مقاربات فنية وحضارية
الالوسي فنان العصر عطاء بلا حدود
خلال تاريخنا المعاصر رست صورة في اذهاننا على عائلتين عراقيتين، كان يتمتع افرادها بالاحساس الجمالي والانتماء الفني وهما عائلة الحاج سليم علي عبد القادر واولاده جواد ونزار ونزيهه وسعاد ورشاد.. والعائلة الثانية هي عائلة الالوسي والذي خرج كل افرادها من محبي ومتذوقي ومحترفي للفن والادب والشعر. شوكت الالوسي، ناطق الالوسي، نشأت الالوسي وطارق الآلوسي وغيرهم.. وكان هؤلاء قد اثروا واغنوا الساحة العراقية والعربية فنا وثقافة وعلما وادبا.. وليس غريبا ان تمتهن هذه العائلة حقل الفن التشكيلي لان اصولها متأتية من جذور كان اجدادهم قد برزوا في العلوم الدينية والمعرفية واللغة العربية واسسوا مدارس لذلك. ولازال قبر احد اجداهم مزارا في مدينة حديثة شيد عام 1589 وهو الشيخ عبد القادر الطيار. وهم من اسر الاشراف وحسنيين يعودون في اصولهم الى الرسول محمد –ص- وذكر الاستاذ محمد بهجة الاثري في كتابه اعلام العراق: (والالوسيون سادة اشراف محبكوا الاطراف وضعوا الى زينة النسب حلية الادب فتفيؤا في الشرف مكانا عليا..).
(ان فاتكم اصل امرئ ففعاله... تنبئكم عن اصله المتناهي)
شاكر الالوسي
هو شاكر توفيق شاكر الآلوسي بكلوريوس وماجستير من كلية الفنون الجميلة في بغداد واستاذا فيها ومحاضرا في عدة جامعات عراقية واجنبية، من مواليد 1962 (مدينة آلوس التابعة الى محافظة الانبار) - كانت اطروحته توضيف الفلكلور الشعبي في اللوحة التشكيلية المعاصرة في الوطن العربي – وقد اشتغل على هذا الموضوع عدة سنوات في مطلع التسعينات، واقام معرضا شخصيا له عام 2009 في كالري الاورفلي في عمان عنوانه- شرقيات -و اصدر كتابا عنوانه – امراءة من وادي الرافدين – اما اول معرض له فكان عام 1994 ثم توالت بعد ذلك المعارض الفنية الشخصية والمشتركة في داخل وخارج العراق.
الفلكلور الشعبي
يقول شاكر (هناك رغبة في استقصاء خلفيات التراث المؤثرة فينا من خلال الالوان والرموز والواقع المعاش في مراحل معينة).. ويقول المؤرخ والناقد جبرا ابراهيم جبرا (ان شاكر الفنان الذي جعل من خفايا التراث ظاهرا وما اغلق عليه في بيوت بغداد القديمة معروضا ومتاحا..).
رسم الكثير من الفنانيين العراقيين موضوع البغداديات سواء كان ذلك في النساء او الشناشيل او التقاليد البغدادية، منهم عدد من الرواد في مطلع الخمسينات، ولكن الريادة لا تعني بالظرورة الافضلية فهناك من الفنانين المعاصرين قد فاقوا الرواد في حسهم وخيالهم وابداعهم الفني، مثل شاكر الالوسي. حيث نرى مشاهد للنساء البغداديات وهن في دردشات وحوارات ونسمع انغام موسيقية وضرب الدفوف تنسجم مع انغام الالوان وايقاعات الخطوط العفوية. ونتخيل حركة المشهد ودوي الصحون والاكواب ودخان الناركينة.. وهي مشاهد توثيقية لحياة الطبقة المترفة البغدادية واللقاءات العائلية الخاصة وما يقدم فيها من تناول مختلف الاطعمة وكذلك بعض الاغاني الشعبية مثل (خدري الجاي خدريه اعيوني المن اخدره..).
