حوارات عامة
الدستور وعلاقاته بالدولة والدين والفضيلة
حوار مع الأستاذ الدكتور محمد أبو العلا يجريه علي رسول الربيعي
الدستور وكيف يعالج مسألة العلاقة بين الدين والدولة، وكذلك قضية الفضيلة، أيً قضية العلاقة بين الفضيلة والدستور. هذا هو محور الأسئلة المتواترة وأن بصوغ مختلف في الفلسفة السياسية التي نتوجه بها الى الأستاذ الدكتور محمد ابو العلا لنستطلع رايه فيها أو جوابه عنها.
د. علي رسول الربيعي س//: هناك خمسة نماذج مختلفة لإدارة العلاقة بين الدولة والدين بموجب الممارسة الدستورية الحالية. وهي (1) النموذج العلماني المتشدد المصمم على إبقاء الدين خارج المجال العام تمامًا (مثل اللائكية/ العلمانية الفرنسية؛ (2) النموذج العلماني اللا أدري، الذي يسعى إلى الحفاظ على موقف محايد بين الأديان ولكنه لا يخجل من تفضيل الاعتماد على الإلحاد وغيره من المنظورات غير الدينية (نجد هذا، على سبيل المثال، قريب من الفقه الدستوري الأمريكي الحالي). (3) النموذج العلماني "المذهبي" المعترف بالنظم العقائدية، الذي يتضمن عناصر من دين الأغلبية السائدة في النظام السياسي، وذلك لأغراض الهوية في المقام الأول، ويعرضها كجزء من مراسيم الدولة الدستورية بدلاً من كونها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدين الرئيسي للبلاد (مثل إيطاليا أو بافاريا، كاعتماد الصليب كرمز علماني للهوية الوطنية)؛ (4) دين رسمي مع التسامح المؤسسي لنموذج أديان الأقليات (على سبيل المثال، المملكة المتحدة والدول الاسكندنافية واليونان)، و(5) النموذج القائم على الملل حيث يتم إعطاء أولوية للحكم الذاتي الجماعي من قبل كل مجتمع ديني داخل النظام السياسي (مثل الكيان المغتصب لفلسطين إسرائيل). هل يمكن ان يكون أيً من هذا النماذج الدستورية حلا لإدارة العلاقة بين الدولة والدين؟
د. محمد أبو العلا: ج// أعتقد أنَّ الفصل الجذري بين الدين والحياة العامة محاولة مستحيلة أو شبه مستحيلة؛ لأن الدين جانب أصيل لا يمكن إنكاره من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافة الإنسانية، فضلا عن أنه جزء لا يتجزأ من مكوِّنات الشخصية الإنسانية، إلا إذا أنكرنا البُعد الروحي في الإنسان، الذي يمثِّل الدين أحد تجلياته. وبالنسبة لمن يرددون أنَّ الدين شأن فردي خاص، فأعتقد أنَّ هؤلاء ينسون حقيقة مفادها أنَّ الحياة الفردية الخاصة لا يمكن فصلها عن الحياة الاجتماعية العامة. وبالتالي، حتى لو كان الدين تجربة ذاتية، فهذه التجربة الذاتية تؤثر وتتأثر بالحياة العامة بكافة جوانبها. فما المانع أنْ يؤثر الدين في الحياة السياسية والفقه القانوني والدستوري طالما أنَّ هذا التأثير تأثيرا إيجابيا، أيْ يخدم تطور وازدهار الاجتماع الإنساني. فكما يمكن توظيف الدين بطريقة خاطئة تخدم مصالح وأيديولوجيات ضيقة، فمن الممكن توظيفه توظيفا صحيحا يخدم الصالح العام وتطبيق حقوق الإنسان. أليست هناك قيم وفضائل مشتركة بين جميع الأديان السماوية يرضى عنها الجميع، بما في ذلك الملحدون أنفسهم؟! أعتقد أنَّ السبب الحقيقي الذي يقف وراء اعتراضات الملحدين ليس هو الدين ذاته، بل الممارسات المشينة للمتدينين، والأهم من ذلك الممارسات المنحرفة للسلطة السياسية باسم الدين. فهل بوسع أيّ إنسان، حتى لو كان ملحدا، أنْ يرفض أو يعترض على المحبة في المسيحية، وحق الحياة في اليهودية، والعدل والتكافُل في الإسلام. والدين الإسلامي نفسه أقرّ بحوار الحضارات والثقافات من خلال التأكيد على العيش المشترك مع الآخر واحترام خصوصيته وحريته في الاعتقاد. ويشهد على ذلك العديد من الآيات القرآنية، مثل:
- (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنِّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليمٌ خبير) [الحجرات: 13].
