حوارات عامة
د. فوزي حامد الهيتي يحاور الفيلسوف العراقي د. نمير العاني حول قضايا فلسفية
أقام قسم الفلسفة في جامعة الكوفة مؤتمره الفلسفي الاول. وكان ضمن محاوره دراسة المشهد الفلسفي العراقي المعاصر. وكلفت حينها بكتابة بحث تعريفي عن الفيلسوف العراقي المغترب نمير العاني الذي لم أكن اعرف عنه ساعة اقتراح الموضوع سوى اسمه. وعند الشروع بجمع المادة العلمية عنه صار لنا اتصال مباشر معه جرى خلالها طرح اسئلة استفسارية للالمام الكافي بجوانب فلسفته، كان من نتائجها إثارة موضوعات فلسفية مهمة منها آرائه النقديه للقراءة الماركسية لعدد من الفلاسفة السوفيت المعاصرين ونقده للمدرسة العقلانية النقدية ممثلة بكارل بوبر فضلا عن تصوراته لمفهوم النظرية العلمية ومعاييرها. ولاهمية هذا الحوار إرتأينا نشره منفصلا بصيغة مقابلة او حوار فلسفي. ونزولاً عند رغبته في نشر هذا الحوار في مجلة الثقافة الجديدة حيث كان يعمل في تحريرها خلال عقد السبعينات من القرن الماضي تم نشره في فعلا فيها بعددها في عددها المزدوج (398 – 399) لشهر تموز 2018. ولأهمية موضوع الحوار ورغبتنا بنشره على نطاق أوسع، نعيد نشره مرة أخرى. والاستاذ الدكتور نمير مهدي العاني. حاصل على شاهدتي دكتوراه في الفلسفة الحديثة كلاهما من جامعة سان بطرس بيرج الحكومية الروسية (جامعة لينينغراد سابقاً) الاولى سنة 1971 موضوعها في (العلاقات الاجتماعية) والثانية دكتوراه علوم في الفلسفة وهي اعلى شهادة تمنح في روسيا. سنة 1983 والموسومة (الديالكتيك المادي.. النظرية الاعم للتطور). عمل تدريسيا في قسم الفلسفة جامعة بغداد في سبعينات القرن الماضي ومن ثم استاذا زائراً في جامعة عدن خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي واخيرا استاذ كرسي الفلسفة في جامعة الدولة لتكنولوجيا المعلومات والعدسات والميكانيكا الدقيقة (إيتمو) في سان بطرس بيرج – روسيا الاتحادية، الى أن وصل السن القانوني للتقاعد عام 2002، ولكنه واصل العمل (كمتقاعد عامل) في الجامعة نفسها حتى الأول من كانون الثاني عام 2017 حيث استقال من عمله وتفرغ تماما للبحث العلمي. لديه عدد كبير من الابحاث العلمية قاربت المئة بحثا, فضلا عن عدد كبيرمن الكتب والدراسات الفلسفية المنشور أغلبها باللغة الروسية وللأسف الشديد.
- سؤال: خلال قراءتي لمشروعكم الفلسفي اثرتم في بداية حديثكم قضية مهمة تتلخص في تقديمكم قراءة جديدة للديالكتيك يعيد له طابعه الثوري المتمرد هذه الصفة التي غابت في قراءة المدرسة السوفيتية الرسمية للديالكتيك والمدرسة الماركسية بعامة وأحالتها (الفلسفة الماركسية) من فلسفة وظيفتها بحسب الفهم الماركسي تغيير الواقع الى فلسفة تبرر الواقع ووصفت هذه القراءة بفلسفة الركود او الجمود بحسب توصيفكم. ومن ثم شرعتم بشرح مقومات فهمكم للديالكتيك بعده بردايم للوجود يمكن من خلاله تفسير كل مظاهر الوجود وحركته التفاعلية التطورية. ولكن لم نلاحظ خلال عرضكم اي مقارنة ومقابلة بين فهمكم للديالكتيك المادي وبين الفهم السوفيتي له الذي قاد الى حالة الجمود والتبرير. هل بالامكان ايضاح ذلك اكثر وبخاصة في جانب العلاقات الاجتماعية؟. هل القراءة التبريرية السوفيتية للماركسية هي التي افضت الى انهيار التجربة السوفيتية ؟. الحديث بالعموميات لا يفسر. وما طرحتموه من قراءة مخالفة أمر مهم يمكن أن نحدد من خلاله فهمكم للديالكتيك الماركسي إذا ما جرى مقابلته بالقراءة الاخرى التبريرية. وبصراحة اكثر اين تكمن القراءة التبريرية للديالكتيك الذي احاله من منهج ثوري مغيّر للواقع الى منهج مبرر له؟.
