حوارات عامة
مائدة حوار مع الشاعر: د. محمود الفخراني
- الشعر شعران؛ شعر يكتب الحدَث، وشعر يكتبه الحدَث.
- كلما كان تأثر الشاعر بالحدَث أو المناسبة كبيرا كلما قل التكلّف في الألفاظ وقلّ وضوح الصنعة في القصيدة.
- الشعر يخلّص الإنسان من جفاء المشاعر الذي يخلّفه انخراطه في عالم المادة وطغيانها.
- إذا تحدّث الطب إلى الكتابة، فهو حديث ثناء عليها، وإذا تحدّثَت الكتابة إلى الطب فهو حديث فيه بعض العتاب.
- على الأدباء ألّا يتعجّلوا النشر، فلكل شيء وقته.
محمود الفخراني
د. محمود الفخراني؛ طبيب من فئة المخضرمين، وشاعر من أبناء الخليل البررة، وكاتب ذو رسالة جادة تلامس سقف قضايانا العربية والإسلامية. وُلد عام 1955 في قرية تمي الأمديد بمحافظة الدقهلية التي ارتقت اليوم إلى مدينة ومركز، وتخرّج في كلية طب المنصورة عام 1981، ثم اختار تخصصا لطيفا ضرب به عصفورين، وهو تخصص التحاليل الطبية والباثولوجيا الإكلينيكية؛ إذ منحه أولوية السفر والعمل بالمملكة العربية السعودية لربع قرن (1992-2016)، كما منحه فسحة كافية لمواصلة قرض الشعر الذي بدأه في سنّ العشرين. صدر له حتى الآن ثلاثة دواوين، ودراسة أدبية بعنوان (الارتقاء في فن الغناء)، إضافة إلى إبحار مطوّل في الشوقيّات من ثلاثة أجزاء يصدر قريبا، عدا عن مؤلَّفات إسلامية قرآنية بعضها صدر وبعضها على قوائم الانتظار. ورغم أن أرحاما عدّة تجمع بيننا من حيث المولد والنشأة في المركز والمحافظة ذاتها، وكذلك من حيث الجامعة والكليّة والمهنة؛ إلا أنني تعرّفت عليه مؤخّرا عبر الكوكب الأزرق واستضفتُه في صفحة أقلام بيضاء ضمن مجلة الديوان الأدبية الشهرية، ومن خلالها نبتَت بذرة هذا الحوار المنفتح على الطب والأدب والحياة..
***
* في محاولة مضنية لتعريف الشعر، هل تراه مشاعر تخلق اللغة اللائقة بها، أم على قول إمبرتو إيكو: لغة تخلق المشاعر؟
- الشعر شعران؛ شعر يكتب الحدث، وشعر يكتبه الحدث. أما الشعر الذي يكتب الحدث؛ فهو الشعر الذي يحاول به الشاعر أن يترجم الحدث ساعة وقوعه، أو يحيي به مناسبة أو يعرض من خلاله لفكرة مرت بخاطره أو اقتنع بها، والحدث قد يكون حدثا عاما يؤثر في المجتمع من حوله ويتأثر الشاعربه بالقدر الذي يتأثر به الآخرون، وقد يكون حدثا خاصا بالشاعر، وكذلك المناسبة، قد تكون مناسبة عامة أو خاصة، وفي كل الحالات يحاول الشاعر أن يعبّر عما يشعر به نحو هذا الحدث أو تلك المناسبة، وكثيرا ما يجد صعوبة في العثور على استهلال للقصيدة المزمع تأليفها، حتى إنه يكتب ويمحو ما كتبه عدة مرات حتى يعثر على البيت الذي يرضيه، ثم يواصل تأليف القصيدة بالصعوبة نفسها، لذلك تظهر الصنعة الأدبية في القصيدة جلية، فبعض الكلمات يفرضها الوزن وبعضها تفرضه القافية، وكلما كان تأثر الشاعر بالحدث أو المناسبة كبيرا كلما قل التكلف في الألفاظ، وقل وضوح الصنعة في القصيدة، وهذا ما نسميه بشعر المناسبات. أما الفكرة التي يحاول الشاعر أن يصوغها شعرا، فغالبا ما يكون تأثره بها كبيرا، حتى إنه في ساعة صفاء يجد نفسه يتحدث عن