حوارات عامة
حوار مع الأكاديمي والشاعر بن عبدالله الحفياني
د. بن عبد الله الحفياني باحث أكاديمي وشاعر سامق في لغته وهادئ في لغته ينظر بشموخ إلى العبارة التي التي يقدمها كما يقدم ثمرة باذخة من ثمار النخل الذي تعلم منه السمو في كل شيء يمزج في كتاباته بين ماهو شعري أكاديمي في الكتابة يجمع بينهما الإنشغال باللغة التي تشكل بالنسبة إليه ملاذا ويبتا ليشكل فيه أسئلته وأفكاره كان لنا هذا اللقاء للإقتراب أكثر من عوالمه منا السؤال ومنه الجواب وتشكل هذا الحوار الذي نأمل أن يكون صورة أكثر وضوحا عن عوالمه وانشغالاته وندع سيرته الذاتية أسفل الحوار للتعرف على جوانب أخرى فيه .
***
س: كانطلاق وتمهيد لهذا الحوار أين يجد بن عبدالله الحفياني نفسه هل في الشعر كسكنى يؤسسها الشاعر في اللغة وبنى استعارية تؤسس وجودها على اشتباك الذات مع اللغة أم في التفكير في اللغة وتفكيك آليات اشتغالها وهو ما يتحدد في مهمة الباحث إلى أي الضفتين تميل أكثر الشعر أو البحث اللغوي؟
ج: بداية، تقبل خالص شكري سيدي محمد الأديب الألمعي على هذه الدعوة الكريمة، وهذه المبادرات التي تستحق كل التنويه والتشجيع، وبعد
يمكن القول إن التعلق بالشعر والكتابة الإبداعية عموما كان إحساسا طفوليا روادني منذ الصغر، وقد بدأت محاولاتي في الكتابة في مستوى التعليم الأساسي الابتدائي، واستمر الحال إلى السنة الأولى من التعليم الجامعي، لكن بمجرد دخولي سلك التبريز، أصبت بما يسمى بالسكتة الإبداعية أو الحبسة النفسية، حينما أدركت أن واقع البحث ومتطلباته في سلك التبريز الذي يعتبر من أصعب التكوينات العلمية في النظام التعليمي المغربي أكبر من النص الجمالي الذي يمكن أن أنتجه، بل إنه أكبر من أن يدع النفس تنضج ذلك الفضول الإبداعي الطفولي الذي راودها قديما على حين غرة ودون سابق إنذار، فتحولت بشكل قسري بناء على ذلك من الكتابة الإبداعية المسكونة بالذاتي الجمالي والمتخيل والإيحائي إلى مستوى الكتابة في الميتالغة أو اللغة الواصفة، سواء في النقد أو اللغة أو اللسانيات، وتكرس هذا الأمر ضمن مساري الأكاديمي قبل الدكتوراه وبعدها أيضا، وصار أكثر ارتباطا بالبحوث اللغوية سواء في النحو أو اللسانيات أو علم المصطلح. طبعا النفَس الإبداعي بداخلي لا يستسلم ولن يفعل بسهولة، وهو ما جعلني أؤوب إلى ضفته بين فينة وأخرى بحثا عن السلام الداخلي والمصالحة مع هذه الذات الجامحة التي أرهقها السؤال والإشكال، لكن الإكراهات الأكاديمية مع ذلك، تجعلني أميل للبحث اللغوي أكثر من الإبداع الأدبي في معظم الأوقات .
س: يلاحظ على كتابتكم الشعرية هيمنة المنحى اللغوي بالمقارنة بالمناحي والأبعاد الأخرى فلسفية.. وغيرها لماذا هذا الاهتمام الكبير بالعوالم اللغوية هل هي اقتضاءات وشروط شعرية يفرضها العروض وتوابعه على آليات اشتغالكم أم قصدية منكم لنحت تجربة ومسار خاصين بكم؟
ج: لا شك أن الشعر فن لغوي بامتياز، وكل الرؤى والعوالم التي تشكله تدين للغة بمهمة التعبير والتشكيل، دون الحديث عن وظيفة التأسيس والتعريف، إذ لا حياة لها دون اللغة ومقتضياتها من المعجم والتركيب وغيرها.