* نمير العاني: في دراستي عن الديالكتيك لم تكن غايتي التحليل النقدي الشامل للمدرسة الفلسفية السوفياتية. فقد إنصب كل إهتمامي في هذه الدراسة على بلورة فهمي الخاص والمتميز للديالكتيك الماركسي. وبطبيعة الحال إنني عند صياغة هذا الفهم وجدت نفسي مضطراً ان اتناول بالنقد هذه او تلك من تصورات الكثيرين من الفلاسفة السوفيات، والتي شكلت في تقديري خروجاً عن روح المنهج الجدلي. ولهذا استطيع ان اقول بان نقد هذه التصورات كان نتاجاً عرضياً للدراسة، ولذا فإن القارىء يجد هذا النقد منثوراً في اماكن مختلفة من الدراسة وليس ممركزا ومكرساً في احد فصولها دون غيره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اشير هنا إلى إنني عند صياغة تعريفي للتطور تعرضت بالنقد للفكرة التي كانت طاغية في الفلسفة السوفياتية والقائلة بالتطابق التام بين مفهومي التطور والتقدم. لقد رأيت في هذه الفكرة خروجاً فاضحاً عن المنهج الجدلي، معتبراً إياها فهماً وحيد الجانب، اي فهماً ميتافيزيقياً (إنني هنا وفي بقية اجزاء إيضاحاتي الحالية اردد هذا المصطلح بمدلوله المنهجي وليس النظري، اي أعني بالميتافيزيقا المنهج المناويء للمنهج الجدلي،... اللا ديالكتيك). فالتطور ليس بحركة صاعدة على الدوام، ليس بسيرورة إلى امام على طول الخط. إنه، وكاي شيء في الوجود، ذو طبيعة متضادة داخلياً. ولذا ففي المنحى الذي نتحدث عنه هنا يشكل التطور وحدة جدلية للتقدم والتقهقر (التراجع، الإرتداد..إلخ). إنه، إذن، ليس بعملية خطية تجري بخط مستقيم، بل هو سيرورة متعرجة تجري في كافة الإتجاهات (صعوداً وهبوطاً، إلى الأمام وإلى الخلف). ومما له دلالة علمية في هذا الصدد ما اثبتته مثلاً، الدارونية حتى في صيغتها الكلاسيكية في ان تطور بعض الكائنات الحية من الممكن ان يتم من خلال تبسيطها لبنيتها، اي بإنتقالها من المعقد (الأرقى) إلى البسيط (الأوطىء)، لأن تبسيط البنية يساعد هذه الكائنات على التكيف الأفضل للبيئة المتغيرة. وبهذا يصبح التقهقر شكلاً من اشكال التطور الحيوي. كما انه يتجلى ايضاً في الصيرورة التاريخية وفي التطور الإجتماعي. وليس ثمة ما هو غريب في ذلك إن اخذنا بعين الإعتبار ان التقدم والتقهقر هما ضدان جدليان لا يمكن لأي منهما ان يوجد بمعزل عن الآخر. فلا تقدم بلا تقهقر ولا تقهقر بدون تقدم. وبالفعل، إننا نجد ان اية ظاهرة في مجرى تطورها تتقدم في بعض جوانبها وتتقهقر في جوانب اخرى. كما واضيف إلى ذلك إن الصراع بين هذين الضدين بشكل عام لابد من ان يحسم في كل طور من اطوار تطور الظاهرة لصالح احدهما. ففي هذا الطور يطغي التقدم على التقهقر وبذلك تكتسب السيرورة التطورية للظاهرة دلالة تقدمية، وفي طور آخر يصبح التقهقر هو الغالب، الأمر الذي يضفي طابعاً تقهقرياً على تطور الظاهرة. فما هو غالب في طور يتحول إلى مغلوب في طور آخر، وبالعكس، ما كان مغلوباً يصبح غالباً. إننا نشاهد ذلك في كل مكان وزمان. فإن كانت الحياة على سطح كوكبنا تعيش في طورها الحالي فترة إزدهار وتقدم بشكل عام مع تقهقر محدود هنا وهناك، فهذا لا يعني إنها ستبقى كذلك إلى الأبد. فلا بد لهذا التقدم والإزدهار ان يخلي مكانه في طور لاحق لتقهقر عام للحياة، من الممكن ان يؤدي إلى تلاشيها من على سطح الأرض حتى قبل نهاية كوكبنا والمنظومة الشمسية. وليس هذا بالأمر الغريب في عالمنا. فهنالك، مثلاً، فرضبة تقول بان الحياة قد اقبلت، ومن ثم ادبرت على سطح المريخ، اي إزدهرت وبعدئذٍ تقهقرت وإندثرت اخيرا هناك. وما قلناه حول التقدم والتقهقر من الممكن ان يؤكد ايضاً بخصوص المجموعة الشمسية، بل وعموم الكون. فإن إعتبرنا إن الحالة الراهنة لكوننا، والتي بدأت بنشوءه وبداية توسعه بعد الإنفجار العظيم، هي حالة تقدم وإزدهار، فهنالك العديد من الفرضيات في علم الكون (الكوزمولوجي) تذهب إلى إن هذه الحالة لا بد وان تخلي مكانها في الطور اللأحق في مسيرة الكون لنقيضها، اي لحالة التقهقر والإرتداد. ومن بين هذه الفرضيات اشير إلى تلك التي تقول بان توسع الكون لا يمكن ان يجري بلا نهاية، وإنه عاجلاً ام آجلاً لا بد وان ينتهي في ذلك الى حد له، الذي عنده يبدأ الكون حركته المعاكسة، اي حركته إلى الوراء او سيرورته التقهقرية، التي تتميز بجريان الزمن فيها إلى الوراء من الحاضر إلى الماضي. وقد دعيت هذه السيرورة ب "الإنكماش العظيم"، والذي سينتهي بالكون إلى الحالة المتفردة، التي من غير المستبعد ان يحدث فيها إنفجار عظيم جدبد.
