحارات والأرياف والمقاهي. لكنها ستكون رهن الاعتقال، أمامها معضلات وعراقيل لا تنتهي. وبدلا من إطلاق سراح الحقائق، فكر دجالو السياسة والمجتمع في تشكيلها. أي إخضاعها لعمليات ثقافية جراحية لا تنتهي:

التلوين: وهو استعمال مساحيق وألوان ثقافية في تقديم الحقيقة وتصويرها. لا يهم القوام الأساسي، لأن الهدف هو اشاعة جو من الشك وعدم اليقين.

التشويه: اضفاء طابع مشوّه عليها وتقطيع أوصال المعطيات والوقائع. بحيث لا يتمكن الإنسان من لملمة الأوصال المتناثرة. وتبدو مهمة مستحيلة الوعي بهذا التشتت والافتعال.

اعادة التشكيل: اخراج الحقيقة بصورة مختلفة. حتى لا تكشف أكثر مما تُخفي. أي التلاعب ببنية الحقائق وتعمد إجراء الاحلال والتبديل ورسم هيكل مختلف عن الواقع.

التجميل: عملية ترميم وتجميل. ذلك في حالة لو كانت الحقيقة خادمة للسياسات والقوى المؤثرة. حيث ستكون محل تجميل وتقليل من آثارها الجانبية. فالحقائق الصادمة في حياة مجتمعاتنا وبخاصة التي تهن رجال السلطة يتم تحلية مذاقها على غرار تحلية مياه البحر. فعل التهوين والتمرير بأكبر قدر من الصدمات خفيفة الوطأة.

المونتاج: تعديل صورة الحقيقة وإدارة المشاهد من وراء الكواليس كي تتفق مع عملية الاخراج المطلوبة. إن اصابع الاخراج لا تتوقف سواء أكانت أصابع عابثة أم متلاعب عن كثب. وأحياناً يكون أصحاب القرار عارفين طاقة الجماهير على التحمل والاستيعاب فيكون المونتاج ناشطاً وله كل الدور في ابراز جوانب على حساب أخرى.

الكولاج: اجراءات القص واللصق التي تحذف وتؤلف بعض جوانب الحقيقة. إنه آلية توليف نتيجة وجود سيناريو لإظهار الأوضاع بطريقة قابلة للبلع والهضم. والكولاج آلية فنية لا تخلو من وضع خطط للإمساك بالأطراف ولبس الأقنعة وقص المناطق الغامضة وتوليفها مع مناطق أخرى، هو عملية ثقافية بين التلقي وأنامل الإخراج.

التخليط: احداث حالة من خلط الأوراق وإدخال موضوعات في أخرى لكيلا تتضح الصورة. احداث إرباك لذهنية القارئ، وإدخاله في دوامات البحث عما هو مفقود. ومن ثم لن يستطيع فك الخيوط والألغاز بسهولة. فالتخليط لا يعطي فكرة منطقية واضحة ولا يقدم شيئاً متماساً.

القلب: أي عكس الحقيقة إلى نقيضها، والزعم بأنها هكذا بخلاف ما يقال. ابتكار أكاذيب أخرى. والادعاءات ستتواصل طوال الوقت بأن الحقيقة المزعومة(المقلوبة) هي الأصح وأنه لا أحد يعرف الحقيقة الأصلية. وطالما نزلت المزاعم حلبة الصراع فإنها ستزاحم كل الصور الأخرى وسيكون تأكيد عكس الحقيقة هو الزعم الغالب.

الاخفاء: الحجب التام وايجاد بدائل لإلهاء الوعي عن الالتفات والفحص والتساؤل عنها. لا أحد يعرف الحقيقة في مجتمعاتنا العربية، السؤال عنها سؤال غريب وسيكون شاذاً سواء أكانت الحقيقة قريبة أم بعيدة، نظراً لكون المصالح تغلب الحقائق. كما أن القابض على صولجان السلطة- باختلاف المسميات- يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأسرار التي لا يجب أن يعرفها أحدٌ. وإذا كان الإله غامضاً ونائياً عن متناول البشر، فكذلك ما يدور حول رأس الهرم، رأس بحجم المجتمع والتاريخ والتراث. الأسرار تتشابك وتلف حول مركزيته خادمة في محرابه لا في ساحات الشعوب.

سياسات كهذه تُهيئ الثقافة إلى خنق الحقائق واعتبارها بلا فائدة للشعوب. ودوماً ستكون غائبة بحسب المستوى الذي وصلت إليه. بجانب انتشار فوضى المعايير الواضحة إزاء الاعمال والخطابات العامة. إن المؤثرين في المجتمعات لا يدركون: لماذا هم مؤثرون؟ لأن الوسط الموضوعي للحقائق لا يوجد، كما أن قوانين الفعل ورد الفعل غير متكافئة. فتدخل سياسات الحقائق إلى عمق الوعي عن طريق النقاط السابقة.