طبعا عندما نتكلم عن الشعر العمودي، فلا يمكن أن نتجاهل قيود القافية والبحر والروي وغيرها من لوازم عمود الشعر كما وضعه المرزوقي (ت 421هـ)، وهو ما يدعوني للبحث عن وحدات معجمية عربية لم تعد متداولة بالقدر الكافي في المشهد اللغوي الحديث أو المعاصر، وكل ذلك من أجل الحصول على التناغم الإيقاعي المطلوب، وهذا يعطي انطباعا للملاحظ أن سؤال اللغة يتعالى عما سواه في تجربتي الشعرية المتواضعة، رغم أنني أكتب أيضا شعر التفعيلة، وأنفتح أحيانا على كتابة قصيدة النثر.
والحال أن هذا المنحى اللغوي الذي يحاول أن يكون مخلصا للغة ما أمكنه في جوانب المعجم والتركيب والدلالة هو خيار شخصي، قد لا يوافقني عليه الكثيرون، لكني أراه مجديا في وقت تعرف فيه الكتابة الشعرية نمطا واحدا سائدا هو قصيدة النثر التي يحج إليها الكثير من الشعراء عن وعي أو من دونه حتى لدى البعض ممن يستسهلون الكتابة الشعرية، لذلك رأيت أن أجد لنفسي هذا المسار الذي ليس بدعا من القول في الحقيقة، لأنه امتداد للتراث الشعري العربي القديم، وهو امتداد أيضا لتجارب شعرية مغربية حديثة ومعاصرة كما هو الحال عند محمد علي الرباوي وحسن الأمراني وغيرهما، وأن أنأى بنفسي عن السائد الشائع الذي يقصده الناس بهوادة وبلا هوادة أيضا.
وصدقني قد لا يبدو هذا المسار المسكون باللغة مجديا عند الكثيرين، لكن ذاتي الشعرية تجد سكينتها الإبداعية فيه، في انتظار أن تجد ذلك التألق والألق المنشودين
س: يمتد اشتغالكم على اللغة إلى مجال الدراسة الأكاديمية كيف ترى واقع البحث في اللغة العربية على المستوى الأكاديمي؟ هل استطاع البحث اللغوي العربي إنجاز شيء مختلف ونوعي مقارنة بما أنجز في الماضي أم أن الأمر ماهو إلا اجترار وتكرار لما أنجز في الماضي أو نقل لما لأنجز بالغرب من علوم ومناهج لدراسة اللغة؟
ج: أولا أنا لست مؤهلا، ولست في موقع يمكنني من الحكم على واقع البحث اللساني في المغرب؛ لأنني أعتبر نفسي لا زلت أمشي على وجهي حسيرا في هذا الميدان، ومازلت في حاجة إلى ثني الركب أمام شيوخه وعلمائه وجهابذته، حتى أتعلم منهم ما لم أكن أعلم، وأتقن ما لا أعرف، لكني أقول مع ذلك أنه رغم التقهقر الذي يعيشه البحث العلمي في الجامعات المغربية كافة، والدليل غياب جامعاتنا في أحدث تصنيف عن نادي الألف لأحسن الجامعات في العالم، إلا أن البحث اللغوي واللساني بمختلف مستوياته ومرجعياته يمكن أن يكون نقطة الضوء الوحيدة التي تميز الجامعات المغربية عن نظيراتها العربية؛ وذلك يعود في تقديري لسببين رئيسيين: الأول هو تمكن المغاربة من التراث اللغوي نحوا وصرفا وبلاغة تمكنا رصينا، دون أن يكون هذا الضبط مدعاة للتقوقع على هذا التراث والانغلاق عليه، بل إنهم أخذوا مسافة منه، وحاولوا أن يسائلوه مبرزين جوانب قوته ومظاهر قصوره في الآن ذاته. أما السبب الثاني، فهو التمكن من اللغات الأجنبية والانفتاح على المدارس اللسانية في وقت مبكر، وهو ما مكن اللسانيين المغاربة من مواكبة التطور الطبيعي لهذه المناهج اللسانية، مع كيفية تبييئها، والاستفادة منها في خدمة العربية، طبعا اللسانيات لا تهتم بهذا الفارق بين اللغات ولا تمنح الأفضلية لإحداها على حساب الأخرى؛ لأن موضوعها هو اللغة الطبيعية، لكن هذا لم يمنع الباحثين اللسانيين من أن يكونوا برغماتيين في التعامل مع اللسانيات خدمة للقضية اللغوية في مواضيع مثل السياسة اللغوية، التوليد المصطلحي، تعليم العربية لغير الناطقين بها، وقضايا المعجم وغيرها.
