أقلام حرة

نورا حنفي: هكذا حاربت نفسي!

أنا في حيرة من أمري!.. أتساءل.. كيف أصف ما أصابني وقلمي يشكو من ضياع السطور؟!.. كل ما أستطيع قوله أنني بحاجة إلى البوح بما ينتفض في خاطري.. بأقل مفردات وأبسط طريقة.. أكتب اليوم عن واحدة من أشرس معاركي مع الدنيا، لن أُبالغ إن وصفتها بــ "سرطان النفس" الذي يتطلب علاجًا دقيقًا ومعاملة خاصة من الجميع.

معركة تدفعني إلى الانسحاب التام من عالمي، من كل الملذات والتفاصيل، لكي أقتلني أنا بمنتهى القسوة!

فهل هُناك خيانة أشد من إراقة دمي بيدي؟!

وهل من المنطق أن أشهد على موتي وأنا هُنا بينكم على قيد الحياة؟!

بالكلمة، النظرة، الأسلوب.. أو حتى بالصمت!

كلها أسلحة نفسية تفتح على عقلي أبواب الجحيم وتشعل حرائق في الروح لا تخمدها قصائد الصبر، أنا يا أصدقائي مجرد ضحية من ضحايا الإفراط في الفكر والشعور، وأحمد الله أنكم تعرفون هذياني جيدًا.

أقف أمام تلك اللحظات وأنا مقيدة بالكامل، يذبحني "تأنيب الضمير" بسكين بارد، أو بتعبير أدق "جلد الذات" اللعين، فهو معي أشد فتكًا من هذه الكلمات البسيطة جدًا جدًا جدًا، فـ أنا أتفنن في هلاكي بكل وسائل التعذيب المشروعة وغير المشروعة بلا ذرة رحمة واحدة، والمضحك أنني مصدر هذا العذاب أصلًا، نعم، أنا من يعذبني!

أضربني ضربة الثأر في جروحي الساخنة، ومن ثم أعود بنصف إتزاني لأفعلها مرارًا، والمؤسف أنني لا أنجح في مقاومتي أبدًا!

أصرخ الصرخة فتنشق إلى صرختين، الأولى غضب وعقاب صارم من "نورا" إليها، وفي الثانية استغاثة، أغدو طفلة في عُمر الخامسة تحاول كسب شفقة الأب بدموع براءتها ليتركها وشأنها بلا عقاب.. باختصار، أنا الأب والطفلة في قصتي على الأرض، مهزلة، أليس كذلك؟!

لقد عشت المأساة مرة أخرى، ولكنها كانت الضربة الأقوى منذ زمن.. نوبة نفسية حادة لم أتحرر منها حتى الآن!

كانت مكالمة تليفونية وعتاب من باب الإنسانية بيننا، وكان يحق لي أن أخلع عباءة النعومة وأنسلخ من ملامحي الهادئة وابتسامتي الرقيقة للمرة الأولى أمام أطراف لم تعهدني بتلك الغلظة من قبل..

غضبت، ربما، لا يهم، فلم أكن أنا وقتها!

أتفهم أنه لا مفر من التعبير عن أوجاعي بحكم ضعفي وقلة حيلتي، وإلا فهي تراكمات بمثابة قنبلة موقوتة وحتمًا ستنفجر على أتفه الأسباب فيما بعد إن أهملتها اليوم، ولكن الجُمل حينها لم تتشكل على النحو الصحيح، وأنا لم أضبط انفعالي في وقت حاسم للغاية حتى وإن كانت كلماتي صادقة مئة بالمئة، ولكن الأزمة كلها أنني وبعد أن أنهيت جولة العتاب واللوم، ضاع سلامي وراحة بالي في غمضة عين!

بدأت سهام التساؤلات في استهدافي..

هل قالت "نورا" تلك الكلمات؟!

كيف استطاعت أن تطعن أحدهم بخنجر الأذية تحت أي ظرف؟!

لمَ ذلك التحول المفاجئ الذي أفزع كل شعوب الأرض؟!

استفهامات ومشاعر مختلطة.. وأنا الجاني والمجني عليه في ساعة الحساب!

بعد أن كنت صاحبة حق وأتحكم في زمام الأمور، صرت في خفة الريشة، ضعيفة أمامي، لا حق لي ولا أجرؤ على النظر في وجهي المشوه بالأفكار المبعثرة.

طار النوم من عيني!