ثانياً: فيزياء الفضيحة: نتيجة اختفاء الحقائق، تصبح الفضائح بمثابة المعادل الموضوعي لها. أي يتم رواجُها، فتؤدي الوظائف الفكرية والثقافية. ليست الأكاذيب بديلاً للحقائق. الأكاذيب- في أكثر حالاتها - وسائل برجماتية لتجاوز المواقف، وفي أقل الحالات بلونات اختبار للآخرين وللوعي الجمعي. إنّ فيزياء الفضائح فيزياء ثقافية تمتلئ بقدرات الأفراد العاديين على الترويج والخفة العقلية وإدراك ردود الأفعال والمشاركة في تكريس حالة النكاية والتأثير.

تتشكل بنية الفضائح بالوسط الذي توجد فيه. الوسط يتيح لفيزياء الفضائح أنْ تأخذ مجراها وتتعين بصورٍ معينةٍ. وبحسب الانتشار والقدرة على افراغ التداعيات ستكون الفضيحة في المستقبل. كما أنَّ تأثيرها جزء لا يتجزأ من هذه الفيزياء. والفضائح تتعلق بقطاعات معينة نظراً لأنها غدت موضوعا من جسم الثقافة الشائعة. بحيث يمكن للثقافة أنْ تترقبها وتعطيها مجالها القابل للامتداد والتحرُك وسط الجموع.

تلعب الفضائح على أوتار الجموع، لا فضيحة شخصية إلاَّ إذا شعر بها الفردُ منعزلاً. أما بفحواها الجمعي، فالفضيحة تتمدد وتنتشر بحسب آليات الجماعة الجاهزة لذلك. لأن هناك فراغاً تاريخياً للوعي من الحقائق كما ذكرت. سياسات الفضيحة تستهدف عقول الكتلة الحرجة من الجماهير. بمنطق توجيه الرأي العام والانشغال بأمور أخرى غير التركيز على الواقع والأحوال الجارية. استثمار في المجال المهمل من فاعلي الثقافة والمجتمعات العربية.

تسير الفضائح بحسب جغرافيا الجماعات والفئات المترامية ربطاً بالمستهدفين من الجماهير. فالفضائح الاجتماعية رغم قوتها الحياتية وكونها تخيم فوق أفق الناس إلا أنها تلتصق بأناس معينين. ولكن هناك فضائح الساسة والفنانين والاعلاميين والرياضيين والمسئولين، وهي التي تظهر فيها عمليات التسييس إلى درجةٍ بعيدةٍ، وبخاصة مع انتشار وسائل التواصل والمنصات ومواقع الدردشة والاعلام الرقمي.

ثالثاً: الفضائح معرفياً: تؤدي الفضائح وظيفة ثقافية، ولكن لا جوهر لها إلا الاشاعات والتداول المسطح للأخبار والأقوال. والوظيفية السابقة يوجد بها جانب معرفي. ففضلاً عن إشغال الوعي، هناك التصديق والتذكر وربط الأحداث والاستدلال والمقارنة وتحديد المشاهد والتداول والترويج.

بالقطع عندما يستقبل الفرد فضيحة ما، فهو يشارك في الترويج لها. ويفتش عما يكمُن وراء المشاهد، ويأخذه الفضول إلى التنقيب المتواصل بين المنصات وصفحات التواصل بحثاً عن المزيد. إنه "فاعل معرفي" خلال تلك اللحظة، تاركاً قدراته الأصلية وبحثه المفترض أنْ يكون معرفياً حقيقياً مقابل الانغماس في شائعات وأخبار تلوكها الألسن على المواقع والصفحات.

معرفياً الفضيحة "رواج وتداول وتزيُد " على خلفية الاستغلال والنكاية في أشخاصها. فلماذا الفضيحة فضيحة؟ لكون أطرافها مهمين على صعيد ثقافي اجتماعي. لو لم يكن أطرافُها هكذا، لما سُميت فضيحة. فهي نالت تلك الدرجة من الانتشار، نظراً لكون موضوعها يستحق الشيوع. وهذا رهان مُطلق الفضيحة (مصدرها) ومتلقيها بالوقت نفسه. مجتمعاتنا العربية تعي ذلك جيداً. فالسياسيون يقفون على حافة الهاوية رغم المكانة المحصنة التي يحتمون فيها. السياسة رغم كونها إدارة الشأن العام، إلا أنها ذات ميراث ثقيل، مما يترك آثاراً جانبية بمثابة الشحن السلبي لأفراد المجتمعات في الاتجاه النقيض. أي تترك احتقاناً وكراهية لدى القطاعات الكبيرة من الجماهير تجاه مستغلي السلطة والمهيمنين على مقدرات الشعوب.