وهذا ما جعل البحث اللغوي عموما، والبحث اللساني المغربي على وجه الخصوص رائدا على المستوى العربي، بل ان صيته بدا صداه واضحا حتى في الأوساط اللسانية الدولية، وأصبح للسانيين واللغويين المغاربة إشعاع كبير ومكانة محترمة، ومن أمثلة ذلك: عبد القادر الفاسي الفهري رائد اللسانيات التوليدية عربيا، وأحمد المتوكل رائد اللسانيات التداولية، والشاهد البوشيخي مؤسس منهج الدراسات المصطلحية، ومحمد الحناش في النحو التأليفي، ومولاي أحمد العلوي في الدراسات التأثيلية، وعز الدين البوشيخي في العمل المعجمي، وسعيد بنكراد في السيميائيات، ومحمد أمين في التركيب وعبد المنعم حرفان في الصرافة، ومحمد غاليم في الترجمة اللسانية، وعبد المجيد جحفة في البحث المعجمي، ومبارك حنون في الصواتة، ومحمد شحلان، ومحمد التاقي، ومحمد السيدي وعبد العلي الودغيري، وموسى الشامي، وفؤاد بوعلي وآخرون كثر لا يسمح المقام بذكرهم جميعا في سياق هذا الحوار من الذين وضعوا بصماتهم في البحث اللغوي محليا وعربيا ودوليا، وينبني على هذه السردية النظر بإيجابية إلى البحث اللغوي المغربي على مستوى الرواد الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، في أفق أن يسير الخلف على نفس المنوال، مع ضرورة استدعاء النفس التجديدي الطبيعي الذي يميز مرحلة عن أخرى، لمواصلة المسير، أقول هذا الكلام وأنا متيقن أن حكمي يبقى قاصرا، كما قلت آنفا؛ لأنني لا أمتلك كل الأدوات الإجرائية المناسبة التي تخول لي تقييما شاملا وشموليا للمنجز اللساني المغربي أو للمتن اللغوي من البحوت والدراسات في هذا السياق.
س: علاقة باللغة وباهتمامكم بالحقل المعجمي الذي اقتربتم منه كثيرا أكاديميا وشعريا كيف ترى المعجم اللغوي العربي الذي يتميز بميزة خاصة تميزه على اللغات الأخرى وهي الترادف الذي يجعل من اللغة العربية كميا من أكثر اللغات اتساعا معجميا هل يمكن اعتبار الترادف غنى للغة أو عبئا عليها خصوصا أن التواصل الإنساني الفعال والإيجابي يمكن أن تحققه لغة ليست بهذا الاتساع والشساعة المعجمية التي توجد في اللغة العربية؟
ج: أولا هناك اختلاف كبير بين المدارس اللسانية في مسألة ربط اللغة بوظيفة التواصل، ففي الوقت الذي يركز فيه الوظيفيون على التواصل، واعتباره عنصرا أساسيا في دراسة اللغة وفهمها وتفسير بنياتها، فإن التوليديين، يرون أن منزلة التواصل من اللغة ثانوية جدا، وهي بنفس منزلة ضرب كرة القدم من الرِجْل التي لها وظائف أساسية غير لعب كرة القدم، لذلك تجدهم يركزون على جوانب أخرى كالإنتاج والاكتساب وغيرها انطلاقا من فرضية فطرية اللغة مع وجود نحو كلي جامع للغات، ويفسرون كل ذلك ضمن نماذج كالنموذج التوليدي التحويلي / النموذج التركيبي والنموذج العاملي، ونظرية الحواجز، والنموذج الدلالي مع اعتبار الدلالة مكونا تأويليا ثم مكونا توليديا فيما بعد، والبرنامج الأدنوي، إضافة إلى المقاربات الصواتية والصرافية والمعجمية التي تلتئم لتقديم تفسير علمي للغة وفقا للفرضيات المنطلق منها.