هذا وهنالك العديد من التصورات الآخرى للفلاسفة السوفيات التي اختلفت معهم فيها واخضعتها للنقد، اذكر من بينها مفاهيم الحركة والتغير والسببية والقديم والجديد والإبداع البشري وغيرها. وفي سبيل الإلمام باوجه الإختلاف بيني وبين هؤلاء الفلاسفة ينبغي عليك قراءة دراستي من بدايتها وحتى نهايتها، او في الأقل الإطلاع على كتابي حول " "مبدأ التطور وعلاقته المتبادلة مع مبادئ وحدة العالم والتشارط المتبادل والتعاكس العام. منشورات مركز الدراسات الإشتراكية في العالم العربي، دمشق، 1988 " والذي في متنه تمت الإشارة إلى جزء من هذه التصورات. وقد وجدت من اللازم ان اقف في مقدمة هذا الكتاب وقفة موجزة على خلافي المنهجي مع الكثير من الفلاسفة المعاصرين الذين بحثوا وكتبوا في مشكلات الديالكتيك المادي. وهنا اسوق لك المقطع التالي الذي اقتبسه من هذه المقدمة، والذي يسلط بعض الضوء على هذا الموضوع، توخياً للإفادة، إذ من غير المستبعد إنك لم تحصل على هذا الكتاب حتى الآن:
"إن السمة الأساسية، بل واقول الخصيصة الماهياتية التي ينماز بها البحث الذي اقدمه إلى القارىء الكريم بين دفات الكتاب الحالي، بل وتنماز به مجمل الدراسة التي استل منها هذا البحث، من الممكن ان تلخص في إستخدام الديالكتيك المادي كمنهج فلسفي لبناء الديالكتيك المادي كنظرية فلسفية. او بكلمات اخر، استطيع ان اقول بان البحث الحالي (شأنه بذلك شأن الدراسة المذكورة برمتها) يشكل في حقيقته الفعلية خلاصة لإنعكاس الديلكتيك المادي في ذاته ومن خلالها، اي خلاصة لعكس الديالكتيك المادي لذاته في ذاته وعبرها. فهو، كما عبر بدقة احد الأساتذة السوفيات الذين إطلعوا على الدراسة المشار إليها وشاركوا بتقييمها، اقرب ما يكون إلى " ديالكتيك عن الديالكتيك نفسه ".
واود ان اشير بالإرتباط مع ذلك وان اؤكد على إن إعتمادي الفعلي على الديالكتيك المادي كمنهج اساسي كامل السيادة في تحليل ومعالجة وحل مشكلات الديالكتيك نفسه (اي، إستخدامي للديالكتيك منهجاً لبناء الديالكتيك نظريةً) هو الظرف الذي مكنني بالتحديد من الوصول في دراستي التي اشرت إليها آنفاً إلى ما إنتهيت إليه من إستنتاجات وخلاصات مهمة تخرج في العديد من دلالاتها ومضامينها على ما هو شائع ومألوف من تصورات باتت اقرب إلى التقليد الفلسفي في ادبنا الماكسي المعاصر. وإنني إذ اشير إلى ذلك واؤكد عليه، لا يسعني في الوقت نفسه إلأ ان الاحظ إن الكثير من الأعمال الفلسفية لمفكرين وفلاسفة معاصرين، والتي تتناول بالدراسة والبحث مشكلات الديالكتيك المادي (و احياناً مشكلات فلسفية اخرى تخرج عن دائرة هذا الأخير المباشرة) تعتمد في الواقع الفعلي (و بالرغم من التصريحات والتوكيدات اللفظية) المنهجية الميتافيزيقية في معالجاتها النظرية. وفي هذا بالذات يكمن، كما أرى، سر (سبب) زوغان هذه الأعمال في العديد من موضوعاتها وأطروحاتها وإستنتاجاتها عن درب الحقيقة بشكل عام وحيودها عن النظرة الديالكتيكومادية الحقة على وجه التحديد.
و من الغريب، بل ومن باب المفارقة حقاً، ان نلاحظ في هذا السياق ان الوزن النوعي لإعتماد وإستخدام المنهج الديالكتيكومادي في البحث هو اعلى في الدراسات العلموطبيعية منه في الدراسات العلموإجتماعية عموماً والدراسات الفلسفية على وجه الخصوص. اما سبب ذلك وتفسيره، فيعود في التحليل الأخير، كما يبدو لي، إلى حالة الركود في السيرورة الإجتماعواقتصادية. وبالفعل، ان المنهج الوحيد الذي يستطيع ان يعبر باصالة عن هذه الحالة ويجسدها او يلخصها تجسيداً (تلخيصاً) حقيقياً، اي المنهج الأصيل ل"فترة الركود" لا يمكن ان يكون إلأ منهجاً ميتافيزيقياً في مضامينه ودلالاته الفعلية.
إنني لا انوي هنا، بل ولا افكر إطلاقاً نفي القيمة الإيجابية (العلمية) للمنهج الميتافيزيقي سواءً في بعدها التاريخي ام في مدلولها الوضعي. بيد ان هذه القيمة تبقى قيمة محدودة (بل ومحدودة جداً في بعض مجالات البحث والدراسة)، ومن غير الجائز إطلاق معناها باي حال من الأحوال. هذا يعني إن المنهج الميتافيزيقي في البحث لا يمكن ان يضطلع في عصرنا إلأ بدور ثانوي ووظيفة هامشية. ولذا، فإنه يبقى (و مهما بلغت "قيمته العلمية" في هذا المجال او ذاك من مجالات البحث العلمي المعاصر) عنصراً منقاداً ومقهوراً ("منزوعاً") في بنية منهجية عامة تظل ذات اصالة ديالكتيكية ببعدها العام وبدلالاتها الخاصة". (د. نمير العاني. جدلية العلاقة بين مبدأ التطور ومبادىء وحدة العالم والتشارط المتبادل والتعاكس العام. دمشق: مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1989، ص. 6-7).
