أقلام حرة
موسى فرج: عون.. بنسخته الجديدة غير عون صاحبي
عرفت عون/النسخة القديمة عن بعد، فماذا عن عون/ النسخة الجديدة..؟
حصل في عام 1989 وكنت أعمل في معمل سمنت المثنى الذي يبعد عن السماوة باتجاه باديتها التي تنتهي بصحراء السعودية بـ 37 كم، والذي انتقلت وظيفياً إليه قبل ذلك بسنتين تاركاً أفضليات السكن في بغداد والعمل ضمن دائرة أكثر من مرموقة فيها مضطراً للخلاص من الملاحقة الأمنية والسبب الوحيد وراء تلك الملاحقة عدم انصياعي للانتماء الى حزب البعث، وفي حينه ولعدم تمكني من الإفلات لخارج العراق لأسباب عائلية صرفه، قلت: أعوف بغداد وأعود الى السماوة بعد عشرين سنه وهناك أجد من يرعى عائلتي في حالة غيابي لأي سبب، وأيضاً اذا عضو شعبه أو عضو فرع فحتماً أعرف اسم أمه وزوجته وأقول له: يمعود..!، وبالفعل خاطبت أحدهم يعمل في نفس الدائرة وكان عضو فرقه أو شعبه وكان يوم كنت تلميذ في الابتدائية فراش في مدرستي، قائلاً: أبو فلان أنت مو چنت خوش ولد ؟! ..ضحك الحاضرون واشترك معهم بالضحك قائلين: وهسا..؟ كَلتلهم: لا مو على حطة ايدي.. أما الآخر وكان أيضاً عضو فرقه وكان من عشيرتي ويحضر اجتماع مجلس الإدارة للشركة كونه مسؤول حزبي ولا يفوت أي رأي يطرحه أي من المدراء أعضاء مجلس الادارة في الاجتماع دون أن يُخطئه فقد دخل يوماً لمكتبي وخاطبني قائلاً: أنت تعرف أن البعث يسري في شراييني وأوردتي، قلت: نعم والله فقد عرفتك بعثياً لا يشق له غبار من أيام الحرس القومي، قال: بس انت عندي تسوا عفلق..!، كتمت الضحكة بصدري خشية ان يتراجع وشكرته، وعلى مدى سنة كاملة إن أبديت رأيا في اجتماع مجلس الادارة وأغوته نفسه الأمّارة بالتعقيب لتخطئة ما أقول، خاطبته بالمباشر: أبو ثائر مو آنا أسوا ذاك الرجال.. خوب ما نسيت..؟ فيبتلع كلامه ويصمت..!
في ذلك اليوم من عام 1989 خابرني موظف الاستعلامات في المدخل الرئيسي وهي في دوائر وزارة الصناعة تبعد كثيراً عن الادارة، أن أثنين من الجهاز يريدان الدخول إليك، وكانت مفردة الجهاز في تلك الحقبة تستخدم للدلالة على جهاز المخابرات فقط لا غير وهو اسم مرعب، قلت فليتفضلا، لكني بعد إن أغلقت سماعة الهاتف قلت مع نفسي: الله لا يوفقهم لعمق الصحراء ولحقوني.. فإلى أين أذهب بغية الخلاص منهم ..؟
عندما وصلا كانا طويلي القامة يرتديان ملابس عربية بيضاء جميعاً باستثناء العقال الرفيع على الغترة البيضاء فلونه أسود لأن الوقت صيفاً وتلك الملابس ما يرتديه سكنة تكريت بالذات.. قدم الأول نفسه لي قائلاً: اللواء "س" من الجهاز، وقدم الثاني نفسه قائلاً: المقدم "ع" من الجهاز، بعد ترحيبي بهما بتوجس كانت الدقائق اللازمة للانتهاء من شرب الشاي ثقيلة عليَّ أريدها تمضي ليفصحا عن مرادهما، هل يتعلق بي ..؟ وما هو..؟
انتهيا من شرب الشاي فأخرج "اللواء" من حقيبته كتاباً رسمياً عليه ختم جهاز المخابرات / مكتب الرئيس ووضعه أمامي..