هذه الفكرة شعرا، فتخرج القصيدة مترابطة الأفكارعميقة المعاني، وإن لم تبرأ تماما من التكلف اللفظي والصنعة الأدبية، وهو ما نسمّيه بالشعر الفكري، أي أننا نستطيع القول بأن الشعر الذي يكتب الحدث هو ما ينطبق عليه قول من قال إن الشعر هو مشاعر تخلق اللغة اللائقة بها، أما الشعر الذي يكتبه الحدث فهو ما نسميه بالشعر الوجداني وفيه تتضح التجربة الشعرية، وتتضح في كل بيت بل في كل كلمة من كلمات القصيدة، فالتجربة تشترك مع الشاعر بقسط كبير في عملية الإبداع الذي هو سمة ظاهرة في الشعر الوجداني، يتضح ذلك في جزالة اللفظ وتسلسل الأفكاروتدفق المشاعر، فالشاعر يعيش التجربة بكل كيانه، حتى أنها تلح عليه في صحوه وفي نومه فتنصهر بداخله في بوتقة الإبداع لتخرج في صورة قصيدة تؤثر في نفس سامعها أو قارئها بمجرد تلقيها، هذا الشعر لا تكلُّف فيه ولا ركاكة، ولا تتضح فيه الصنعة الأدبية، ولكن الألفاظ تتجاور في سلاسة وتدب فيها روح الإبداع، وهذا هو الشعر الذي ربما ينطبق عليه قول إمبرتو إيكو: إن الشعر لغة تخلق المشاعر.
* برأيك، ما الذي يمكن أن يقدّمه الشعر لإنسان العصر المفتون بالعلم والهائم في بحر التكنولوجيا؟
- الشعر يمثل عاملا رئيسا في حدوث التوازن النفسي الذي هو مطلب كل إنسان لكي تسير حياته دون منغصات فكرية أو انحرافات نفسية، بما يبعثه في النفس من سكينة، وبما يثري به خياله، وما يتركه من أثر في وجدان المتلقّي وفي فكره وخواطره، هذا لمن يهوون قراءة الشعر أو سماعه، ذلك لأن هناك من لا يتقبلون لغة الشعر ولا يقبلون على قراءته لأسباب كثيرة أهمها أن لغة الشعر أصبحت غريبة على الأسماع في هذه الأيام، ومما لا شك فيه أن لافتتان إنسان العصر بالعلم وانخراطه في عالم المادة تأثير كبير على مشاعره، واعتقادي أن الشعر يخلص الإنسان من جفاء المشاعر والأحاسيس الذي يخلفه انخراطه في عالم المادة وطغيانها، ويعطي الروح مساحة أكبرللانطلاق في عالمها من السمو والارتقاء.
* كيف تصف اللحظة الزمانية والمكانية والنفسية التي تهجم فيها على أوراقك البيضاء بغْية تحويلها إلى قصائد؟
- هي لحظة الإبداع التي لا توصف بالكلمات، فالشاعر يتحوّل فيها إلى كائن أكثر شفافية ويحلّق في سماوات الإبداع التي تأخذه بعيدا عن معطيات الواقع، ولا يشعر الشاعر بروعة هذه اللحظة إلا حينما يعود إلى واقعه، ولكن عزاءه في فقدها، ما يلتقطه من آيات إبداعه التي تتمثل في الأبيات التي يجدها بين يديه.
* في ضوء ديوانك الأوّل (أوهام مسافرة)، والذي تمحْور حول الاغتراب، بم أفادتك غربة ربع قرن عن الوطن والأهل؟
- لا شك أن اغترابي عن الوطن قرابة ربع قرن أفادني من الناحيتين المادية و الفكرية، فاستطعت ترتيب أفكاري أو قل إعادة ترتيبها بما يتلاءم مع معطيات الواقع وما تفرضه ظروف العيش، وكان من نتاج ذلك، البدء في تأليف عدة كتب في مجالات مختلفة أقوم الآن بوضع اللمسات الأخيرة عليها تمهيدا لطباعتها، أمّا ديواني (أوهام مسافرة) فإليه يرجع الفضل في محاولاتي تجنب الآثار السيئة للغربة ما استطعت إلى ذلك من سبيل.