عندما تظهر أخبار وشائعات تنال من رجال السياسة (سواء أكانت حقيقية أم مختلقة)، فالرواج هو مصيرها بلغة الفضائح. ذلك استناداً إلى مخزون الشحن السلبي المتوافر، وبمقدار خطورة هذا الشحن وأوضاع المجتمعات وحرية الأفراد في المعرفة والتداول. عندئذ تدخل الفضيحة مسار السرديات التي يتم من خلالها القصاص الرمزي من الفاعلين. يأخذ الناس في تأطيرها والتزيُد أحياناً في الحكي، مما يجعلها مادة دسمة للتداول والنقد. الوضع معقد وتتداخل فيه عوامل كثيرة، ليس أقلها جانب المعرفة ولكن أكثرها الأمور الحياتية للمجتمعات العربية.

رابعاً: الفضائح أخلاقياً: أخطر آثار الفضائح على المستوى الأخلاقي هي إدمان ترويجها وعدم الشعور باحترام الآخرين. وهذا نال كثيراً من أخلاقيات المجتمع وقيم التنوع والتعددية الثقافية والدينية.

طالما تحل الفضائح كوسيلة ومعرفةٍ، فستكون شوكة في متن الاخلاقيات. بل لا تعنيها الأخلاق من قريب أو بعيد، لأن الفضائح مادة من جسم الواقع الاجتماعي وتحمل كافة خصائصه. قد تبدو في مسار محايد بحكم أن صاحب الفضائح هو من يستحق كل ما يحدث له. وتكون ثمة مبررات جاهزة عند الجماهير لهذا الأمر. مثل سرديات الفضيحة وآثارها في النيل من الناس ورغبة الأشخاص في التصديق. وهذه الجوانب محسومة لمن هو قادر على التصديق أو يتظاهر بالتصديق. مشكلة الفضائح أنه تخلق مضاداتها الاخلاقية، أي تعيد تدوير القيم لصالح ترويجها على أوسع نطاق. وهناك أسباب كثيرة تسمح لمتداولي السرديات ان يعتبرونها لونا من التسلية أو نقل الاخبار ليس أكثر.

" الأخلاقيات الباردة " هي المصطلح المُناسب في مثل هذه الحالة. أي عدم الاهتمام الأخلاقي بكون الفضائح تدمر القيم التي يعيش في ظلها افراد المجتمع. الفضائح تمر على العقول مرور الكرام، كما أنها تجد أفواهاً تمضغها طوال الوقت وتتقاذفها في مساحات جديدة. لا توجد فضائح من غير وجود مساحات تكتسبها بين الناس. الفضائح تعطل الاخلاق التي تقدر الآخرين وتحترم كيانهم. أن نمارس نحن دوراً في تداول الأخبار المشينة معناه أننا نضرب بالقيم عرض الحائط ضمنياً.

بناءً على ما سبق، تصبح الفضائح مادةً يوميةً تملأ الفراغ التداولي لدى الناس. ويصبح المجتمع بالنسبة لها مثل الأواني المستطرقة التي تتحرك فيها الفضائح بشكل سائل، لكونها تجد تشابها في المناطق والعقول والأفكار. لا فرقَ في هذا الاتجاه بين مثقف ومتعلم وجاهل وسياسي وخبير.. جميعهم يدمنون الفضائح والشائعات والديرتي نيوز dirty news. وتنتقل العقول من قدرتها على الفهم والاستدلال والنقد إلى عقول تقليدية في متصل واحد.

يصبح العقل خرقة، مجرد قطعة قماش مهترئة لا قيمة لها. بإمكاننا أن نلف بها ما يصلنا من قاذورات اجتماعية، ويأخذ العامة- رغم سمعة الكلمة السيئة- في الانشغال بالفضائح والاخبار الصفراء. ويقف دور العقل على مسح الطاولة المستديرة التي تسمى بالمجال العام من القاذورات. كل العقول في مجتمعاتنا تحاول أن تمرر ها كأن شيئاً لم يكن. أساليب التنظيف الذاتي نتيجة العجز عن التفكير وانسداد الأفق. درجة الاعتياد تُفقد الأفراد القدرة على التمييز والرفض.