وبالعودة إلى قضية الترادف في اللغة، فالأكيد اليوم، بحسب الدراسات اللسانية الحديثة، أن ليس هناك ترادف في اللغة العربية، وفي أية لغة من اللغات الطبيعية، لأن ما نعتبره نحن ترادفا، هو في الحقيقة عبارة عن وحدة معجمية، تشترك في النواة الدلالية مع وحدة معجمية أو وحدات معجمية أخرى، في حين أن المعاني المعبر عنها بينهما تختلف بحسب درجات الاتساع والضيق كمّا ونوعا وشكلا وسياقا، ولذلك فالشك والريب والجرم مثلا، لا تمتلك نفس المعنى، وكذلك أسماء الحب والسيف والأسد، فلكل مفردة معنى مخصوص، يختلف بالضرورة عن سابقه أو لاحقه، وعليه فإن ما يصلح له السابق ويعبر عنه، لا يمكن أن يكون هو نفس ما يلتئم مع اللاحق وينسجم معه.
وينبني على ذلك القول: إن ما يميز العربية هو كثرة جذورها المعجمية وقابليتها للنمو بالاشتقاق وليس بالإلصاق، وهو معطى غاية في الأهمية، لأنه يسهل عمليات التوليد المصطلحي من اقتراض وتدخيل وتعريب وترجمة واشتقاق، وهو ما يضع العربية في صلب الحضارة الإنسانية.
أما مسألة التواصل فالأكيد، كما تفضلتم، أنه قد يكون فعالا حتى في اللغات التي يشح معجمها، وذلك لسبب بسيط هو أن التواصل ظاهرة إنسانية ثقافية قبل أن يكون ظاهرة لغوية، لذلك فالإنسان يمكنه الاستغناء عن الملفوظ (الألفاظ) في التواصل، ويكتفي بالتواصل الإشاري عبر حركات الجسد وتعبيراته، أو التواصل النسقي الثقافي عبر مكونات هويته المختلفة، أو التواصل الوظيفي، كما هو الحال في لوائح التشوير الطرقي واللافتات والملصقات والإشهارات وغيرها، بل إن هذا النوع من التواصل، أقصد غير اللفظي، يكون ضروريا في بعض السياقات والمقامات، وبالتالي فإن غنى المعجم أو افتقاره في علاقته بالتواصل، لا يمكن أن يكون ميزة إلا في الشيء اليسير، كما لا يمكنه أن يكون آفة في اللغة الموسومة به أو عبئا عليها؛ لأن آثار المعجم تبدو واضحة أكثر عندما يتعلق الأمر بالوظيفة الحضارية للغة في استنبات العلوم أو نقلها أو وصفها أو تفسيرها، أما في التواصل الإنساني العادي اليومي، فإن هذا الأثر يكون أقل وضوحا وأقل طلبا.
س: في علاقة بالمعجم باللغة لكن هذه المرة في ما يخص علاقة المعجم بالشعرية خصوصا أن الشعرية العربية عرفت تطورات مهمة وتحولات منحت اللغة طاقات وآليات جديدة بظهور أشكال شعرية جديدة من قبيل قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر وقصيدة النثر هل استطاع المعجم الشعري العربي مواكبة هذه التحولات والتعاطي إيجابيا أم أن هيمنة المعجم الشعري الجاهلي والأموي والعباسي سيبقى هو المهمين على الشعرية العربية أم أن اللغة العربية بالوضع الحالي ليس بمستطاعها مجاراة هذه التطورات؟ كيف ترى هذه التطورات وهل بالإمكان تشكيل معجم لغوي بعيدا عن المعجم السالف ذكره؟
ج: التطورات في اعتقادي المتواضع هي تطورات طبيعية، بالنظر إلى كثرة الزخم الذي صاحب الشعرية العربية منذ مراحلها الأولى وحتى اليوم، سواء من حيث المنجز الشعري أو آليات قراءته أو الخلفيات والمناهج النقدية الموازية. ولا شك أن المتابع لصيرورة الشعر العربي يستطيع أن يلمح بسهولة مجمل التحولات الطارئة على الكائن الشعري الذي تمثله القصيدة، إن على مستوى الشكل المورفولوجي أو الإيقاعي أو البلاغي، أو المعجمي وهو الذي يعنينا في هذا المقام، تبعا لسؤالك، حول ماهية التحول في المعجم. وهنا لابد من إبداء ملاحظة تبدو لي أساسية في هذا السياق، وهي أن معجم القصيدة العربية تدرَّج من "التعقيد" نحو البساطة بشكل مرحلي ومدروس أملته شروط ثقافية وظروف سياسية اجتماعية معلومة، فالمعجم في الشعر الجاهلي ليس هو نفسه في الشعر الإسلامي أو الأموي أو