لقد وجدت من المناسب ان اورد هنا هذا المقتبس الطويل من مقدمة كتابي المذكور تحسباً لعدم توفر المصدر تحت يديك، وإعتقاداً مني إنه سيعينك ولو بعض الشيء على تفهم مشروعي الفلسفي بصورة افضل.-
- سؤال: خلال رسائلكم السابقة تحدثتم وبإيجاز ايضا عن العقلانية النقدية وبخاصة لفلسفة كارل بوبر وتحديدا حول مسألتين هما أ- معيار العلم لديه (معيار التكذيب) وقلتم أن هذا المعيار مثله مثل معيار التثبت لا يكفي لتمييز بين القضايا العلمية عن غيرها وقلتم أن معياركم هو (التثبت والتكذيب) وهذا ايضا كلام مبهم يحتاج الى ايضاح بأمثلة مقارنة. أنا افهم سبب تقديم بوبر لمعياره فهو جاء استجابة لفهمه وتصوره لمفهوم النظرية العلمية وتحقيقا لغاية الابستملوجيا كما يقول هو ويحددها بالنمو والتطور فغاية الابستملوجا هي النمو والتطور وهذا لا يتحقق كما يقول كارل بوبر إلا من خلال اكتشافنا لأخطاءنا لذلك اشترط في صياغة الفرضية العلمية أن تكون قابلة للتكذيب اي يمكن تكذيبها تجريبيا والقضية القابلة للتجريب لا تعني بالضرورة هي كاذبة فهي تخضع لاختبارات مستمرة وكلما اجتازت الاختبار يكون ذلك تعزيز لها. أما سبب رفضه لمعيار التثبت او التحقق الذي قالت به الوضعية المنطقية فإن هذا المعيار يبرر معارفنا ولا يعيننا على اكتشاف الاخطاء فكل قضية يمكن ان نجد لها تبرير ومؤيدات في الواقع ولكن حالة واحدة مكذبة تكفي لاعادة النظر فيها والبحث عن فرضية خرى. وبجعة واحدة سوداء تكفي لهدم القضية القائلة كل البجع ابيض كما يقول هو.
* نمير العاني: لقد سبق لي وان اشرت في رسالة سابقة إلى ان المصيبة الأساسية للفلسفة الغربية المعاصرة تكمن، كما ارى، في منهجيتها الميتافيزيقية. وعقلانية كارل بوبر النقدية لا تشكل إستثناءً في هذا الخصوص. فهذا الفيلسوف ينحو في اعماله منحىً ميتافيزيقياً يرى العالم من خلاله رؤيةً وحيدة الجانب. إنه، كغالبية زملائه من الفلاسفة الغربين، يفكر ويبحث وفق مبدأ "إما وإما". فإن كان الوضعيون الجدد، على سبيل المثال، قد إختزلوا الإختبار (البرهان) العلمي بإرجاعه إلى الإثبات فقط، نجد إن بوبر يفعل العكس تماماً برده الإختبار إلى الدحض تحديداً (إني افضل إستخدام هذا المصطلح بدلاً من "التكذيب"، لأن الكذب والصدق هي مفاهيم منطقية تعبر عن صفات الحكم المنطقي). هذا في حين إن البرهان العلمي، كما ارى، يجمع الضدين معاً، بحكم كونهما كاضداد جدلية متلازمين مع بعضهما البعض، بحيث لا يمكن لأي منهما ان يوجد بمعزل عن الآخر. فلا إثبات، إذن، بدون دحض، ولا دحض بلا إثبات. وعليه، فإن بوبر برفضه للاثبات، من خلال مطابقته الإختبار مطابقة تامة مع الدحض، يرفض في الواقع الدحض ايضاً، بالضبط كما ان الوضعين الجدد برفضهم للدحض يرفضون الإثبات ايضاً. وبحكم العلاقة الجدلية بين الإثبات والدحض، فإن إختزال الإختبار اي البرهان العلمي برده إلى اي من هذين الضدين لا يعني في الواقع سوى إلغاء الإختبار (البرهان) نفسه. وبهذا اخلص إلى القول: اولاً، بان البرهان العلمي يشكل في حقيقته إثباتاً بدحض ودحضاً بإثبات، وثانياً، بان الإثبات نفسه ينقلب دحضاً والدحض نفسه يتحول إلى إثبات في مجرى هذه العملية. فالبرهان، إذن، هو إثبات بدحض ودحض بإثبات. وتأسيساً على ذلك استطيع ان اقول بإن بوبر بعثوره على بجعة سوداء لم يدحض الفكرة القائلة ب"إن جميع البجع أبيض" وحسب، بل واثبت صحة الفكرة التي تؤكد على "إن بعض البجع أبيض" او "إن ليس كل البجع أبيض". فدحضه يصبح، كما نرى، إثباتاً. اما لافوزيه، مثلاً، فبإثباته تجريبياً النظرية الأوكسيجينية للإحتراق كان قد دحض بلا شك نظرية الفولجستون التي كانت سائدة وقتذاك. في هذه الحالة نجد إن الإثبات نفسه ينقلب دحضاً. ومن بين المنجزات العلمية الكبيرة التي عاصرناها والتي تشهد على ما تقدم من المناسب ان اذكّر هنا بالأبحاث التي قاموا بها في تسعينيات القرن المنصرم العالمان الأمريكيان شاوؤل برلموتتر وآدم رايس والعالم الإسترالي براين شميدت في مجرى دراستهم للمستعرات العظمى، التي فازوا بسببها بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2011، الدراسات التي توخوا من خلالها ليس الإثبات التجريبي لفكرة تباطىء إتساع الكون، التي كانت سائدة آنذاك بلا منازع في علم الكون وحسب، بل وإحتساب وتيرة هذا التباطىء. ولدهشتهم ودهشة المجتمع العلمي برمته إن ابحاثهم قادتهم في المطاف الأخير إلى دحض هذه الفكرة، التي كانوا ينون إثباتها. ولكن هل إن دحضهم في هذه الحالة كان دحضاً مجرداً، خالصاً، دحضاً مطلقاً لا يبقي ولا يذر كالدحض البوبري؟ لا ابداً. إن دحضهم للفكرة المذكورة جاء، على الضد من ذلك تماماً، دحضاً جدلياً ملموساً، دحضاً متحققاً من خلال ضديده كإثبات. وبالفعل، إن دحض فكرة تباطىء إتساع الكون تم بإثبات نقيضها، اي بإثبات فكرة تسارع هذا الإتساع. إن تاريخ العلم زاخر بالأمثلة والأدلة التي تؤكد على الطبيعة المتضادة داخلياً للبرهان العلمي وتثبت صحة فهمنا له كوحدة جدلية لا يمكن فصم عراها للإثبات والدحض.