* في حوارك الداخلي المتشظِّي بين الطبّ والكتابة، ماذا يقول كلاهما للآخَر؟
- إذا تحدّث الطبّ إلى الكتابة، فهو حديث ثناء عليها، إذ أنقذته من تقوقعه داخل نفسه فانطلق في عالم أرحب ووجد فيها متنفسه الحقيقي. وإذا تحدّثَت الكتابة إلى الطب فهو حديث فيه بعض العتاب من الظلم الذي وقع عليها منه، إذ لم يترك وقتا للانطلاق إلا نادرا.
* من خلال نشاطك كمقرر للجنة الشعر بالنادي الأدبي في قصر ثقافة المنصورة أثناء مرحلة الشباب، ما الذي ينقص المؤسسات الثقافية الرسمية للقيام بدورها الفاعل؟
- ينقصها التنظيم وتوفير وسائل مواصلات خاصة بكل قصر من قصور الثقافة لتسهيل تبادل الزيارات بين أعضاء النوادي الأدبية، ومساعدة الأعضاء على نشر إبداعاتهم.
* كثيرا ما يتحوّل الشعراء إلى كتابة الرواية، ولكنك اتجهت مؤخَّرا إلى الكتابة والنشر في الدراسات القرآنية، فما الذي جرى للشامي حتى صار مغربيا؟!
- الحقيقة أن وجودي بالسعودية بمفردي مدة طويلة، أتاح لي فرصة قراءة القرآن وختمه مرات عديدة، فأُخذت بأسلوبه البديع وشدّتني لغته الراقية التي لا ترقى إليها لغة أخرى، فبدأت في تسجيل أفكار كانت تدور بعقلي وأنا أتابع القراءة، وكثيرا ما كنت أقصر الختمة على فكرة معينة، وكنت أسمّي هذه الختمة: «ختمة تأملية»، وبالطبع ساعدني الحاسوب والباحث الأليكتروني في القرآن على ذلك كثيرا، فجمعْت هذه الأفكار في مواضيع تضمّنتْها الكتب التي انتهيت هذا العام بفضل الله وتوفيقه من كتابتها ومراجعتها، وبقي أن تجد طريقها للنشر، وبالفعل قمت بطبع كتاب «أنبياء الله ورسله .. رؤية قرآنية»، في إحدى دور النشر قبل عامين تقريبا، والله أسأل أن يتم طبع هذه الكتب في أقرب وقت وأن ينفع بها الإسلام والمسلمين.
* بين 1955 وهو تاريخ مولدك، وبين 2022م وهو العام الذي يظلّل الحوار بسمائه، ما أبرز المتغيرات التي عايشتها وتودّ رصدها على صعيدَي الطبّ والشّعر؟
- على صعيد الطب لا نستطيع أن ننكر التطوّر الهائل الذي حدث في مجاليْ التشخيص والعلاج وخصوصا جراحة المناظير، وغيرها من الجراحات الأخرى، أما في مجال تخصصي؛ «تحاليل طبية» فالتطور سريع جدا لا نستطيع رصده في هذه العجالة، ويكفي أن نقول إن الاختبار الذي كان يستغرق عمله حوالي ساعة أصبح الآن يتم عمله في عدة دقائق، بل إن هناك أجهزة تقوم بعمل عدة اختبارت مجتمعة تصل إلى ثلاثين اختبارا في أقل من ساعة. أما على صعيد الشعر فقد اتسعت رقعته اتساعا ملحوظا وكثرت النوادي الأدبية التي يرتادها الشعراء بصفة يومية، وقد التقيت بشعراء كثيرين في هذه النوادي ولكن قليلين منهم من اقتنعت بشاعريته، المشكلة أنّي لا أتذوق بل لا أقرأ إلا الشعر الذي يأخذ الشكل المتوارَث للشعر أما ما يسمّونه بالشعر الحر أو قصيدة النثر أو ما إلى ذلك فلا أجدني مرتاحا إليه. أيضا لاحظت طغيان العامية على الفصحى، فبين كل عشرة شعراء، شاعر واحد يكتب بالفصحى أو اثنان وعلى الأكثر ثلاثة!