العباسي أو المغربي والأندلسي أو الرومانسي أو شعر التفعيلة، وهكذا الأمر مع جميع المحطات الشعرية العربية. وإذا كان معلوما، أنه كلما تقدم الزمن، إلا وتخلص المعجم الشعري من طابع التعقيد، إلا أن الملاحظة التي أريد التعبير عنها في هذا السياق، ولو على عجل، أنه كلما ضاقت بيئة إنتاج الشعر، وتقلصت مساحة متلقيه والمعنيين به أساسا، إلا وكان المعجم ضاربا في التعقيد وغارقا في الغرابة، لذلك وجدنا أن الشعر الجاهلي كان أغرب مما سواه من أشعار في المفردات المستعملة؛ لأنه كان شعرا "قبليا" بامتياز، من حيث قصدية رسالة الشاعر، أو من حيث طبيعة المتلقي المعني بفهم القصد من الرسالة، وبناء عليه فشعر "عنترة بن شداد" مثلا هو موجه للمتلقين من قبيلة بني عبس بالأصالة وما سواهم بالتبع، ولذلك من الطبيعي أن يتضمن شعره بعض المفردات التي لا تتداول إلا في هذه القبيلة والتي قد لا تفهمها القبائل الأخرى، وهكذا الأمر مع كل شعراء تلك الفترة، وهو ما جعل أشعارهم مليئة بالألفاظ غير الشائعة، لكن عند الانتقال إلى الشعر الإسلامي، اتسعت رقعة القصد والتلقي أيضا لتشمل الجزيرة العربية وغيرها من البقاع، ولذلك تخلص الشعر من بعض التعقيد قياسا إلى المرحلة الجاهلية؛ لأن وظيفة الإبلاغ لم تعد متقوقعة في بيئة منغلقة على ذاتها، بل صارت تشمل عددا كبيرا ممن يجب أن يفهموا المقصود من الرسالة دون غبش، وهكذا الحال مع الفترتين الأموية والعباسية، إلى أن وصل الشعر إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وفي هذين النظامين صار المعجم أكثر وضوحا وبساطة، وتوجهت الغرابة إلى التركيب عوضا عن الكلمة الواحدة، وذلك عبر تقنية الانزياح واستعمال الرمز والأسطورة والانفتاح على التمثلات الفلسفية والدلالات الفكرية العميقة، لقد تخلص الشعر من الطابع القبلي والطابع القومي ليكون عبارة عن رؤية للعالم مشكلة من رؤيا حالمة بانصهار الذات الشاعرة فيما هو إنساني شمولي كوني، وهنا خلاصة الملاحظة التي عبرنا عنها آنفا، والتي يمكن اختزالها في المفارقة التالية: كلما غرق الشعر في التعبير عن الذات بالمعنى الاجتماعي والجغرافي والثقافي وانغلق عليها من حيث القصدية الأولى، كلما كان المعجم معقدا معبرا عن طبيعة المفردات السائدة في ذلك السياق. وكلما انطلق الشعر نحو العالم ليعبر عن إنسانية الإنسان، كلما كلف نفسه البحث عن المشترك إنسانيا على كل المستويات، ومن ضمن ذلك اللغة والمعجم اللذين صارا واضحين مألوفين؛ ولذلك يمكن أن نقول إن الشعر الحديث والمعاصر، لا شيء فيهما عربي غير اللغة وبعض من المعيش اليومي اجتماعيا وسياسيا الذي يطفو هنا وهناك؛ لأن الرؤية الكونية طغت على ما سواها، فسار الفرق بين الشعراء على اختلاف جنسياتهم كامنا في اللغة وما يتبعها من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية، دون وجود فروق كثيرة في مستويات أخرى.
أما عما إذا كان معجم اللغة العربية قادرا على رصد التحولات الممكنة، فأقول باختصار شديد إن التحولات الراهنة لا تشكل عبئا على المعجم العربي الذي يمتلك من المرونة الصرفية، ما يجعله قابلا للتشكل في صيغ صرفية متعددة، كما أنه يمتلك بهذه الخصيصة طاقة توليدية هائلة تربو عن أربعة وعشرين مشتقا للجذر الواحد باعتبار نظام التقليبات وما ينتج عنه من المستعمل والمهمل، وبناء عليه فإني أعتقد أن أي معجم لغوي جديد يمكن أن يُشكَّل، سيكون بمثابة الوريث الشرعي للمعجم السابق عليه؛ لأنه لا ينفك عن قوانينه الصوتية أو الصرفية ولا يخلو من مقتضياتها، وسيكون في أحسن أحوال تحرره وتصرفه تحت وصاية اللغة ومشمولا برعايتها ومحكوما بتوجيهاتها وقوانينها.
