حوارات عامة

د. آمال طرزان تحاور د. شرف الدين عبد الحميد حول واقع المرأة في المجتمعات الشرقية (1)

المرأة في فلسفة سقراط وواقع المرأة في المجتمعات الشرقية. حوار مع الأستاذ الدكتور شرف الدين عبد الحميد

***

في حواري أود أن أعرب عن مقدار سعادتي لبدء أول حواراتي الفلسفية مع أبرز رواد الفكر والتنوير، الذي شارك في عديد من المؤتمرات المتخصصة والتي منها : المؤتمر الدولي الأول "الفلسفة في العصر الهللينستي" عام 2020م، والمؤتمر الدولي السابع "الحياة اليومية في العصور القديمة" بجامعة عين شمس 2016 م، إلى جانب العديد من الأبحاث العلمية. حوارنا اليوم مع الهرمنيوطيقي العربي الذي حاول إعادة كتابة تاريخ الفلسفة العالمي- انطلاقاً من تاريخ الفلسفة اليونانية- في كافة كتبه وأبحاثه ألا وهو الأستاذ الدكتور، "شرف عبد الحميد" ‏أستاذ الفلسفة اليونانية كلية الآداب‏ بجامعة سوهاج‏ صاحب الأعمال المتميزة على الساحة الأكاديمية والفلسفية، فقد أنجز في رحلة بحثه وتأمله ما يزيد عن 15 كتاباً ثريًا بالأفكار والرؤى.

* تعد مشكلة دنو منزلة المرأة وتهميشها من أهم القضايا الجديرة بالدراسة والبحث لذا؛ نود التعرض في حورنا معكم لتلك الإشكالية وبالأخص البدء بحياة الحكيم سقراط وموقفه من المرأة نظرًا لتأثيرِ رؤيته الفلسفية على كافة الفلاسفة والعصور.

بدايةً أريد أن أشير إلى أكثر مقولات الحكيم تداولًا في تاريخ الفكر الفلسفي "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، والتي عبرت بشكل صريح عن موقفه من زوجته اكسانثيبي Xanthippe فالتساؤل المطروح الآن على الهرمنيوطيقي العربي هل يمكن أن توضح لنا طبيعة العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي؟ وما سبب ارتباطه بها؟

الرد: عَلَاقة سقراط بزوجه عَلاقة طبيعية وتقليدية جداً، كعلاقة أي زوج أثيني بزوجه؛ فلا يوجد سبب خاص لارتباطه بها. ولكن بالنسبة لزوج سقراط اكسانثيبي فقد بالغ المؤرخون في إظهارها بمظهر المرأة المتسلطة مع أنها تحملت شخصاً عجيباً غريبَ الأطوار مثل الفيلسوف الذي أطلق على نفسه لقب "ذبابة الخيل" التي توقظ الأثينيين من نومهم العميق، لقد كان سقراط أيضاً "ذبابة خيل" مزعجة جداً بالنسبة لزوجه اكسانثيبي التي لا يهمها أن تستيقظ أثينا من نومها بقدر ما يهما أن يكون سقراط يقظاً تجاهها وتجاه أولاده!

* ألا تجد في ارتباط سقراط بزوجته ذات الطبع العصبي والناري فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية ظلم لها؟ ويعبر عن عدم إنسانية الحكيم؟

الرد: أوافق على الجزء الأول من سؤالكِ، واتحفظ على الجزء الأخير في رأيي المقترح: كان سقراط رحيماً مع اكسانثيبي، وتأملي لحظة إعدام سقراط وكيف كان مشفقاً عليها وطلب تجنيبها مشهد سجنه وموته فأمر تلاميذه بصرفها شفقةً عليها. إضافة إلى تحمله لسخطها في كثير من المواقف التي خرجت فيها عن الحد اللائق الواجب على الزوجة تجاه زوجها؟ لقد تبادلا الازعاج العائلي مرات عديدة، ولكنهما- في كل الأحوال- لم يتبادلا الملاكمة.

