اخترنا لكم

رضوان السيد: بين الجماعة والمجتمع والدولة

الجماعة مصطلحٌ عريقٌ يعود حتى إلى حقبة ما قبل الإسلام، وتعني ما يجتمع حوله الناس في مجتمعٍ معيَّنٍ ويلتفون حوله من الأعراف والعادات والتقاليد الدينية والثقافية. وفي العصر الإسلامي الأول صارت الجماعة مرادفةً للسلطة الشرعية، فيقال دولة الجماعة، وفي العام 41 للهجرة سمّى العلماءُ ذلك العام عام الجماعة لأنّ العرب اجتمعوا على سلطةٍ واحدة.

لماذا يجري أحياناً التقابل بين الجماعة والدولة وكأن أحد المفهومين مناقضٌ أو مُضادٌّ للآخر؟ فالدولة تقوم في المجتمع الذي تتعدد فئاته، لكنّ الجماعة بالمعنيين العربي والإسلامي هي الجامع للمشتركات الوطنية التي تقوم عليها الدولة أو هي المعنى المتضمن للشرعية التي تتبادل الاعتراف مع السلطة السائدة، وهما يتبادلان الإحاطة والحياطة والحماية. لقد جاء التشكيك من جانب بعض الإسلامويين في الدولة الوطنية بادعاء أنها لا تمثّل الجماعة، أي إجماع المجتمع! ولو لم تكن ممثلةً للمجتمع لما قامت أصلاً، فالمجتمع لا يتوحد ولا يستقر من دون الدولة التي تمثّل إجماعاته، وهو يعرِّفُ نفسَه من خلالها، فيقال حتى في التحديد الدولي: دولة فرنسا أو بريطانيا أو مصر، كما يقال شعب مصر أو شعب فرنسا أو بريطانيا.. إلى آخره. ولذا فالدولة لا تتغير بل تتغير الحكومات، وإذا حدث اختلالٌ تنشب الفوضى ويختل الانتساب لذهاب الجماعة (وحدة المجتمع) بذهاب الانتظام في دولة.

لقد كان هذا المعنى واضحاً لدى المسلمين الأوائل، فقد سمَّوا الاختلالات التي يُحدثها المتمردون على الدولة: فتنة تجب مكافحتها، وفسّر عبد الله بن المبارك (-161ه) «حبل الله» في الآية القرآنية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» بأنه الاجتماع على الإمام (= الجماعة) بمصطلح ذلك العصر للدولة.     وهكذا ليس من الحكمة أن تضلّلنا ادعاءاتُ المتطرفين واغتصابهم للمفاهيم العميقة، فننصرف عنها وندعها لهم لاستغلالها في دعاواهم وحزبياتهم وخداعهم لعامة الناس. بل المطلوب الإصرار على تصحيح المفاهيم باستمرار وعدم السير في سلسلة الأهواء والأَوهام التي تُصطنع من أجل الفتنة والنزاعات الداخلية. لا يستطيع «الإخوان» الاحتجاج بالجماعة لأنهم هم أنفسهم انشقاقٌ عن الجماعة وفي الدين.

لقد اعتدنا على تشبيه المتطرفين وأهل العنف بالخوارج القُدامى الذين تمردوا على سلطات الدولة وعبثوا بأمن الناس. لكنّ القرآن يسمّي أمثال هؤلاء في عشرات المواضع: المفسدون في الأرض، وهم بحسب مفسّري القرآن ثلاثة أنواع: المتمردون على دعوات الأنبياء للإصلاح، والذين يخرجون على الإمام العادل، وقطاع الطرق والعصابات المسلحة. فلو كان التنكر لمفهوم الجماعة مفيداً أو يصبح منسياً، فالأمر محتمل. لكنّ الواقع أنه يصبح عرضةً للتحريف وسوء التأويل والاستعمال لمواجهة دولنا الوطنية. والشأن في ذلك مثل الشأن في مفهوم أو مفاهيم الهوية. فقد اعتبر البعض أنّ المواطنة تشكل بديلاً عن الهوية. واعتبر المضلِّلون أنّ هذا التنكر للهوية سببه أنها تشمل الدِّينَ إلى جانب العادات والأعراف والثقافة.

والواقع أنّ الهوية عمادٌ من أعمدة المواطنة، لأنّ المواطنين ليسوا أغفالاً أو أفراداً قانونيين في الدولة وحسب، وإنما هم يدخلون في المواطَنة تحت ظل الدولة الحديثة بهوياتهم وخصوصياتهم التي تتجدد وتتطور وتضيف معاني جديدة، لكنّ أصولها العرفية والثقافية لا تُلغى ولا تُتجاوَز. فالدولة الوطنية لديها مجتمع مواطنين، والمواطنون ذوو ثقافةٍ وعاداتٍ وأعراف وأصول دينية وجغرافية ونَسَبية.. لأنهم بشرٌ لهم لونٌ وطعمٌ وأخلاقٌ، وهذا هو شأن كل المجتمعات.

إنّ الخوف من الجماعة (= المجتمع) والهوية يجعل من الدولة الوطنية كائناً فضائياً لا علاقة له بالأرض والموروث واللغة وإنسانية الإنسان. ولأنّ مواطني الدولة الحديثة يعيشون على أرضهم وفي وطنهم، بموروثهم وحاضرهم وسلطاتهم، فإنّ الدولة الوطنية الناجحة هي التي تصنع التكامل وتنتج ثقافة العيش معاً، مؤلِّفةً بين الثوابت والمتغيرات من دون انتقاصٍ ولا تزيُّد

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 20 يوليو 2025 01:56

في المثقف اليوم