أقلام حرة
ثامر الحاج امين: "قصة سنغافورة".. دروس في البناء والنهضة
مسألة بناء الدولة واحدة من المواضيع المهمة والشائكة في نفس الوقت خصوصا في ظل نظام سياسي متعدد الولاءات وهيمنة سياسية لا تؤمن بالتعددية والعدالة الاجتماعية، ومع الاقرار ان لكل بلد ظروفه الخاصة وهويته الاجتماعية لكن هذا لا يمنع عند الشروع بالبناء من النظر الى تجربة الغير والعمل على تقييم اخطاءها ونجاحاتها والاستفادة من معطياتها، فمن مقومات البناء السليم هي الاستفادة من تجارب الاخرين والأخذ بإيجابياتها وتفادي سلبياتها وهوما قامت عليه تجربة البلد الآسيوي " سنغافورة " التي تعد واحدة من أهم التجارب المعاصرة في بناء الانسان ونهضة البلدان حيث رسم خطوات ومعالم هذه النهضة بدقة كتاب (قصة سنغافورة) الذي يمكن اعتماده دليلا ومرشدا لبناء البلدان والنهوض بحياة شعوبها، فهو يحكي مذكرات صانع نهضة سنغافورة (لي كوان يو1923 ــ 2015) أول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة الذي نجح في بناء دولة من العدم وحولها الى واحدة من أنجح الدول الأسيوية، فـ (قصة سنغافورة) كتاب غني بمادته ويكشف عن نهج لي كوان في مكافحة الفساد والتخلص من العملاء وبناء سنغافورة مستقلة، والأغرب في موقف لي كوان انه بعد كل الذي فعله لإنقاذ بلاده من التبعية وتحويلها من دولة فقيرة الى واحدة من أغنى دول العالم لا يعتبر نفسه بطلا او منقذا او تاج رأس فقد أجاب على دهشة المعجبين بإنجازاته قائلا (أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، انا فقط قمت بواجبي نحو وطني)، بهذا التواضع النادر ينظر لي كوان الى مكافحة الفساد على انه ليس بالإنجاز الخارق والمستحيل انما تحقيق ذلك يحتاج الى شجاعة ووطنية خالصة، وفوق ذلك يعطي خريطة انجاز هذه المهمة فيشير الى ان (تنظيف الدرج من الفساد يبدأ من الاعلى نزولا الى الأسفل) فالفساد يبدأ من قمة هرم السلطة نزولا الى اصغر مواطن سواء كان مكلفا بخدمة عامة او مواطنا عاديا وعندما يكون المسؤول محميا من المسائلة فمن الطبيعي ان يستهتر بالمقدرات ولا يتورع عن القيام بأفعال تنافي المصلحة العامة وتخل بشرف المسؤولية ويشير الى واحدة من علامات تفشي الفساد بقوله (حين يسير اللصوص في الطرقات آمنين فهناك سببين : أما ان يكون النظام لص كبير او ان غباء الشعب أكبر) كما يؤكد في مذكراته على مراعاة الأولوية قبل كل شيء الى بناء الانسان، فالإنسان السليم هو الذي يبني ويقيم العدل ويبسط الأمن ويصون استقلال البلاد وهو الذي يصنع ويبدع ويأخذ بالبلاد الى بر الأمان فحين سأله احد الصحفيين عن الفرق بين دولته ودول العالم الثالث الاسيوية فانه يجيب بكل ثقة وحكمة (الفرق اننا نبني المكتبات ودور البحث العلمي وهم يبنون المعابد، نحن نصرف موارد الدولة على التعليم وهم يصرفونه على السلاح، نحن نحارب الفساد من قمة الهرم وهم يمسكون اللصوص الصغار ولا يقتربون من المفسدين الكبار) وتأكيده على بناء الانسان يعيدنا للتذكير بقصة بناء سور الصين العظيم الذي اعتقد الصينيون القدامى انه ببنائه سيعيشون في أمان حيث ﻻ يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن خلال 100 سنة الاولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة الى اختراق السور او تسلقه،، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب، لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء من يحرسه، هذا الدرس يكشف بوضوح ان من أهم مقومات بناء الاوطان هي بناء الانسان .
***
ثامر الحاج امين
...................
* كتاب (قصة سنغافورة) فيه من الدروس ما يجعلنا نفكر كم نحن بحاجة الى رجل بحكمة ووطنية لي كوان