* هل كان سقراط متحمل المسئولية العائلية مع اكسانثيبي أم أن اهتمامه بأطروحاته الفلسفية أثرت على مسئولياته الأسرية؟ بمعنى آخر هل استطاع أن يحقق التوازن بين حياته الفلسفية وحياته العائلية دون أن يطغي أحد الجانبين على الآخر؟

الرد: إلى حد معتبر، حاول سقراط أن يكون متزنا في حياته الأسرية ومن مظاهر هذا الاتزان:

- سقراط كان يستثمر المال (لم يكن فقيراً مسكيناً معدماً). وكان جنديا قادراً على تسليح نفسه من ماله الخاص.

- وكان يدعو أثرياء للطعام في منزله مع زوجته.

- وكان يعلم ولده لامبروكليس الأدب واحترام والدته (لم يكن مهملاً لأطفاله كل الاهمال).

ولكن سقراط مثله مثل أي رجل ذي مهمة كبرى لا يخلو من تقصير تجاه واجباته الأسرية. يمكنك القول: لم يكن سقراط رب أسرة مثالياً كما لم يكن أعظم علماء القرن العشرين آينشتاين أباً مثالياً.

- كان سقراط يكبر عن زوجته اكسانثيبي بنحو 35 عاما فهل كانت في حياة سقراط زوجات أخريات؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما هى طبيعة العلاقة الزوجية بينه وبين الآخريات؟

 الرد: نعم كان لسقراط زوج أولى لا يذكرها أحد وإنما يتجاهلها كل أحد ممن يريد ترسيخ الصورة النمطية عن سقراط. كان لسقراط زوج اسمها ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون يذكرون السليطة اكسانثيبي ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

* في حديثك يتضح مدى توافق الحكيم مع زوجته ميرتو Myrto فلماذا كان المؤرخون يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب؟

الرد: مؤرخو السير الفلسفية، مثل الصحفيين المعاصرين، يبحثون عن الأخبار المثيرة دائماً.

* اريد التوقف عند مقولة: "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا"، والتي رمزت إلى تسلط وشراسة زوجته اكسانثيبي ألا تجد د. شرف مقولة الحكيم تشير إلى أن الحياة الزوجية السعيدة قاتلة للإبداع؟

الرد: أبداً.. أبداً لقد تزوج سقراط السليطة وتزوج الريحانة. وفي الحالين كان هو هو سقراط المبدع ومؤسس الفلسفة الغربية ذات الأصول الشرقية!

* ولكن ما أتفهمه من مقولة سقراط هو أما أن يوفق الرجل في زواجه فيعيش حياة مليئة بالسعادة والود أو أن يفشل في زواجه فيبدع في الفلسفة أو أي مجال أخر بمعني آخر أن بؤس الحياة الزوجية هو ما دفع سقراط إلى الإبداع في التفلسف -حسب مقولته- نتيجة لزواجه من اكسانثيبي الشرسة السليطة.. وبما أن سقراط كان الفيلسوف المبدع مع كلتا الزوجتين إذن فالمقولة لا محل لها للتداول على أن بؤس الحياة الزوجية ستقود الإنسان إلى التفلسف أو الإبداع هل يوافقني الهرمنيوطيقي العربي في ذلك؟

الرد: هذه مقولة سقراطية تنتمي إلى منهج التظاهر أو الأيرونيا" أو ما نترجمه بالتهكم، وهي هنا (وفي هذا السياق الذي قيلت فيه، والهرمنيوطيقا تهتم بالسياق)، لا تؤخذ بمنطق إما أو: إما أن تكون سعيداً في زواجك أو تكون فيلسوفاً؛ فقد يكون المرء تعيساً بائساً في زواجه ولا يكون مفكراً أو فيلسوفاً، بل يجمع إلى تعاسة وبؤس الزواج نفاهة العقل وبؤس التفكير. أقترحُ أن مقولة سقراط هدفها التهكم لا وضع قانون أو قاعدة فكرية كلية.

