أقلام حرة

ليث العتابي: معاناة الإنسان المنتج في البيئات الكسولة

منطق الاتهام، والحسد المؤسسي

تواجه المؤسسات التي يسودها الروتين والكسل البنيوي إشكالية عميقة تتمثل في عجزها عن استيعاب الإنسان المنتج، بل تحول إنتاجيته إلى مصدر تهديد بدلاً من كونها رافعة تطوير.

وفي هذا السياق، لا يُواجَه الفرد المنتج بالتقدير، وإنما بسلسلة من الاتهامات الجاهزة التي تتكرر في مختلف البيئات غير الصحية، من قبيل: سطحية النتاج، تكراره، أو كونه خطاباً صحفياً لا يحمل عمقاً معرفياً.

إن هذه الاتهامات، على الرغم من شيوعها، لا تعبّر عن نقد علمي بقدر ما تكشف عن أزمة معرفية ونفسية لدى مُطلقيها.

أولاً: الإنسان المنتج بوصفه اختلالاً في النسق السائد:

في البيئات الكسولة، تُبنى المعايير الضمنية للقبول المؤسسي على الحد الأدنى من الأداء، لا على التميز.

وعليه، فإن الإنسان المنتج يُحدث اختلالاً في هذا النسق؛ إذ يكشف بمحض فعله اليومي هشاشة البنية القائمة، ويعرّي زيف الادعاءات المهنية لأقرانه.

من هنا، يتحول الإنتاج من قيمة إيجابية إلى (خطر رمزي) يستدعي الاحتواء أو الإقصاء.

إن المشكلة لا تكمن في طبيعة النتاج ذاته، بل في كونه يعيد تعريف السقف المقبول للأداء، وهو ما لا ترغب البيئات الكسولة في مواجهته.

ثانياً: اتهام السطحية بين وهم العمق وعجز الفهم:

يُعدّ اتهام النتاج بالسطحية من أكثر التهم تداولاً، وهو اتهام يكشف عن خلطٍ شائع بين الوضوح والابتذال.

فالخطاب الواضح القادر على إيصال الفكرة دون تعقيد مفتعل هو في كثير من الأحيان نتاج فهم عميق، لا دليل ضعف.

أما من يربط العمق بالغموض، فإنه غالباً ما يعوّض عن فقر المحتوى بتعقيد لغوي أو مفاهيمي لا وظيفة له سوى الإخفاء.

وعليه، فإن وصف النتاج بالسطحية لا يصدر غالباً عن تحليل منهجي، بل عن عجز عن قراءة العمل في سياقه العلمي والوظيفي.

ثالثاً: تهمة التكرار وسوء فهم التراكم المعرفي:

يُتهم الإنسان المنتج كذلك بتكرار أفكاره أو أعماله، في تجاهلٍ واضح لمفهوم التراكم المعرفي الذي تقوم عليه كل المشاريع العلمية الرصينة.

فالإنتاج الحقيقي لا يقوم على القفز الاعتباطي بين الموضوعات، بل على الاشتغال المستمر على مسارات محددة تتطور مع الزمن.

المفارقة أن من يطلقون تهمة التكرار هم في الغالب الأكثر جموداً، غير أن جمودهم غير مرئي لغياب أي نتاج يُقاس أو يُراجع.

رابعاً: (كلام الجرائد) كاتهام نخبوي زائف:

يندرج توصيف النتاج بأنه (كلام جرائد) ضمن نزعة نخبويّة زائفة تحتقر الخطاب العام لا لقصوره، بل لوصوله.

إن القدرة على مخاطبة شرائح متعددة بلغة مفهومة هي إحدى علامات النضج العلمي، لا دليلاً على التسطيح.

غير أن البيئات الكسولة تميل إلى تقديس الخطاب المغلق؛ لأنه يحفظ لها وهم التفوق دون جهد حقيقي.

خامساً: الحسد المؤسسي بوصفه دافعاً خفياً للنقد:

لا يمكن فصل هذه الاتهامات عن ظاهرة الحسد المؤسسي، حيث يتحول الفارق في الإنجاز إلى شعور بالتهديد، فبدلاً من رفع مستوى الأداء، يُصار إلى خفض قيمة المتميّز عبر تشويه نتاجه، وفي هذا السياق، يصبح النقد أداة دفاع نفسي، لا ممارسة علمية.

الواقع أن الفجوة بين الإنسان المنتج ومنتقديه ليست فجوة وقت أو فرصة، بل فجوة عقلية ومنهجية؛ إذ إن امتلاك الزمن وحده لا يصنع إنتاجاً، ما لم يُدعّم بالجدية والقدرة والرؤية.

إن معاناة الإنسان المنتج في البيئات الكسولة ليست معاناة فردية، بل مؤشر خلل مؤسسي عميق.

فحين يُدان الإنتاج، ويُكافأ الركود، تصبح المؤسسة عدوةً لذاتها.

مع ذلك، يبقى أثر الإنسان المنتج هو الباقي؛ لأن القيمة الحقيقية لا تُقاس بقبول الكسالى، ولا باعتراف الحاسدين، بل بما يُحدثه العمل من تحول معرفي وعملي ملموس.

***

الشيخ الدكتور ليث عبد الحسين العتابي

في المثقف اليوم