س: لنعرج قليلا بعيدا عن اللغة المعجم وندخل في الاشتباكات التي تؤسسها اللغة مع الثقافة حيث إن اللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة رغم استقلال كل واحدة منهما على الأخرى، كيف ترى واقع العلاقة بين الثقافة واللغة على مستوى اللغة العربية؟ وهل باستطاعة اللغة العربية أن ترقى بواقع الثقافة العربية؟
ج: الثقافة في أوسع مفاهيمها هي كل ما يُثْقِفُ العقل فيسهم في تقييد انطباعاته الذوقية بقيود معلومة وقابلة للتحكم فيها، حتى لا يزيغ عن المقصود من حيث يُظَن أنه بهذه الحرية الانطباعية يمكن أن يفضي إلى المقصود، فيحقق بعضا من مراميه ومقاصده، لكننا إذا شئنا أن نحد من فوضوية دلالة الثقافة، يمكن أن نقول إنها تقع في منطقة وسطى بين الهوية والحضارة، فالأولى خاصة بطبيعة الانتماء، والثانية خاصة بمكونات هذا الانتماء وتجلياته المختلفة، والثقافة بينهما لأنها عنوان بارز لهذا الانتماء، إذ إن طبيعة ثقافتي تعكس هويتي، والثقافة تعكس هوية جنس الإنسان عموما تمييزا له عن سائر الحيوان، لأنها مؤشر قوي على الكائن العاقل، والطبيعة في مقابل ذلك تعبر عن الطابع الغريزي الشهواني الذي قوامه المطعوم والمشروب والمنكوح بحسب عبارة ابن سينا، والثقافة في المقابل جزء لا يتجزأ من الحضارة التي تشكَّل من الإنسان والعرفان واللسان والأديان والعمران، وبهذا المعنى فهي تجمع الطرفين الحضارة والهوية، لكن هذا الجمع لا يكون إلا فيما كان إنتاجا بشريا خالصا، ولا دخل للمرجعيات الميتافزيقية أو اللاهوتية فيه بحسب وجهة نظري المتواضعة.
وتبقى علاقة اللغة بالثقافة مشْكلة بالنظر إلى أن أغلب من تطرقوا للموضوع لم يميزوا بين الفكر في ارتباطه باللوغوس (Logos)وتلويناته الدلالية المختلفة، والثقافة في ارتباطها بالمنجز المادي المعلوم من اللغة والفن والعلوم وغيرها، فجعلوا، وفقا لهذا الفهم المغلوط، اللغة قرينة الثقافة ووجها من وجوهها، والحال أن اللغة ملازمة للفكر، لأنه لا يتصور وجود لغة من دون فكر يسندها، كما لا يوجد فكر من دون إواليات اللغة ومبادئها المنطقية والنحوية التي يمكنها التعبير عن الفكر في قوالب صورية تمكن من إنتاج دلالات معقولة ومقبولة تركيبيا، ولذلك قالوا: (إن الفكر لغة مهموسة، واللغة تفكير بصوت مسموع) للدلالة على طبيعة هذه العلاقة الاستلزامية بينهما وشدة اقتضاء أحدهما للآخر .
أما العلاقة بين اللغة والثقافة، فتختلف عن علاقة الاستلزام الآنفة الذكر؛ لأن اللغة جزء من الثقافة، كما أنها جزء من الحضارة والهوية أيضآ، أما الثقافة فجزء من الهوية من جهة، ومن الحضارة من جهة أخرى كما أسلفنا .
