أقلام حرة
محمد الزموري: يوميات خوارزمية

إنها ليست أكثر من معادلات رياضية باردة، بلا قلب ولا ضمير، ومع ذلك تسلّلت إلى كل دقيقة في حياتنا حتى صارت أشبه بحماتنا الرقمية: تعرف متى نصحو، وماذا نأكل، ومتى نمرض، وأحياناً – للأسف – كيف نفكر. الخوارزميات، تلك الكائنات الصماء التي نمنحها من وقتنا أكثر مما نمنحه لأمهاتنا، يمكنها أن تُنقذ حياتنا أو تدمّرها بنفس خفة نقر إصبع على الشاشة.
7:30 صباحاً. جرس المنبّه يصرخ. نصف نائم، يمدّ المرء يده إلى الهاتف. أوّل ما يراه: توقعات الطقس. بعدها، حساب البنك، ثم رحلة البحث عن الحافلة التعيسة عبر تطبيق يَعِدُ بالوقت الدقيق، وكأنه "عرّاف" في هيئة برنامج. ثم يبدأ الطواف المقدّس بين تويتر وواتساب، مروراً بفنجان قهوة مُرٍّ يتكفل به أيضاً تطبيق يذكرك أنك تستهلك الكافيين فوق الحد الطبيعي.
ثم دوّامة يومية متكررة: تطبيق لقياس ضربات القلب وكأننا جهاز تجارب، تقويم يخبرك بالمناسبات بدقة سويسرية، خريطة توجهك كأعمى وسط الزحام، وتطبيق نوم يحلل شخيرك وكأنه لجنة تحكيم. هذا الروتين ليس لشخص واحد فقط؛ إنه روتين الجميع، بغض النظر عن جنسيتهم أو راتبهم أو لون حذائهم. القاسم المشترك؟ الخوارزمية.
والأرقام تتكلم: في هذه اللحظة، هناك أكثر من خمسة آلاف مليون مستخدم يجلدون جوجل بستة آلاف مليون عملية بحث، ويرسلون 180 ألف مليون بريد إلكتروني، ويغردون حتى تصاب العصافير بالغيرة. كل هذا تحت عين ساهرة: خوارزمية.
تشرح الخبيرة التقنية لوسيا فيلاسكو بلا مواربة: "أي تطبيق تتفاعل معه هو في جوهره خوارزمية". إنها مثل العدّاد الخفي الذي يسجل كل لحظة ضعفك: كم ساعة أهدرت في إنستغرام؟ في أي وقت من السنة تبكي أكثر؟ شركات التكنولوجيا تعرف وتستخدم، ونحن نصفّق.
الخوارزميات قديمة، وُلدت قبل ألف عام تقريباً على يد عالم فارسي اسمه الخوارزمي، وكان قصده أن يحل مسائل الرياضيات لا أن يحلّ محلّ ضمائرنا. في معناها البسيط، وصفة طبخ هي خوارزمية. قرار الانفصال عن الحبيب هو خوارزمية. لكن عندما تزاوجت مع التكنولوجيا أنجبت لنا "الذكاء الاصطناعي"؛ طفل عبقري، لكنه متوحش أحياناً.
اليوم، حتى الشركات الناشئة في بلدان نامية تلجأ إلى الذكاء الاصطناعي في التسويق وخدمة العملاء. يبدو أن العالم يركض خلفه كما يركض وراء آخر موضة في الأحذية. الاستثمار فيه يتضاعف، والوعود لا تنتهي. لكن، كما تقول فيلاسكو، "عندما يتعلق الأمر بالناس، علينا أن نفكر مرتين". فخوارزمية التوظيف قد ترفضك لأن اسمك "غريب"، وخوارزمية التعرف على الوجه قد تخلط بينك وبين مجرم هارب، أما خوارزمية الأخبار فهي كاذبة محترفة.
تاريخها مليء بالفضائح: الجنيه الإسترليني انهار في ثوانٍ عام 2016 بفضل خوارزميات تداول العملات. "تاي"، روبوت تويتر من مايكروسوفت، تحول إلى عنصري فجّ بعد 24 ساعة فقط. وفيسبوك اضطر لإلغاء خوارزمية كانت عاجزة عن التمييز بين الحقيقة والهراء. أداة بلا ضمير تساوي كارثة بلا حدود.
لكن، للإنصاف، هي أيضاً بطلة خفية: تشغّل مكابح سيارتك قبل أن تموت، تحمي حسابك البنكي من الاحتيال، تساعد الأطباء في تشخيص الأمراض مبكراً، بل وتدير توربينات الطائرات. كما يقول الخبير إنريكي دانز: "الخوارزمية بلا إرادة، هي تتغذى بالبيانات فقط". تماماً كطفل مدلل.
المصيبة تبدأ عندما تُغرقها بالبيانات حتى تصبح كائناً غامضاً لا يفهمه حتى من صنعه. أوروبا حاولت ضبطها عبر "قانون الذكاء الاصطناعي" سنة 2021، فقسمت التطبيقات إلى آمنة وخطيرة ومحرّمة. لكن، كالعادة، شركات التكنولوجيا صرخت: "ستموت الاستثمارات!" وكأن أرباحها أهم من حقوق الإنسان.
مارك براكل يردّ: "بل العكس. إذا كان منتجك آمناً، فسيربح السوق". لكنه يضيف تحذيراً لاذعاً: "لا أحد يريد أن يعيش في سجن رقمي مُحكم فقط بحجة الأمن".
المفارقة أننا نشتم الخوارزميات طوال الوقت بينما هي في الحقيقة انعكاس دقيق لأدمغتنا. كما تقول لورينا جاومي-بالاسي: "النظام لا يفرض شيئاً، نحن من برمجناه هكذا". إن أردنا خوارزمية عنصرية أو متحيزة، سنحصل عليها. وإن أردنا واحدة تنقذ الغابات من الحرائق كما فعل السكان الأصليون في أستراليا حين دمجوا طقوسهم القديمة مع الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة، فسنحصل أيضاً على معجزة بيئية تقلل الكوارث بنسبة 75%. المسألة ليست "ماذا تستطيع الخوارزمية أن تفعل"، بل "ماذا نريد نحن أن تفعل".
الخلاصة؟ لسنا ضحايا أبرياء. نحن شركاء في الجريمة. الخوارزميات مجرد مرآة، قاسية أحياناً، تعكس طريقة تفكيرنا نفسها. مشكلتنا أننا نحبّ أن نلومها، لأنها لا تحتج ولا ترد.
23:00. ينام صاحب الهاتف مطمئناً. لا داعي لضبط المنبه، فخوارزميته تعرف تماماً متى يفتح عينيه، ومتى يصمت، ومتى يحلم. حتى نومه أصبح مسجلاً بدقة بيروقراطية.
الخبر الجميل؟ لا داعي للقلق. الخوارزمية رتبت كل شيء.
الخبر السيء؟ الخوارزمية رتبت كل شيء.
***
محمد إبراهيم الزموري