و يذكر المحامي طارق حرب من ان الاميرات من نساء بغداد في العهد الملكي عادة ما يجتمعن ويقيمن الحفلات الخاصة واحيانا يغنن اناشيد الاطفال (شعر البنات وين اولي وين ابات، ابات بالدربونة، والهيشة ازغيرونة، عتوي لحك بزونة..). وهكذا كانت جلسات العوائل البغدادية الخاصة يسودها المرح والمسرة.. ونرى مع هذه الزينة للمراءة البغدادية جدائل رقيقة تنزل من رؤسهن وتسقط في احضان صدورهن وطوق يحبس الشعر كانه تاج على الراس، ورغم هذا المظهر الجمالي الجذاب الا اننا نرى صمت مطبق يخيم على وجوههن، وربما متأتي ذلك من التربية الدينية والحشمة التي كانت سائدة في البيوت البغدادية. بينما تصف احد الاجنبيات السائحات التي زارت بغداد والتقت مع حريم الباشوات من انهن ثرثارات ضاحكات مليئات بالمرح والمزاج الغريب ويخلون من الجمال ما عدا الافراط في الزينة من ملابس وحلي...
و قد رسم شاكر المرأة البغدادية بوقار وبصيص من مفاتن الجسد فلم يهتك ستر المرأة البغدادية بل اعطاها حرمتها وحشمتها وادرك ان الجمال ليس بالتعري وانما بالستر والوقار، حيث يجعل جمالها ملائكي روحي يتناسب مع التقاليد العراقية، فرسم العيون كبيرة الحجم تأخذ احيانا ثلاثة ارباع الوجه والفم صغيرا والحواجب مقوسة شديدة السواد والوجة مدور، وكلها عناصر متأتية من تأثيرات مدرسة بغداد والمنحوتات السومرية.
و تظهر في رسوم شاكر الكفوف والمعاصم مزينة باسوار من الذهب المطعم وعلى رقابهن قلائد تشبه قلائد وزينة ملكة شبعاد السومرية وفي ارجلهن الخلاخل(الحجول)التي تحدث خرخشة ورنة موسيقية عند حركة الارجل. وكأنه يجسد لنا قصيدة امرأ القيس،(تنعموا بالديباج والحلي والحلل... لها مقلة لو انها نظرت بها الى راهب قد صام وابتهل لاصبح مفتونا معني بحبها.... عراقية الاطراف رومية الكفل..) والاطراف العين الجميلة الساحرة التي ترمق بها الاخر من طرف (ان العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحينا قتلانا.../ جرير)، كما نرى وجوه نساء شاكر ساطعة كانها لؤلؤة افرطت من عقدها وتناثر فاضائت ما حولها..
و يذكر ان زبيدة زوجة هارون ارشيد هي اول من لبس الخلخال حيث كانت وفرة الذهب عندها بكميات كبيرة وهائلة جعلها تفكر بزينة الارجل وصناعة الخلخال، وهو عبارة عن طوق مفتوح له قفل احيانا مزين بحبات متنوعة ومختلفة من الاحجار الكريمة الثمينة وقطع الذهب على شكل عناقيد او شراشيب، وله رنه رومانسية عند حركة الارجل تسري الى القلوب. ونرى هذا الخلخال يطوق معظم ارجل نساء شاكر حيث يعبر عن رقة المراة وجمالها وسحرها..
التقنية في اعمال شاكر
لم تختلف تقنيات العمل الفني عند شاكر عن غيره من الرساميين الا في مسألة الخصوصية، فهو يستخدم الوان الكريلك والزيت والكولاج والقماش والورق وغيرها، وهذه المواد الخام نجدها مستخدمة وموجودة عند غالبية الفنانين منذ العصور القديمة.. واليوم اختلطت وانتشرت الاساليب والتقنيات في كل مكان واصبح للفن صفة عالمية. ولكن بقى عنصر الخصوصية قائما يميز كل فنان عن الاخر. مثلا كلنا يعرف ان بيكاسو وبراك وخوان غريس هم رواد المدرسة التكعيبية وفيها نرى تشابها في اعمالهم بحيث لو حذفت الاسم من اللوحة لصعب عليك نسبة اللوحة الى احدهم. وكذلك يسري ذلك على فن المنمنمات الاسلامية حيث تحتاج الى تعمق في الدراسة لنسبتها الى هذه المدرسة او تلك.