الكتاب يقول: نريد 30 ألف طن سمنت..! يعني انهم لم يكونا قادمين لاعتقالي..! انهم يريدون سمنت، انعل أبو السمنت لابو أهله..!! أطلقت ضحكة مكتومة وألتفت على حاجبي "الفراش" وكان يقف بجواره على رأسي مسؤول أمن المعمل بدرجة عضو فرقة في الحزب، وقلت لأبي ثائر مسؤول الأمن: بالحال أبو ثائر توجه لمطعم المعمل لإعداد غداء فخم يليق بالضيوف والجهاز..!
وبعد إن عرفت أني لست المطلوب اطمأنت نفسي وبدأت أتفلسف فقلت: تعرفان أن الوقت إعمار الفاو والسيد الرئيس يشرف شخصياً على عملية الإعمار التي تحتاج الى كميات هائلة من السمنت وانتاج المعمل محجوز لهذا الغرض حصراً، ثم انكم جهاز المخابرات وليس وزارة الاسكان فتستخدم السمنت ولا وزارة التجارة لتبيعه فما علاقة جهاز المخابرات أو حاجته للإسمنت..؟
قال الذي رتبته لواء: نحن نعرفك انسان مثقف وكنت تعمل في الدائرة الفلانية سابقاً، "يعني معلوماتهم كامله عني"، وأضاف قائلاً: كما تعلم بأن علاقتنا متينة جداً بميشيل عون ونريد ارسال أسلحة له بكميات كبيرة، ولكن لا توجد حدود مشتركه بين العراق ولبنان، في هذه الحالة نحتاج لكميات كبيره من السمنت نغطي بها الأسلحة التي سنرسلها عبر البواخر لميشيل عون..!".
في داخلي ضحكت على سفاهتهما لأن مثل هذا السر الخطير لا يمكن كشفه لمثلي، وأعرف الدافع الحقيقي، إذ أن الحكومة في حينه تشترط على التجار أن يسددوا 50% من قيمة ما يصدرونه بالدولار الأمريكي لدى البنك المركزي لحاجة الخزينة للعملة الأجنبية والـ 50% الأخرى بإمكانهم التصرف فيها وهؤلاء محتالون يريدون السمنت مجهزاً باسم جهاز المخابرات ليبيعونه لشركة كويتية اسمها الشراع الأزرق و "يلهفون" الدولارات فلا يسددونها للبنك المركزي والسلام.
وبما إن الأوراق حقيقية فالكتاب صادر من جهاز المخابرات الى وزارة الصناعة ووزير الصناعة موافق على تجهيز جهاز المخابرات بالكمية المطلوبة، فإذن دوري يكون تنفيذي بحت ولا علاقة لي بغير ذلك..
قلت: "يصير خير كَوموا لغداكم".. لكني لم أذهب معهما للمطعم استصغاراً لشأنهما بعد إن عرفت الغاية، واني لست المقصود بمجيئهما، وبعد إن اطمأن قلبي من الاعتقال.. بعد تناولهما غداؤهما أصدرت أمراً لدائرة التجهيز في المعمل أن اقسموا انتاجكم مناصفة نصف ترسلونه لإعمار الفاو بقيادة السيد الرئيس، ونصف تسلمونه لهؤلاء لحين الانتهاء من تجهيز الكمية البالغة 30 ألف طن..
بعد مرور 3 أشهر والدوام في منشئات وزارة الصناعة أطول من غيره كنت أتناول غدائي في بيتي بعد عودتي من عملي وكانت قد بلغت السابعة مساء، واتابع التلفاز، في حينه كان برنامج الأمن والمجتمع يُعرض في السابعة ويعرضون فيه برؤوس حليقة من ارتكبوا جرائم بحق الدولة.. واذا بوجه سبق إن رأيته، من هذا، من هذا..؟ آه ..هذا صاحبي أبو الجهاز، اللواء في جهاز المخابرات وقد عرضوه برأس حليق..! ومقدم البرنامج يقول: نعرض على حضراتكم رئيس عصابة للتخريب الاقتصادي..!