- (وَلَوْ شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعًا أفأنت تُكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس: 99]
- (وقُل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29].
وهكذا يمكن أنْ يكون الدين، بالمعنى الواسع، مجالا لتماسُك وازدهار المجتمع السياسي. والدين بالمعنى الواسع الذي أقصده هنا يقترب من الدين بمفهومه عند كانط في كتابه "الدين في حدود العقل فقط" أو عند الأب شاتل في كتابه "قانون الإنسانية". فالدين، بحسب كانط، هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية. وبحسب الأب شاتل، هو مجموعة الواجبات التي تقع على عاتق الإنسان نحو الإله، ونحو الجماعة، ونحو نفسه.
إذا نظرنا إلى الدين من هذا المنظور الواسع والمنفتح، فمن الممكن أنْ يكون الدين جزءا مما أطلق عليه جون رولز العقل العام public reason، ذلك العقل الذي يمثِّل عند رولز الأساس الذي يجب أنْ تقوم عليه الدولة العلمانية. فبحسب رولز، يقبل جميع الناس العقلاء في المجتمع العلماني المتسامح الخضوع لبنود، أو قيود، العقل العام، تلك البنود التي يمكن لكل واحد منهم أنْ يفهمها ويقدِّر قيمتها مهما كانت معتقداته الشمولية، سواء أكانت تنتمي للأخلاق الشخصية، أم الأخلاق العامة، أم الدين.
يمثِّل هذا، من وجهة نظري، تصوُّرا عريضا جدا للدولة العلمانية في صورتها المثالية؛ وهو تصوُّر لا ينطبق، بالطبع، على أيٍّ من النماذج العلمانية التي تفضَّلتْ حضرتك بذكرها. ومع ذلك، فهناك بعض النماذج التي تقترب منه كثيرا، مثل النموذج العلماني في المملكة المتحدة، ثم النموذج العلماني في الولايات المتحدة الأميركية.
د. علي رسول الربيعي: س// إن ما تدعو إليه الفضيلة المدنية هو احترام الناس من كل نوع، وتقدير إنسانيتهم وحقهم في تنمية واستخدام مواهبهم والاستفادة منها مهما تنوعت تلك الاستخدامات والمواهب الجيدة. "هل تشمل الفضيلة المدنية احترام وتقدير التنوع؟" إذا كان "التنوع" هنا هو رمز للاستعداد للانخراط في السلوك الجنسي المثلي وتعزيزه، كما هو الحال في المجتمعات العربية/ الإسلامية، فإن الإجابة، كما أرى، هي: لا. إن احترام مثل هذا الاستعداد، أو رغبة أي شخص في الانخراط في أي شكل آخر من أشكال الأفعال الجنسية غير الزوجية، هو أمر سيئ مهما كانت هناك ايً ادعاء انها جيدة للإنسان، ثم أنه يساهم في انهيار الزواج كمؤسسة مدنية المؤسسة وواقع شخصي، وإيذاء الأشخاص الذين سيعانون كالأطفال وبالتالي كبالغين من خلال تربيتهم في بيئات غير زوجية.