طيب إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فما علاقة اللغة بالثقافة؟؟ لقد سبقت الإشارة إلى أن اللغة جزء لا يتجزأ من الثقافة، فالكائن الثقافي هو الكائن الناطق، والنطق هنا لغة ومنطق في الآن ذاته، بمعنى أنه كائن لغوي وكائن عاقل بالتبع، والدليل على أن اللغة جزء من الثقافة، أن محددات تمييز الذات عن الآخر ثقافيا، يكون رائزها ومعيارها الأول هو اللغة، فاختلاف العربي عن الفرنسي مثلا، له مؤشرات منظورة ومسطورة، وأولها اللغة، فأنا مختلف عنه لأنني لا أشاركه اللغة نفسها، ثم يأتي بعد ذلك الجنس والقيم وغيرها... ولكن اللغة بهذا المعنى ليست جزءا سلبيا تابعا للثقافة بلا أثر عليها؛ لأنها ظاهرة قابلة للاكتساب، ولأنها الأداة الحاملة والوعاء الذي تُصْرَف فيه المضامين الثقافية على قَدَر وعلى فترات، فالثقافة من دون اللغة المعبرة والأداة الحاضنة تبقى في حالة كمون إذا شئنا استعارة المصطلحات الطبية، ولن تنشط وتفعل إلا باللغة، كما أنها تبقى موجودة بالقوة في غياب اللغة إذا شئنا استعارة العبارات الفلسفية، ولن يكون لها الوجود الفعلي إلا باللغة التي تحققها وتمنحها وجودها المادي المعلوم، ثم إنها تبقى داخل البنية العميقة مالم تُصَوْرِنْها اللغة إذا شئنا استعارة اصطلاحات اللسانيين، ولن يكون لها تمظهر في البنية السطحية إلا بمباركة اللغة، فاللغة بهذا المعنى هي الجزء الذي يتوقف عليه تفعيل الكل الذي هو الثقافة، إن العلاقة بينهما معقدة نوعا ما، لكن الحاجة إلى طبيعة التمفصلات القائمة بينهما تبرر هذا التعقيد وتقعد له القواعد التي تضمن استمراريته ونجاعته في الآن نفسه.
ووفقا للسالف يمكن القول إن حدود مسؤولية اللغة العربية أو أية لغة أخرى في الرقي بالثقافة تبقى محدودة، بالنظر إلى أن الوعاء الذي هو اللغة هنا، يفترض فيه أن يكون شكلا ثابتا، وأن المحتوى المفرغ فيه الذي هو الثقافة هنا، يجب عليه أن يأخذ شكل الوعاء ومقاساته، هذا إذا كنا نعتبر أن العلاقة تتخذ طابعا ميكانيكا طبقا لعلاقة الوعاء والمحتوى السالفة الذكر، لكن مهلا، فالأمر ليس بهذه التبسيطية، مادامت اللغة كما سبق ليست جزءا سلبيا، فهي ليست شكلا ثابتا، بل هي كائن متطور ينمو ويكبر وقد يموت، وهذه الحالات التي تعتري كل لسان، تؤثر على الثقافة وتعتريها، فاللغة الميتة تعني ثقافة لا وجود لها، وعليه فاللغة يمكن أن ترتقي بالثقافة إذا كان المتكلم بها منخرطا في المشاريع الثقافية الصغرى والكبرى على السواء، بشرط أن يتعالى إنتاجه الثقافي عن الذاتي ومقتضياته، وأن يكون مخلصا للثقافة في ذاتها ومن أجل ذاتها لا لشيء آخر سواها، وهكذا يمكن أن نقول إن المسؤول عن رقي الثقافة أو تقهقرها هو الإنسان بالأصالة وليس اللغة؛ لأن تأثيرها يكون بالتبع لمن تكلم بها وحملها ما شاء مما عنَّ له من المعاني والدلالات والأفكار والقيم.
كلمة أخيرة؟
ج: أود في الختام أن أشكرك سيدي محمد على الاستضافة الكريمة، وعلى إدارتك المتميزة لهذا الحوار من خلال أسئلتك الدقيقة العميقة، وأرجو أن تتكرر مثل هذه المبادرات النبيلة التي تعرف بثقافة الهامش، هذه الثقافة التي تتناصر عليها عوامل متعددة في مقدمتها الهامش نفسه الذي يبعدها عن الأضواء ودوائر الاهتمام والمواكبة، ثم التهميش وغياب التحفيز والتشجيع، ومن شأن مثل هذه المبادرات الإعلامية وغيرها من مبادرات المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين أن ترتقي بالممارسة الثقافية خدمة للإبداع والمبدعين في أفق التصدي للعبث والتفاهة المتفشيين في مجتمعنا اليوم بفعل الانتشار الواسع للثقافة الرقمية التي لا تعرف قيودا ولا حدودا تمنعها من التفشي والانتشار بين فئة واسعة من الناس، وعلى حساب الثقافة الجادة للأسف. مرة أخرى شكرا لك، ودام لك التوفيق والتألق .