تمتاز اعمال شاكر باللون والخط، فاللون ياخذ نغم واحد يطغي على اللوحة، بمعنى انه يغطي سطح اللوحة على الاغلب بلون واحد ودرجاته، او بلونين ثم يبدأ يخطط اشكاله عليها بخطوط انطباعية لينة طروبة، ونشاهد الاشكال محددة بخط معين له ايقاع خاص اكثر امتاعا للبصر وجاذبية للروح وهو ايضا يذكرنا بالمدرسة الوحشية لماتيس 1905. ولم نجد او نشاهد في اعمال شاكر فراغا الا اللهم خلق انطباع بالفراغ من خلال حصر بعض الاشكال في ركن من مساحة اللوحة وترك الاخر بخطوط مبسطة عفوية خالية من الالوان.. كان الفراغ في الاسلام مكروها فجاءت واجهات المساجد مليئة بالخطوط والاشكال الزخرفية، وكان قصر الحمراء مليئا بالزخارف والخطوط العربية. ويذكر الدكتور زكي محمد حسن بان كراهية الفراغ في الفن الاسلامي متأتي من العقيدة الاسلامية. واليوم نجد عنصر الفراغ سمة من سمات الفن الحديث كما هو ظاهر في اعمال خوان ميرو وانتونيو تابيس وغيرهم من اصحاب المدرسة المفاهيمية. والخط كان من صفات الفنان الشرقي فهو يمكن ان يعبر عن الحركة والكتلة ويعبر عن الشكل باكثر جمالية روحية، ويمكن لنا ان تخيل الخط يرقص على سطح اللوحة ولكنه احساس وشعور يطلق عليه هربرت ريد بتسرب الانفعال، وفي الواقع ان الخط لا يرقص وانما نحن الذين نتخيل ذلك نتيجة الى قوة الاحساس والمشاعر التي تندمج مع روح الفنان في لقاء جمالي على سطح اللوحة.. (الارواح جنود مجندة منها ما ائتلف ومنها ما اختلف).
والملاحظ في اعمال شاكر ان الضوء يشكل عنصرا اساسيا في تجسيم الاشكال وانه يأتي من جميع الجهات او ينبعث من داخل الشكل وهو ظاهرة متغيرة وليس كما كان عند رسامي عصر النهضة وما بعدهم كما هو عند رمبرانت او كرافيجيو حيث يوجه الضوء على الشكل من جهة واحدة.. ويمكن الايحاء بالضوء من خلال استخدام الالوان الحارة والباردة النقية وتحديدها بالخط كما هو في اعمال تابيس.
الرومانسية
اما الرومانسية في اعمال شاكر فهي الجمال كله فالاجسام سائبة جميلة والخطوط طرية والرؤس منحنية ورقة الاجسام التي توحي بالحب والهدوء والسلام، وهو يذكرنا بلوحة ديلاكروا 1698 نساء جزائريات حيث رسمهن باسلوب رومانسي بملابسهن الزاهية البديعة وبالوان جذابة وجو يعكس كونهن اميرات عربيات. وهو ما نجده في اعمال شاكر ونسائه البغداديات.
والملاحظ ان شاكر الالوسي من اكثر الفنانين العراقيين خصوبة وغزارة في الانتاج وهو يتمتع بقدرة فنية هائلة ولم يتوقف عن ذلك ابدا الا في فتراة استراحة يفر بها الى رؤية اصدقاءة لاحتساء الشاي او القهوة او زيارة معرضا فنيا.. زرته في الفترة الاخيرة في عمان 2022 ووجدت بيته قد حوله الى متحف يضم اعمال كثير من الفنانيين العراقيين والعرب، كما وجدته مشغولا بمشروع معرضا فنيا جديدا، لا اريد التكلم عنه حتى ان يقيمه.
***
د. كاظم شمهود