إنني بما تقدم من توضيحات آمل في إزالة ما بدى لك من غموض في كلامي الوارد في رسالة سابقة لي عن فهمي لطبيعة البرهان العلمي ومعياره المتثل بالإثبات والدحض معاً، وليس في الإثبات وحده كما ذهبت الوضعية المنطقية، ولا في الدحض فقط، كما يؤكد كارل بوبر، الأمر الذي وصفته في رسالتك الحالية بانه "كلام مبهم".
- سؤال: المسالة الثانية تتعلق بنظرية التطور لديه (كارل بوبر) حيث نفيتم أن تكون لكارل بوبر نظرية تطور. وهذا أمر يحتاج ايضا الى تفسير اكثر.ان نظرية بوبر للتطور وحسب تصوراتي البسيطة والتي اسماها هو بنظرية العوالم الثلاثة (العالم الاول هو العالم المادي والعالم الثاني هو العقل او النفس والعالم الثالث هو منتجات العقل اي كل ما انتجه العقل البشري مثل الاساطير والاديان والفلسفات والنظريات العلمية ويصفها بالمعرفة الموضوعية) هو البردايم الذي اعتمده بوبر في بناء تصوراته للنظرية العلمية ومنهجه العلمي وبوبر لا يدعي أن نظريته للوجود وتصوراته التطورية الانبثاقية له هي حقائق علمية بل هي تصورات ميتافيزيقية للوجود تعيننا على بناء تصوراتنا العلمية وبما يحقق هدف الابستملوجيا في النمو والتطور الدائم اما سبب تبنيه لمفوم التطور الانبثاقي (emergent evolution) أن هناك حلقات في سيرورة التطور لا يمكن تفسيرها علميا مثل تطور الوعي عن المادة وتطور اللغة ومن ثم المعرفة العلمية عن الوعي لذلك لجأ الى القول ان هناك لحظات في مسار التطور حصلت انبثاقا وهواشبه بالقول بالطفرة. وهو بالطبع يتبى التصورات العامة التي جاء بها داروين (الصراع من اجل البقاء والبقاء للصلح) بعد اجراء تعديلات عليها بما يبعدها عن الجانب الاستقرائي الذي يرفضه بوبر تماما.
ان تكون لبوبر نظرية تطور صرح بها في كتبه هذا امر لاشك فيه ولكن يمكن ان نخالفه في تصوراته لهذه النظرية. هو لم يقل مثلا الطابع الديالكتيكي لهذا التطور، أو على الاقل لم يصرح بذلك بل قال هناك صراع وان سيرورة هذا التطور ناتجة بسبب هذا الصراع فالكائن الحي مثلا في صراع دائم مع محيطه والمتغيرات الحاصلة فيه وقدرته على البقاء تكون بحسب قدرته على التكيف والتفاعل مع هذه البيئة وعندما يفقد الكائن القدرة على التكيف سينقرض لا محالة فالباقي هو الاكثر قدرة على الانفتاح والتفاعل وتطوير مهاراته بما يعينه على الاستجابة لكل المتغيرات البيئية.
* نمير العاني: إن تصور كارل بوبر عن العوالم الثلاثة لا يمكن ان يدرج، كما ارى، تحت طائلة النموذج النظري العام (الباراديجما) للتطور باي حال من الأحوال. فالتطور هو سيرورة يولد من خلالها الجديد. ولا من جديد بدون القديم الذي يشكل حاضنة اولية له. إنه ينشأ في رحم هذا الأخير بصورة بوادر اولية تنمو وتتكامل تدريجياً حتى تصل إلى تلك الحالة من النضج التي تمكنها من نقض حاضنتها (القديم)، وذلك بالإبقاء على ما هو إيجابي فيها، بالإحتفاظ به وتطويره ورفض ما هو سلبي فيها وفقد قدرته على الحياة. فالتطور هو إذن، سيرورة تنطوي في محتواها الداخلي على علاقة إتصال وإنفصال بين الحاضر والماضي، علاقة إبقاء وإلغاء بين الجديد والقديم. فالحاضر ينفصل عن الماضي بقدر إتصاله به والجديد يبقي من القديم بقدر ما يلغيه منه. وعليه، فإن إلغاء الإنفصال بين الحاضر والماضي وإضفاء صفة مطلقة على الإتصال بينهما، او رفض علاقة الإبقاء بين الجديد والقديم وإطلاق علاقة الإلغاء بينهما يقودان إلى إلغاء السيرورة التطورية ذاتها. وهذا بالتحديد ما تقدم عليه الوضعية وما بعد الوضعية، اللتان تعتمدان المنهج الميتافيزيقي نفسه في معالجة هذه القضية ايضاً. فالوضعية تفهم التطور كعملية تراكمية خالصة تتم بصورة تدريجية خالية من اي طفرات. وهذا بالضبط ما يعنيه مبدأ التجميع او المراكمة (الكومولاتيفيزم) الذي صاغته هذه الفلسفة، والذي يفهم نمو المعرفة العلمية كسيرورة يتم من خلالها إضافة المعرفة الجديدة إلى جانب المعرفة القديمة دون اي تغيير في هذه الأخيرة. وبهذا، فمن الممكن تشبيه المعرفة العلمية في سيرورتها وفق التصور الوضعي ككرة الثلج التي تكبر وتزداد حجماً كلما تمت دحرجتها. فعن اي تطور من الممكن الحديث عندما يتم إطلاق التراكم الكمي وإلغاء الطفرة النوعية؟ اما ما بعد الوضعية فتقع في النهاية الأخرى، او في الطرف الأقصى الآخر، حين تقوم بإطلاق ما تلغيه الوضعية وإلغاء ما تطلقه هذه الفلسفة. إنها تضفي على السيرورة العلمية طابعاً ثورياُ، بل واستطيع ان اقول، طابعاً تدميرياً على وجه التحديد. إن توماس كون وبقية رواد ما بعد الوضعية بما فيهم كارل بوبر يفهموا الثورة العلمية كسيرورة يتم من خلالها تحطيم التصورات العلمية السابقة بصورة كلية. فوفق توماس كون إن الثورة العلمية كحل لإشكالية الحالة التي يسميها بالإستثنائية (إكستاوردينال) في العلم هي سيرورة يجري من خلالها إستبدال البراديجما السابقة، والتي ترمى جانباً، ببراديجما جديدة تضع بداية لحالة العلم التي يدعوها بالإعتيادية. وبهذا تصبح المسيرة العلمية مجرد مجموعة من الطفرات البراديجمية غير المتصلة مع بعضها. إن بوبر إذ يتبنى هذا التصور بشكل عام يضفي في الوقت نفسه على الثورة العلمية طابع الإستمرارية او الإستدامة. ولهذا، استطيع ان اقول بان العلم، في تقديره، يعيش على الدوام في حالة اقرب ما تكون إلى ما دعاه كون بالحالة الإستثنائية، اي بحالة الأزمة. فالعلم، إذن، يعيش في حالة ازمة مستديمة يجري حلها بثورة مستديمة. وبهذا تصبح السيرورة العلمية مجرد فرضيات تترى يجري دحضها الواحدة تلو الأخرى. وهذا ما يشهد عليه ويؤكده ما يدعوه بوبر بالفاصل الفكري والذي يدحض به نمو المعرفة في سيرورة عالمه الثالث. إن هذا الفاصل يبدأ بالمشكلة العلمية التي يتطلب حلها صياغة نظريات ما يجري إخضاعها للنقد الفاحص والذي يؤدي إلى دحضها ورميها جانباً، الأمر الذي يقود بدوره إلى ظهور مشكلة جديدة، وهكذا دواليك. إنه يرمز لهذا الفاصل بالمعادلة التالية:
P - TT - EE - P
اي: م (مشكلة اولية) – ن ن (نظريات) – نقد فاحص – م (مشكلة جديدة). وبهذا تصبح السيرورة العلمية مجرد سلسلة من النظريات المدحضة، المفندة، لا غير. فالدحض هو المصير المحتوم، هو قدر كافة النظريات العلمية بلا إستثناء. إن النظريات التي لا يجري دحضها مباشرةً تصطف بالدور (الطابور)، منتظرةً اللحظة التي ستدحض فيها، والتي ستحل إن عاجلاً ام آجلاً. فمن النظريات العلمية، إذن، "ما قضى نحبه، ومنها ما ينتظر". بهذه الصورة يقوم بوبر بإلغاء الطابع اليقيني للمعرفة العلمية، محولاً إياها إلى معرفة إفتراضية بشكل خالص. وهذا يعني إنه ينكر في واقع الأمر الحقيقة الموضوعية. إنه يعترف إعترافاً شكلياً بالحقيقة كهدف نهائي للمعرفة، لا تقوى على تحقيقه هذه الأخيرة باي صورة كانت. إنها افق المعرفة الذي كلما إقتربت منه يبتعد عنها. إنه لا يرى في هذه الحقيقة سوى حافزاً او قوة محركة للمعرفة، ليس إلأ. فعن اية موضوعية لمعارفنا وعن اي تطور او حتى نمو بسيط للمعرفة العلمية من الممكن ان نتحدث بعد كل هذا؟ إن بوبر يفرغ معارفنا في واقع الحال من مضمونها الموضوعي ويحول السيرورة العلمية إلى ثورة مستديمة لا تبقي على ما هو إيجابي في هذه السيرورة، ولا تخلف وراءها سوى مقبرة للحطام المعرفي.
اضيف إلى ذلك سبب آخر يدعوني ان لا اعتبر "نظرية" بوبر في العوالم الثلاثة نظريةً في التطور. وهذا السبب يعود إلى إن كل من هذه العوالم يشكل في حقيقته واقعاً قائمأً بذاته. فليس ثمة علاقة جوهرية تقوم بين هذه العوالم، التي لذلك لا تنجم عن بعضها ولا تتفاعل فيما بينها. وعليه، فمن المستعصي رد هذه العوالم إلى اساس او مصدر مشترك نشأت عنه (تطورت منه)، او إعتبار إن اي منها هو حصيلة لتطور الآخر. كما ولدي ملاحظات اخرى على هذه "النظرية" لا يتسع المجال لإدراجها في هذه العجالة.
اما فكرة التطور الإنبثاقي التي اشرت إليها في رسالتك موضوع ردي، فاجدها فكرة خالية من المعنى الملموس. فإن كانت هذه الفكرة تعني النشوء من العدم، فهذا مجرد هراء، إذ إن من العدم لا يمكن ان ينشأ إلأ العدم. اما إن كانت الفكرة تعني النشوء من او عن مصدر او اساس ما، فعندئذٍ ينبغي تحديد ماهية هذا المصدر (الأساس). إن العلم يرفض رفضاً قاطعاً اي طرق غيبية في تفسير الواقع، وما لا يقوى العلم على تفسيره بمناهجه ووسائله اليوم سيقوم بتفسيره غداً لأن السيرورة العلمية هي سيرورة مستمرة لا تعرف التوقف ولا تعرف النهاية ما دام موضوع هذه السيرورة وذاتها موجودان.