" الهرش الديني" ظاهرة ثقافية نتيجة الحساسية الشديدة تجاه المختلف عقائدياً. إنه فعل مزدوج: إشعار الآخر الديني بعدم الرغبة في وجوده، أي يصبح كائناً غير مرغوب فيه. وكذلك: لست أنت بالنسبة إليه إلاّ شخصاً شاعراً بعدم الارتياح تجاهه، وأنك صاحب الحق مسبقاً دون مبرر في اقتحام وجوده وقتما تريد. وتعبير " فلان هارش فلاناً" يعني أنه يستبيح وجوده تفتيشاً في التفاصيل والدخول إلى ساحته بحثاً عن الفضائح أو الأشياء السيئة. وأنه يعرف خباياه وأسراره وآليات تعامله مع المحيط الذي يعيش فيه. وكأن الشخص محل الهرش شخص يخفي جوانب معيبة، وأن الناظر إليه يعلم ما لا يعلمه الآخرون وقد أحرز قصب السبق في هذا الاتجاه.

"الهرش الديني" ظاهرة شعبية تتغلغل في جزيئات الحياة اليومية. ويتشكل بكل التفاصيل المملة لحياة الناس في المجتمع. لنتخيل أنَّ شخصاً يهرش (أي يحك) رأس شخص آخر. ماذا سيشعر الآخر؟ بالتأكيد سينتابه الحنق والضيق من الأفعال الصبيانية. الافعال الطفولية والمتطفلة واللزجة واللصيقة بجسم الإنسان الآخر. ما الذي أعطى هذا الهارش حق التمحك في كيان الآخر؟ ولماذا يفعل هذا أصلاً؟ وهل فعل كهذا مبني على تصورات متطفلة أخرى أم لا؟ وإلى أي مدى يؤدي إلى نشر ثقافة الكراهية بين الناس؟ وما نتائج الفعل ورد الفعل على المدى البعيد؟!

الهوس بامتلاك الآخر، الهوس بمعرفة شئون الآخر، الهوس بالتفتيش في حياة الآخر، الهوس بمأكل ومشرب الآخر... هذه أمور فاقت كل الحدود، أمور لا تُطاق في مجتمعاتنا العربية. كأن الإنسان أصبح "مُلكاً مشاعاً " بين الناس. يأكل الناس وجوده ويمضغونه ثم يتفلونه ليجتره آخرون ... هكذا في دورات ثقافية واجتماعية لا تتوقف. ليأتِ السياسيون ويأخذونه "كعصف مأكول" بعد أن دهسته أرجل الأنظمة وهرسته تماماً. إن مجتمع الهرش الديني يخدم سياسات الأنظمة الاستبدادية خدمة فائقة... يؤسس للرداءة والنفاق ويبذر بذور الطائفية.

إنّ المجتمع متماسك من جهة الظواهر السلبية تماسكاً غريباً، بكلمات واضحة أن الظواهر السلبية تمرر لبعضها البعض المواد والموضوعات التي تحرك جوانبها القصوى. التكوين التاريخي- فيما يبدو - واحد للمجتمعات العربية سلباً وإيجاباً. إنّ مجتمعاتنا تجر سلبياتها بانتظام مريب، تحرك تفاهاتها بصورة منقطعة النظير. أدت " الأوهام المقدسة " دور الماكينات العملاقة التي تهضم الفضائح والسلبيات، الأيديولوجيات الدينية أوهام تبيح نشر الفضائح وتمارس العنف وتسمح بالرداءة طالما ظن أصحابها أنهم يعملون عملاً مقدساً.  والمقدس رغم الشعور بالمهابة الذي يلف أتباعه إلاَّ أنَّه وسيط يشعرهم كذلك بممارسة الأفعال التافهة. فالإنسان عندما يصل- فيما يزعم- إلى امتلاك اليقين، يصل إلى الاستهانة بأشياء أخرى. وقد يصل إلى مرحلة الانحطاط والسقوط الاخلاقي رغم أنّه لا يبرح مكانه. التناقض الشرس الذي يتغلغل في الكائن الإنساني بين الأقوال والأفعال ساعياً إلى تغطيته.

رأينا عياناً بياناً: كيف كانت قيادات الجماعات المتطرفة يتكلمون بفظاظة ويمعنون في احتقار المجتمع والفئات الأخرى. وكذلك فكرة الخلافة (كتوظيف لاهوتي مؤدلج) كانت تنظف كل جرائم الدواعش والجماعات البديلة من قتل وسبي وتدمير وانتهاك الاخلاقيات وتدمير المدن واغتيال البشر. بالمثل على المستوى الشعبي يمارس الناسُ التخلف والانحطاط باعتبارهما مقدسات في حياتهم العامة. بل يُرصعون هذه الأعمال بصور دينية مثل الشعارات والأقوال المأثورة رغم كونهم يسهمون في تخلف المجتمعات ...

لكن تبقى المسألةُ: من يعِي ذلك؟ ومن يفكر بشكل مختلفٍ؟!

***

حاوره: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1/10/2024م

في المثقف اليوم