*بالعودة إلى تخصصّك الدقيق في الطب وهو التحاليل الطبية، هل كان اختياره ضرورة شعرية تتيح المزيد من التفرّغ للأدب والكتابة؟
- لا .. لم تكن رغبتي في التفرغ للأدب والكتابة سببا لاختيار التحاليل الطبية لتخصصي، فقد اخترت هذا التخصص بعدما عرفت أن أطباء التحاليل مطلوبون للعمل بالسعودية أكثر من غيرهم، وقد كان كل همّي وقتئذ تحسين وضعي المادي، وقد أتاح لي هذا التخصص الانطلاق في عالم الأدب والشعر وإشباع رغبتي في الكتابة.
* أفردْتم للشوقيات ثلاث مؤلّفات قيد الطبع، أما كان الأطباء الشعراء أوْلى بهذا الانتقاء، وذلك على قاعدة الأقربون أوْلى بالمعروف؟ أم للإمارة حُكم نافذ لا يُردّ؟
- أحمد شوقي شاعر العصر الحديث، نهل من معين شعره أكثر الشعراء الذين جاؤوا من بعده، بل من الشعراء الذين عاصروه أيضا، ولقد قرأت ديوان شوقي المسمَّى بالشوقيات في سنّ مبكرة، وحينما أخذني الشعر في عالمه في ثمانينيات القرن الماضي وددْت لو قدّمت بعض قصائد شوقي بشكل يلائم العصر الحديث بعدما أصبحت لغة الشعر غريبة على الأسماع، وفي مطلع العقد الأول من القرن الحالي وضعت هذه الفكرة موضع التنفيذ، والحمد لله انتهيت الآن من كتابة ثلاثة أجزاء من كتاب عنوانه «النسائم العطرات في شرح صفوة الشوقيات»، وآمل أن أكتب أجزاءً أخرى إذا أتيحت لي الفرصة، أما من الشعراء الأطباء فقد قرأت ديوان إبراهيم ناجي وقدمت قصيدة الأطلال وقصيدة القيثارة ضمن كتابي « الارتقاء في فن الغناء»، وسوف تكون لي دراسة في شعره في الأعوام القادمة إن شاء الله.
* يشكو الكُتّاب مرّ الشكوى من سوق النشر ومتاعبه، ما تجربتكم بهذا الخصوص؟
- سوق النشر أصابه الكساد نتيجة لعزوف الناس عن القراءة بصفة عامة وقراءة الشعر بصفة خاصة، وزاد من هذا الكساد وجود بدائل كثيرة للتسلية واكتساب المعارف، وباستثناء ديوان (أوهام مسافرة) الذي تم طبعه ونشره في الهيئة المصرية العامة للكتاب، قمت بطبع ديوان (اغتراب وارتقاب) وديوان (انطلاق وقيود) على نفقتي الخاصة، وأعدت طباعة ديوان أوهام مسافرة) على نفقتي الخاصة أيضا، أمّا كتاب (أنبياء الله ورسله .. رؤية قرآنية) فقد تم طبعه في إحدى دور النشر، ولكن على نفقتي أيضا، وقد كلفني ذلك الكثير لعدم درايتي بالتعامل مع أصحاب دور النشر، فلم أنج من استغلالهم ولا أبالغ إذا قلت جشعهم.
* بالتفاتة إلى ما يقرب من سبعين عاما مضت، ما وصيتك لأولادك وأحفادك من الأطباء والكُتّاب منهم على وجه الخصوص؟
- وصيتي للأطباء منهم أن يختاروا التخصص المناسب لقدراتهم، ولا يمارسوا المهنة إلا بعد أن يتمكنوا من ممارستها ويعرفوا أسرارها ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل، أما الأدباء فعليهم أن يكونوا صادقين مع أنفسهم في كل ما يكتبونه، مع الإلمام بكل قواعد اللغة العربية إلماما تاما، ولا يتعجلوا النشر، فلكل شيء وقته.
**
أجرِي الحوار: د. منير لطفي
في 22-10-2022