* هل العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي أثرت على موقفه من المرأة؟ وهل يوجد نساء في حياة الحكيم سقراط اشاد بدورهن في حياته الشخصية وحياته العلمية؟

الرد: موقف سقراط من المرأة موقف مركب؛ الجزء الأكبر منه خاضع لتقاليد عصره وقيمه الاجتماعية السائدة، تلك القيم التي خضع لها عقلان جباران: عقل أفلاطون وعقل أرسطو. ونعم توجد في حياة سقراط أكثر من امرأة، بل توجد في حياته نصف دستة من النساء! وإذا أردنا أن نقترب من الموقف السقراطي تجاه المرأة فعلينا أن نتناول بالتحليل علاقته بهن جميعهن:

1- والدته: فايناريتي القابلة (مولدة الأطفال) التي امتهن سقراط مهنتها بفخر واعتزاز، حيث كان يقول: أمي كانت تولد الأطفال من النساء وأنا أولد الأفكار من الرجال. فلولا فايناريتي ربما حرمنا من أحد أعظم مناهج الفلسفة في التاريخ: منهج المايوتيكي أو التوليد السقراطي!

2- زوجته اكسانثيبي Xanthippe: على الرغم من وصفها بالسليطة الشرسة. ألا أنه اعترف بتعلمه على يديها فن ضبط النفس، وترويض النَمِرة والحكمة العملية! أو على الأقل هذا ما يردده الناس عنه وعن زوجه.

3- زوجته ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون- كما قلت- يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

4- الكاهنة البيثية: كاهنة معبد دلفي التي قالت: إن سقراط هو أحكم الناس جميعاً. هذه المقولة التي جعلت سقراط يكتشف نبوته وأن رسالة إلهية تأتيه وتملى عليه من كائن أسماه سقراط "بالدايمون" أو الروح الإلهي (بعضهم يترجمه ويسميه جني سقراط! وما هو بجن، بل ملاك حارس!) ذلك الروح الذي كان يوحي إلى سقراط بعض أسس فلسفته العقلية!

5- أسباسيا الميليتية Aspasia of Miletus: خليلة بركليس أعظم حكام أثينا في القرن الخامس، المثقفة الذكية التي تلقى سقراط على يديها – في شبابه- دروساً في البلاغة وهي مع فيلسوف سوفسطائي آخر هو بروديكوس كانا سبب اكتشافه الذي قدمه للعالم لأول مرة في التاريخ: فلسفة الماهيات التي تعمقها أفلاطون وحولها إلى فلسفة المُثُل، وتطورت إلى فلسفة الصورة وإلى المنطق الأرسطي.

6- ديوتيما المانتينية Diotima of Mantinea: الحكيمة التي علمت سقراط فلسفة الحب (Eros) والجمال في محاورة المأدبة (منتدى الشراب Symposium). وهذه المحاورة واحدة من أجمل إبداعات الفكر البشري على امتداد تاريخه الطويل، كانت بطلتها الحكيمة ديوتيما المانتينية، التي علمت البشرية لا سقراط وحده فن الحب والجمال المثاليين. وقد يعترض بعضهم ويقول ربما كانت ديوتيما من اختراع أفلاطون فليست ديوتيما المانتينية إلا أسباسيا الميليتية. أقترحُ أننا- في مجال الفكر المجرد- لا تهمنا "وقائعُ" التاريخ بقدر تهمنا "حقائقُ" الهرمنيوطيقا.

* على الرغم من المكانة العظمى التي تبوأتها كل من أسباسيا الميليتية وديوتيما المانتينية في تاريخ الفكر الفلسفي كيف استطاعتا تحدي تقاليد المجتمع اليوناني الذي جعل المرأة في منزلة العبيد حبيسة المنزل؟

الرد: المجتمع اليوناني كأي مجتمع يوجد فيه المحافظون الرجعيون وهم غالبية المجتمع، ويوجد فيه القلة الاستثنائية التي تثبتُ القاعدةَ ولا تنفيها: التقدميون المبدعون. ولذلك علينا تجنب إطلاق الأحكام العامة، والنظر إلى كامل الصورة بكل تفاصيلها.

سنستكمل الجزء الثاني من الحوار مع الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف عبد الحميد

يتبع

***

حاورته: آمال طرزان

في المثقف اليوم