تبين لاحقاً أن سيادة اللواء بحكم عمله في الجهاز قد مارس السطو على مكتب رئيس جهاز المخابرات وسرق أوراق فارغة عليها شعار الجهاز وطبع عليها ما يريد وزوَّر توقيع رئيس جهاز المخابرات ووضع عليه رقم الصادر وأرسله الى مكتب وزير الصناعة فوافق الأخير ووقع كتاب موجه الى مدير عام شركة السمنت وهذا بدوره حرر كتاب رسمي موجه لمعملنا أصوليا ..وأنا نفذت، لكنهم بعد مرور 3 أشهر على بيعهم الكميات لم يسددوا 50% من أقيامها بالدولار للبنك المركزي وعندما طالب البنك المركزي جهاز المخابرات جاءهم الرد من الجهاز بأنه لم يقم بطلب اسمنت ولم يوجه كتاباً، فتم التحري وكشف التزوير والعصابة ..
بعد عشر دقائق ضغط أحدهم جرس الباب فخرجت فكنت وجهاً لوجه مع زميلي مدير الانتاج في المعمل.. لكنه بدلاً من أن يواسيني بادرني بقوله: أحترق فيلمك..! قلت كيف..؟ قال أما رأيت " الأمن والمجتمع" ..؟ قلت بلى لكن موقفي سليم 100% ونارهم تاكل حطبهم..!
وحكم عليهم بالمؤبد وعلى رأسهم سيادة اللواء و12 آخرين.. بعد مضي 40 يوم صدر عفو خاص من الرئيس الملهم بحقهم..! لماذا..؟ لأن من بينهم ثائر المجيد وهو ابن أخو صدام.
ولأن ميشيل عون قد أطال الله مدة بقاءه رئيساً للبنان كل هذه المدة فإني والحق يقال كلما رأيت صورة له أو خبر تذكرت الحادثة وسيادة اللواء وكيف ارتعبت من مجيئهما إليَّ وخوفي من ملاحقة الجهاز لي في عمق بادية السماوة المفضية الى صحراء السعودية..
في الأيام الأخيرة الماضية برز اسم عون ثانية ليكون رئيساً لجمهورية لبنان الشقيقة فضحكت مطولاً، وخشيت أن يرسل له العراق ثانية اسلحة تحت أكياس الإسمنت، لكني عندما قرأت أول تصريح له يقول بوجوب حصر السلاح بيد الدولة تيقنت بأن النسخة الحالية لعون غير النسخة الأولى وان جوزيف عون غير ميشيل عون...
من جانب آخر فقد بحت أصواتنا في مجالدتنا لطبقتنا السياسية في العراق ونحن نصيح بملأ الفم بأن غادروا المحاصصة يرحمكم الله فقد أتت على كل شيء في العراق ودونكم حكومة التكنوقراط فهم الأقدر على إدارة الشؤون العامة في البلاد.. لكنهم يصرون على التمسك بالمحاصصة مع أنهم أنفسهم يشتمونها على رؤوس الأشهاد ويصفونها بأقذع الأوصاف في نفس الوقت يحضنونها بشبق ويتمسكون بها تمسك الغريق، وبعد لأي قدموا من بين صفوفهم الأشد ولاءً وقالوا: هذا ماجستير وذاك دكتوراه..! قلنا يا قوم: التكنوقراط لا يعني الشهادة فحسب بل يعني وهذا هو الأهم أن يتصرف المعني في منصبه في ضوء الخبرة ولمصلحة الشعب وولاءه للبلاد والعباد وبوصلته الدستور والقانون.. وليس الحزب والطائفة.
وما دمتم يا قوم تقلدون في محاصصتكم محاصصة الشقيقة لبنان التي سبقتكم بعقود فـ هاكم لبنان التي اختارت سلام ولكن بنسخة نواف وليس بنسخة صائب سلام طيب الله ثراه.. أتعلمون الفرق بين سلام بنسخته الجديدة عن سلام بنسخته القديمة..؟ تفضلوا: هو حاصل على الدكتوراه ليس من السوربون فقط بل أخرى من هارفرد أيضاً، ورأس محكمة العدل الدولية في لاهاي، وسبق ذلك سفيراً دائماً لبلاده في الأمم المتحدة ورأس مجلس الأمن الدولي والأهم بل والأهم كثيراً انه من خارج الطبقة التقليدية الحاكمة في لبنان المتهمة بالفساد وبتغليب منطق المحاصصة على بناء الدولة.. والآن هل بات مدلول التكنوقراط واضحاً لديكمُ..؟
***
د. موسى فرج