وعليه، بما أنه من المنطقي التفكير في الغايات قبل النظر في الوسائل لها، فقد يكون من الأفضل أن نبدأ بتوجيه السؤال اليكم: ماهي الفضيلة أو ما هو مضمونها الذي يتطلب غرسه وتنميته في ظروف الخلاف الأخلاقي، وكيف يرتبط بالفضيلة الأخلاقية التقليدية؟ كيف يتأثر مضمونها بظروف التنوع؟
د. محمد أبو العلا: ج// أعتقد أنَّ الفضيلة التي يجب أنْ تسود في ظل التعددية الثقافية والتنوع العرقي والديني، باعتبارهما السِّمتين الأساسيتين لأي مجتمع علماني ديمقراطي، هي فضيلة التسامح. وأقصد بالتسامح هنا قبول العَيْش مع الآخر الذي نختلف معه في الرأي، أو الدين، أو العرق؛ هذا فيما يتعلق بمبدأ التسامح على المستوى الأخلاقي. أما على المستوى السياسي، فإن التزام الدولة بالحياد إزاء التصورات الفردية المختلفة للحياة الكريمة، أو الخيِّرة، هو نتيجة حتمية لمبدأ التسامح، ذلك المبدأ الذي لا يمكن تصور مجتمع عادل بدونه. فتحيُّز الدولة لطرف دون آخر، حتى لو كان هذا الطرف يتمثل في الأغلبية، هو تصرف غير مشروع ولا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، لأنه يتعارض مع حق الجميع في المساواة في الاهتمام والاحترام، على حدّ تعبير رونالد دوركين.
د. علي رسول الربيعي س// هل يتطلب الدستور أو يفترض مسبقا، أو يحبط أو حتى يمنع، تشكيل مشروع للحكومة لتغرس أو تنمي عند المواطنين الفضيلة المدنية اللازمة لتعزيز وإدامة مجتمع جيد التنظيم؟
د. محمد أبو العلا: ج// بالطبع، فالدستور هو أبو القوانين التي تنظِّم كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، والذي منه تستمد الحكومات صلاحياتها، بل وشرعيتها أيضا (هذا على افتراض أنَّ الدستور يمثِّل تعبيرا حقيقيا عن الإرادة العامة؛ على حدّ تعبير روسو). فالمبادئ الدستورية العامة يجب أنْ تُلزم الحكومات بالفضيلة المدنية، بل يجب أنْ تكون جميع مبادئ أيّ دستور علماني ديمقراطي بالمعنى الحقيقي تعبيرا واضحا عن هذه الفضيلة. فالفضيلة المدنية بالمعنى الذي ذكرته حضرتك هي فضيلة أخلاقية بالمعنى الخاص والمعنى العام في آن واحد. وغرس هذه الفضيلة في نفوس المواطنين يتطلب التزام الدولة أولا بهذه الفضيلة كأساس للحُكم.
د. علي رسول الربيعي س// إلى أي مدى يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تدعم أو حتى تحل محل الحكومة في غرس وتنمية الفضيلة المدنية برأيكم؟
د. محمد أبو العلا: ج// لا يمكن ولا ينبغي لمؤسسات المجتمع المدني أنْ تحلّ محل الدولة في الاضطلاع بهذه المهمة، لأن الاضطلاع بهذه المهمة هو وظيفة الحكومة في المقام الأول. بل أرى أنَّ تفعيل دور المجتمع المدني بشكل عام، سواء في هذا الأمر أو غيره، مرهون بمدى التزام الحكومة (أو الدولة) ذاتها بالفضيلة المدنية في ممارساتها وسياساتها العامة.
د. علي رسول الربيعي س// هل ينبغي أن يتضمن تشكيل المشروع تشجيع المواقف التي تنتقد الممارسات التي تنكر الحرية والمساواة؟
د. محمد أبو العلا: ج// نعم، ينبغي، بل يُعَدّ ذلك أمرا ضروريا، وإلا اِنْهارَ المشروع بأكمله.