و بصدد "تطور الوعي عن المادة"، والذي لا يمكن تفسيره علمياً، كما تقول، فاود ان اشير إلى إن من الخطأ الحديث عن تطور الوعي من المادة كتطور شيءٍ من شيءٍ آخرٍ. فالوعي ليس بشيءٍ موجود إلى جانب المادة، مختلف عنها، بالرغم من نشأته في مجرى تطورها. إن الوعي انطولوجياً ما هو إلأ مادة واعية. إنه محمول لحامل هو المادة الواعية. اي، بكلمات اخرى، إنه صفة تميز مادة عالية التنظيم والتطور. فالمادة في سيرورتها التطورية لا بد من ان تصل إلى تلك الحالة لها، اي إلى ذلك الشكل الراقي من اشكال وجودها والذي تظهر فيه صفة نوعية جديدة لها هي الوعي. فالوعي لا يمكن مقابلته بالمادة انطولوجياً كواقعٍ متميزٍ عن هذه الأخيرة بصورة مطلقة. إن التمايز بينهما هنا هو تمايز نسبي ملموس، هو تمايز بين المحمول والحامل، بين الصفة والموصوف. إن التعارض بين الوعي والمادة من الممكن ان يكتسب دلالتة فقط على الصعيد الجنوسيولوجي (المعرفي). إننا هنا نجد إن الوعي كذات يقابل المادة كموضوع من الخارج، اي إنهما يصبحان ضدين متخارجين ومتلازمين في آن واحد. ولكن حتى هنا لا يقوى الوعي إلأ ان يكون مجرد إنعكاس للمادة. نعم، إنه إنعكاس ليس خاملاً، بل إنعكاس فعّال يؤثر تاثيراً نشيطاً في المعكوس، يستطيع من خلاله ان يغير هذا الأخير. وبهذا نستطيع ان نقول بان الوعي لا يعكس العالم فحسب، بل ويغيره.
اما حقيقة ظهور الوعي كنتاج لتطور العالم المادي، فهي امر لا يعجز العلم عن تفسيره، كما تعتقد. على الضد من ذلك تماماً، نجد ان العلم المعاصر قد قطع اشواط مهمة في هذا الشأن. فعلم الإنسان (الأنثروبولوجي) وعلم الحياة (البايولوجي) وعلم فسلجة الجهاز العصبي المركزي وعلم الوراثة وعلم الجينوم وعلم الهندسة الوراثية وعلم النفس وطائفة اخرى من العلوم المعاصرة حققت إنجازات مهمة في تفسير كيفية نشوء وتطور الدماغ البشري، وكيفية تبلور وعي الإنسان بفعل عوامل ليس بايولوجية فقط، بل وإجتماعية ايضاُ كالعمل واللغة والتواصل الإجتماعي، وفي الكشف عن الأساس الفسلجي (المادي) للعمليات السايكولوجية (الروحية).. إلخ. وبفضل هذه الإنجازات وما سيلحقها من نجاحات تتكشف تدريجياً الصورة العلمية لنشأة الوعي الإنساني وتطوره.
- سؤال: ماهي المعايير العلمية في بناء النظرية العلمية لدى العاني؟ هل لدى العاني معايير محددة تميز بين القضايا العلمية والقضايا غير العلمية وما هي معايير المفاضلة بين الفروض العلمية التي تنطبق عليها معاييره؟؟ عند بوبر مثلا المحتوى المعرفي.
* نمير العاني: إنني اشخص اربعة معالم اساسية او جوهرية تميز المعرفة العلمية عن سواها من المعارف الإنسانية. واول هذه المعالم هو العقلانية. فالمعرفة العلمية هي، إذن، معرفة عقلانية، اي معرفة مستمدة من العقل وليس من الإيمان. وبهذا نجدها تختلف جوهرياً عن المعرفتين الإسطورية والدينية، والتي هي معارف حسية عاطفية تنبع من الإيمان. إن عقلانية المعرفة العلمية هي ما يقربها من المعرفة الفلسفية، والتي هي الأخرى معرفة عقلانية. وهنا لا بد لي ان اشير إلى واؤكد على إن العلم والفلسفة، كما ارى، هما شكلان متباينان للمعرفة العقلانية. فالعلم معرفة عقلانية - تجريبية، في حين إن الفلسفة هي معرفة عقلانية - تأملية خالصة لا تعتمد الدليل التجريبي باي صورة كانت. إن الفلسفة لا تستخدم المناهج التجريبية في البحث ولا تمتلك قاعدة تجريبية لها، كما هو الحال في العلم، الذي يستخدم هذه المناهج ويمتلك مثل هذه القاعدة. إن هذا الفرق الجوهري بين المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية لا يسمح باي حال من الأحوال بالإرتقاء بالفلسفة إلى مصاف العلم، اي بإضفاء طابع علمي عليها. فالفلسفة ليست علماً، في تقديري، بل هي، كما ارى، معرفة لا علمية. او بتعبير ادق إنها احد اشكال المعرفة الخارجعلمية، اي واحدة من المعارف الموجودة خارج دائرة المعرفة العلمية. والجدير بالملاحظة إنني بتصوري هذا اختلف مع غالبية الفلاسفة بما فيهم الفلاسفة الماركسيين المعاصرين الذين يعتبرون الفلسفة علماً.