***
حاوره محمد العزوزي
د. بن عبد الله الحفياني.. سيرة ذاتية موجزة
- أستاذ مبرز بمركز تحضير شهادة التقني العالي (BTS) بتاونات
- حاصل على شهادة الدكتوراه، تخصص الدراسات اللغوية والمصطلحية، من كلية الآداب ظهر المهراز بفاس، يونيو 2018
- حاصل على شهادة التبريز في اللغة العربية، من المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، يوليوز 2006
- عضو متعاون مع فريق البحث النص والفكر والنموذج التفسيري (نفس) بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية، جامعة المولى إسماعيل مكناس.
- عضو الهيئة العالمية للعلماء والباحثين
-عضو اللجنة العلمية الاستشارية لمجلة التحبير الدورية للدراسات اللغوية والأدبية والنقدية التي تصدرها كلية الآداب والفنون، جامعة حسيبة بن بوعلي، مدينة الشلف، بالجزائر.
- عضو باحث في المعجم التاريخي للمصطلحات اللغوية المعرفة الذي تنجزه مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) بفاس،
- عضو باحث في مشروع المعجم المفهومي لمصطلحات القرآن الكريم الذي تنجزه مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) بفاس
-عضو اللجنة العلمية لتحكيم بحوث الكتاب الجماعي التلقي العربي للمصطلحات اللسانية والأدبية الحديثة، سلسلة استكتابات جماعية4، 2021
- عضو اللجنة العلمية للندوة الدولية الأمن اللغوي في البلدان العربية من تشخيص الواقع إلى استشراف المستقبل الذي نظمه مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات 1
-عضو اللجنة العلمية لتحكيم البحوث المعدة للنشر من مجموع البحوث المشاركة في الندوة الدولية اللسان العربي بين الخصوصية والكونية، دراسات في الخصائص والتحديات والآفاق، التي نظمها مختبر الأدب والبناء الحضاري بكلية الآداب- وجدة
- عضو اللجنة العلمية والاستشارية وتحكيم بحوث الندوة الدولية: اللسان العربي والاحتلال الأوروبي في الدول المغاربية، دراسات في العلاقة والنتائج والآفاق التي نظمها مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد)
-عضو اللجنة العلمية والاستشارية، وتحكيم بحوث الندوة الدولية: النص القرآني والعلوم اللغوية، دراسات في ضوء تكامل المعارف الذي عقدته مؤسسة باحثون للدراسات والأبحاث والنشر والاستراتيجيات الثقافية- المغرب، بالاشتراك مع الجمعية الليبية الدولية لعلوم اللغة العربية- ليبيا.
- عضو اللجنة العلمية والاستشارية، وتحكيم بحوث الكتاب الجماعي الأسس المعرفية والمرجعيات الفلسفية للدراسات اللغوية العربية، تنسيق مصطفى العادل وسلام أورحمة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول وجدة.
- عضو اللجنة العلمية والاستشارية، وتحكيم بحوث الكتاب الجماعي الموسوم باللغة واللهجة قضايا وإشكالات الذي أصدره مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد).
- عضو اللجنة العلمية والاستشارية وتحكيم بحوث الكتاب الجماعي قضايا في اللسانيات وتحليل الخطاب، أبحاث لغوية ولسانية، وهو في جزأين، والصادر عن عالم الكتب الحديث إربد، الأردن.
- عضواللجنة العلمية والاستشارية، وتحكيم الكتاب الجماعي بــأبحاث لغوية وأدبية في كتابات الشيخ علي الطنطاوي: قضايا نحوية ولغوية، وهو كتاب في جزأين، عالم الكتب الحديث، ط1، 2021، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن.
- مشارك في العديد من المؤتمرات الدولية والوطنية والجهوية والمحلية ذات الصلة بالفكر اللغوي واللسانيات والمصطلح
- أصدر مجموعة من المقالات العلمية المحكمة دوليا في كتب جماعية ومجلات متخصصة
- وله كتابان فرديان وديوان شعري تحت الطبع