مقاربات فنية وحضارية
كيف يعيش الفنان والمثقف في جو الخصومات السياسية والتناحرات الفكرية والتناقضات الاخلاقية؟
1- الهروب من الواقع:
كثير من النقاد والمحللين يذكرون بان الفن هو هروب من قسوة الحياة وتعقيداتها ومشاكلها التي ما تنفك.. وان المدارس الكلاسيكية والواقعية والرومانسية تعتبر هروبا من المجتمع المدني المعقد والخروج الى عالم يبعث في النفس البهجة والسرور والطمانينة وليس هناك خير من الطبيعة والعيش فيها.. كما ان الكثير من الفنانيين يعيشون في اجواء رومانسية ورؤى حالمة هؤلاء من الصعب ان يسرحوا في واقع مرير ومزري مليئ بالتناقضات والفساد ومجتمع عطلت فيه النفوس من الخيال والابداع والتنوير وحل فيه الدمار والخرافات..
وقد ظهرت خلال التاريخ مدارس تدعو الفنان للخروج الى الطبيعة والتمتع بمناظرها الساحرة ووالعيش فيها ورسمها... مثل المدرسة الرومانسية والمدرسة الطبيعية الانكليزية وكونستابل الذي يعتبر من عظماء الفن الاوربي. ومدرسة الباربيزون الفرنسية التي ظهرت عام 1846 في قرية باربيزون الباريسية والتي دعت الخروج الى الطبيعة ورسم مناظرها وحقولها ومياهها ومزارعها الخلابة، وكان من اعمدتها تيودور روسو وميليه وجان فرانسوا. كما ان زعيم الانطباعية مونيه اشترى له زورقا صغيرا وحوله الى ورشة عمل عائمة في احد البرك الريفية والتي تتمتع بمناظر جميلة في ضواحي باريس. اما سيزان فقد انهى حياته كلها في رسم الطبيعة والعيش فيها.. وكذلك عندما نطلع على رسائل وحياة كوكان نجده قد ذم المجتمع الباريسي المدني وفضل العيش بعيدا في جزر تاهيتي حتى وفاته فيها... وكان جان جاك روسو 1712 م دعى الى حياة الريف حيث اعتبر باريس سجن بضجيجها وتزاحمها المجنون، وانها غير قابلة للعيش فالريف قد يجلب للانسان الصحة العقلية والاكثر سلامة وطمانينة. وقال بان الجنس البشري سينحط مع مرور الزمن اذا لم يرجع الناس الى الطبيعة... نعم، لقد مرت على هذه المفاهيم اكثر من 300 سنة فاصبح الانسان اكثر انحطاطا وبؤسا لا يستحي ويخجل من فعل الفساد والاجرام وسرقة حقوق الناس..
2- المواجهة والصمود:
ولكن هل يعتبر الفن الحديث هروبا ايضا من الواقع المرئي ؟ نعم، قد يكون ذلك، في رائ البعض، ولكن هروبا من نوع اخر، هروبا من المظاهر السطحية للاشكال وما ينطوي عليه من تلون في الوجوه وتقلب في الافكار هروبا الى عمق الشكل وما ورائه من خفايا والى الحقائق المطلقة.. وقد اشار افلاطون الى ان كل ما نراه في الواقع هو استنساخ للحقائق المطلقة الموجودة في عالم المثل.. ولكن الفن الحديث بما ينطوي عليه من الارتفاع بمستوى الموضوعات الفنية وما تتضمنه من الحقائق والقيم الانسانية العظيمة، فيعتبر ذلك هروبا عند البعض على مستوى رفيع لانه في هذه الحالة يتطلب فيه تحويل دفة الاتجاهات الفنية الى موضوعات ذات ابعاد فكرية عميقة حيث يكون العمل الفني معبرا عن حقائق الكون والوجود والحياة الانسانية في صورها واشكالها التي لا تقع تحت حصر.
و الفنان لا يكتفي في تحوير وتغيير الاشكال والابتعاد عن المطابقة الواقعية وانما يتناول موضوعا يعبر في صميمه عن تلك الجواهر المخفية وراء الاشياء وبذلك سيكون الفن قد خطى خطوة عظيمة بل وثبة متقدمة في تاريخه الطويل.. ويكون حقا ذلك الفن التاملي الذي يستطيع عن طريق الحدس الابتكار والابداع المتمثل في عمق الطبيعة الانسانية. وفي هذا الصدد نعود الى بعض الافكار الصوفية التي طرحها الفنان شاكر حسن ال سعيد في نظرية البعد الواحد حيث وصف الانسان بانه سلبي وايجابي في هذا الكون فسلبيته انه يفني نفسه في هذه الحركة الكونية العامة ويصبح جزءا منها (وهو نقطة )، وايجابي، لانه يظيف قوته الى قوة الاشياء الكونية الاخرى، وبالتالي فان الفن هو تأمل وعمق التفكير الذي يمكن ان يوصلنا للحقائق المطلقة (حسب رأي ال سعيد)....
3- الهروب من التقاليد البالية:
يقول المفكر والفيلسوف جان جاك روسو (يولد الانسان حرا ولكننا محاطون بالقيود في كل مكان..) وقد يكون من التقاليد ما يعطل الانسان من التفكير السليم بل يضر في صحته ومزاجه وعلاقاته مع الاخرين.. وهذا لا يعني ان كل التقاليد سيئة بل هناك ما يدعى بالعرف وهو من الصفات الحميدة مثل الشجاعة والكرم والنخوة وغيرها وكانت سائدة عند العرب وقد اقرها الاسلام... ويذكر انه لما حضر عدي واخته ابني حاتم الطائي امام الرسول. ص. قال لهما كان ابوكم كريما ولو كان موحدا لترحمت عليه.. ومن التقاليد من يتعصب لها الانسان بجهل وتخلف كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءا... يقول ابو العلاء المعري (ولما رايت الجهل في الناس فاشيا.. تجاهلت حتى قيل اني جاهل...فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص.. ووا اسفا كم يظهر النقص فاضل).. ربما احد كم يعرف رواية الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير - مدام بوفاري 1856 - والتي تمثل حنق الكاتب على الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى والتي هو كان جزءا منها وقد هرب من تلك القيود والتقاليد البالية حيث تمثل في نظره اثارة للسخرية والاستهزاء، وشخصية الكاتب تتمرد على التقاليد وتتحرر كليا بشكل متطرف... وقد تعرض فلوبير بسبب هذه القصة للاضطهاد والملاحقة واعتبر كاتبا سيئا في نظر الكنيسة والطبقة الحاكمة يومذاك..
د. كاظم شمهود