اما المعلم الجوهري الثاني الذي تتميز به المعرفة العلمية، فهو نظامية هذه المعرفة. إن المعرفة العلمية هي نظام متناسق داخلياً من المفاهيم والتصورات، موحد على نفسه ومتوافق مع ذاته بشكل صارم، بحيث لا يدع اي مجال لأي تعارض (لاتوافق) او تناقض بين العناصر التي يتالف منها. ومن هذا المنطلق يبدو العلم احادي النزعة، احادي الخيار، بحيث لا يتيح للأفكار المتضاربة والنظريات التي تستثني بعضها ان توجد وتعيش بسلام تحت خيمته. إن المعرفة الخارجعلمية هي وحدها التي تجيز لنفسها إعتماد افكار متضاربة والقول بتصورات تناقض بعضها بعضاً. اما المعرفة العلمية، فلا تجيز ذلك، لا من بعيد ولا من قريب. ففي علم الحياة، مثلاً، لا يمكن لفكرة التطور ولفكرة ثبات الأنواع ان توجدا جنب بعض وتعتمدا معاً كتصورات علمية مسلم بها. إن إقامة الدليل العلمي على صحة فكرة التطور حولها إلى مسلمة علمية تم في ضوءها دحض فكرة ثبات الأنواع، والتي بسبب ذلك رميت خارج دائرة العلم. إن الإختلاف في العلم مجاز، والنقاش مباح، بل ومحبذ على صعيد الفرضيات فقط. ولكن ما ان يتم إثبات فرضية من بين الفرضيات المتناحرة باقامة الدليل العلمي الصارم على صحتها وتحولها من جراء ذلك إلى مسلمة علمية ملزمة، حتى يتم نبذ كافة التصورات المخالفة لها كتصورات لا علمية.
إن المعلم الجوهري الثالث المميز للمعرفة العلمية هو برهانية هذه المعرفة. إن المعرفة العلمية ليست معرفة إعتباطية، بل هي، على العكس من ذلك، معرفة مبرهنة، اي معرفة تم إثباتها بالبرهان والحجة. فعلى العلم ان يثبت صحة مفاهيمه وقوانينه ونظرياته بالدليل العقلي (البرهان المنطقي) و/او بالدليل التجريبي (البرهان بالتجربة العلمية). فهنالك، إذن، شاهدان او سلطانان وحيدان في العلم، هما العقل والتجربة، ولذا فكل ما يتعارض ويتنافى معهما من تصورات يلفض خارج دائرة المعرفة العلمية. وعليه، استطيع ان اقول بان المعرفة العلمية ليست معرفة قابلة للبرهنة وحسب، بل هي معرفة تمت البرهنة على صحتها بإثباتها بالدليل العقلي و/او بالدليل التجريبي. فهي، إذن، معرفة ليست إفتراضية، كما يدعي بوبر، بل يقينية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فلو كان قانون الجذب العام، مثلاً، معرفة إفتراضية وليس يقينية، لما إستطعنا بإستخدام فعله ان نسير طائراتنا ونطلق مركباتنا الفضائية، ان نصل إلى القمر او المريخ، او ان نحدد بدقة عالية موقع الأجرام السماوية. فالمعرفة العلمية، إذن، هي معرفة مبرهنة، معرفة يقينية، لا يمكن لبوبر او لغيره دحضها مهما حاولوا ذلك. إنها معرفة لا تقوى السيرورة العلمية اللاحقة على تفنيدها وإلغائها بالكامل. إن جل ما تستطيعة هذه السيرورة هو تدقيق هذه المعرفة اكثر فاكثر.
واخيراً، المعلم الجوهري الرابع المميز للمعرفة العلمية يتلخص في موضوعية مضمونها. إن مضمون هذه المعرفة لا يخضع، إذن، لا لوعي ولا لإرادة صناعها وحامليها، واعني بذلك العالم والمجتمع العلمي. او بكلمات اخرى، إن هذا المضمون لا يخضع لوعي وإرادة الإنسان او الإنسانية بشكل عام. ومن هنا اخلص إلى القول بان مضمون المعرفة العلمية ما هو في الواقع سوى تجسيداً للحقيقة الموضوعية بعينها. إن هذا المضمون والحقيقة الموضوعية المتجسدة فيه ومن خلاله هما تحديداً اللذان يشكلان، في تقديري، الأساس الموضوعي لعلمية ويقينية ما ندعوه بالمعرفة العلمية. ولذا، فبدونه لن تقوم للعلم قائمة. إن غالبية فلاسفة العلم في الغرب ينكرون وجود الحقيقة الموضوعية، ولهذا نجدهم يستبدلون المضمون الموضوعي للمعرفة العلمية بما يدعونه بالذاتية المشتركة (إنترسبجكتف) للعلم. إن الذاتية المشتركة تتجاوز الذات الفردية وصولاً إلى الذات الجمعية، ولكنها لا تتجاوز الذات وصولاً إلى الموضوع. فمن يقول بالذاتية المشتركة للمعرفة العلمية يجرد في واقع الأمر هذه المعرفة من موضوعها. ولكن من يجرد العلم من موضوعه لا يقوم في الحقيقة إلأ بإلغاء العلم نفسه.
وبناءً على ما تقدم اخلص إلى تعريف العلم نشاطاً إنسانياً هادفاً إلى إنتاج وإستخدام وخزن ونقل بواسطة مناهجه ووسائله الخاصة المعرفة العقلانية المنظمة المبرهنة والموضوعية في مضمونها عن الواقع الموضوعي والذاتي.
فوزي حامد الهيتي: باسمي وباسم جميع قراء العربية نتقدم بوافر التقدير والاحترام لفيلسوفنا نمير العاني على ما تفضل به من حوار وإيضاحات حول بعض ملامح فلسفته... أملي أنني وفقت في إثارة انتباه المهتمين بدراسة الفلسفة العربية المعاصرة وعسى أن يكون هذا الحوار دافعا لهم لدراسة فلسفته وبخاصة في مجال فلسفة العلم لقلة المتفلسفين في هذا المجال في عالمنا العربي.
***
اجرى الحوار: الدكتور فوزي حامد الهيتي