في البداية كنت حزينة على واقعي الاسود وصفعة الخذلان، ثم تبخر أثر الانفعال رويدًا رويدًا، فأصبحت حزينة من نفسي وعليها..

كرهتها وبشدة، حتى داهمني الاستفهام الأشد ضراوة مما سبق: هل أنا بتلك البشاعة أم أنها طبيعة الإنسان حين يتألم؟

كنت أُخفف عني الألم الذي سيطر على روحي بمرور الوقت.. أُشاهد فيلمي المفضل، أشتري حلويات لذيذة تداعب معدتي الملتهبة، أهرب من غرفتي التي شهدت على محاكمتي لذاتي في الليل والنهار، أهرب وأهرب من الصدمة، ليست صدمتي في شيء أو مخلوق، وإنما صدمتي في نفسي!

كان الهروب طريقتي المعتادة لأتجنب انعزالي بي، ولكنها فشلت في النهاية وانعزلت مع نفسي مرة أخرى.

لم أستطع تقبل الوضع واحتماله أكثر، كنت أحارب كل ما أوقعني في فخ الندم، أحبالي الصوتية ويدي وهاتفي وحتى الكرسي الذي انغمست به أثناء مكالمة الموت تلك، كنت ألومه على ثباته وهو يُراقبني بنسختي الغليظة ثقيلة الدم، لقد وصل بي الأمر أني عاتبته أنه جماد ولم يتدخل لحل الأزمة أو حتى لمنعي من التهور والاتصال بالرقم، كنت أجلده كذلك!

كيف تراني بتلك القسوة دون أن تصفعني أو تبتلعني حتى؟!

لمَ تركتني أظهر بوجه أبغضه؟!

أين دورك يا خشب بلا فائدة؟!

أخبرني عن حقيقتي.. أنا شريرة؟!

ضحكتم الآن، أعرف، حتى الكرسي لم يسلم من هذياني!

استمر الوضع لأسابيع، حتى وقعت أمام تحديات أخرى لا تقل قسوة أبدًا، وهي مُجاراة تيار الحياة، بينما أنا خارج نطاق الخدمة!

هاتفي يرن، رسائل على كل وسائل التواصل الاجتماعي، كل البشر تطلب سماع صوتي وقراءة كلماتي الطازجة وأنا فاقدة للنطق وعاجزة عن الحركة.. أتحلل بالحسرة فحسب.

ومن هُنا عُدت من جديد لأرض المعركة متسائلة:

يا أنا..

ما ذنبهم في أوجاعك؟

وكيف تسمحين لنفسك أن تُغرقهم في اكتئابك وشرودك؟

يا الله .. انقذني من نفسي وانقذ نفسي من جنوني..

أنا مدركة تمامًا بأنه من طبيعة الإنسان التعبير عما يشتعل في صدره دون الخوف من لومة لائم، ولكن التعبير في حالتي يُحولني إلى فريسة بين أنياب الذئاب، أقصد أنياب أفكاري.

رعب!

إن خوفي على مشاعر الآخرين هو الرعب الذي يُطاردني يوميًا وربما أكثر من خوفي على مشاعري، لقد خُلقت بهشاشة نفسية أو كما يقولون "قلب أبيض" تجعلني أعلنها وبكل صراحة.. أنا مريضة بالإحساس!

ولن تفرق المسميات كثيرًا.. المهم أن العلة حاضرة في روحي.

آمل ألا يأخذني إنسان على محمل الجد.. فـ أنا لسان يغضب، وقد ينطق بما لا يتفق مع أبجديته، وفي المقابل قلبي يتمزق ندمًا ويدفع الثمن من استقرار نبضه وحده، وإن كنت مظلومة وأحاول الدفاع عن حقي فقط!

هدأت العاصفة أخيرًا بما يسمح لي بالتعايش مع أقل مظاهر الحياة، كانت كل أهدافي أن أتراجع عن قرار الامتناع عن الطعام والشراب والكلام، لقد كانت أزمة فقدان للشهية لا يُستهان بها، و.... مهلًا، لنضع حدًا لهذا المقال الآن، لا أحب أن يحزن أحدكم بالحديث عن أوجاعي الشخصية، سامحوني..

يبدو أنني أطلب السماح في هذه الأثناء دون مبرر أيضًا، كالعادة..

نوبة "جلد ذات" جديدة!

أرأيتم حجم معاناتي؟!

***

بقلم: نورا حنفي

في المثقف اليوم