أقلام حرة

حميد علي القحطاني: لا تموت الكلمة إن نطقت بالحق

ليست الكلماتُ التي تُقالُ في حضرة الخوف سواءً، فبعضها يموتُ حال خروجه، وبعضها - حين يُقال في وجه الطغيان - يُصبحُ حياةً أبدية. التاريخ ليس حكايةً تُروى، ولا سِفرًا يُطوى، بل هو الوجدان الجمعي الذي يسكنُ ذاكرةَ الشعوب، يشتعل في ضمائرهم، ويتوهّج في مسيرتهم الطويلة صوب النور. هو مرآة الوجود، نرى فيها انعكاسَ صراعٍ أبدي بين النور والظلمة، بين العدل والظلم، بين الحرية التي ترفرف بجناحي الكرامة، والطغيان الذي يحاول قصّهما. في كل سطرٍ من أسطره، يرتسم وجدان الإنسان في سعيه لفهم ذاته وتحرير روحه. كما قال هيجل، "تاريخ العالم ليس سوى تقدم وعي الحرية"، فهو ليس سرداً للأحداث، بل نهوضٌ دائم من رماد الضعف إلى شعلة الإدراك.

وحين تشتدّ العواصف، ويتسلّط الجبابرة، لا يعود التاريخ مجرد قاضٍ بل يصبح ساحةً للمواجهة. فكم من طاغيةٍ امتطى صهوة القوة، ظنًا منه أنه قادرٌ على ليّ عنق الحقيقة، غير مدرك أن الحقّ، وإن كبا، لا يُكسر. تلك القوى الطاغية التي عبرت الوجود، كانت تمضي عمياء لا تبصر غير أطماعها، لا تكترث للعدل، لا تنحني للقيم، تسعى لفرض سطوتها ولو على أنقاض الأرواح. الطغيان، بطبيعته، لا يعرف سوى مسارين: سحق الأحرار أو استعبادهم، لكنه في كل مرةٍ يخطو، يكتب عن غير قصدٍ بداية نهايته.

ورغم ما يُبنى من تماثيلٍ من صخرٍ وهياكلَ من رخام، فإن ما يبقى في ذاكرة الأمم أعمق وأعظم: تماثيلٌ من نورٍ شُيّدت في العقول، منبطحةً في القلوب، تروي سِيَر أولئك الذين وقفوا وحدهم بوجه العواصف، ورفضوا أن يبيعوا إنسانيتهم بثمن السلامة. المسيح لم يخشَ صليب الطغاة، والحسين لم يساوم على عزّته في وجه السيوف. لقد استقى من نور جدّه الرسول الثبات واليقين، إذ صدع بكلمة لا تعرف المساومة: "لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر... ما تركته". وهكذا، حين وقف في كربلاء، لم يكن صوته صدى لحظته، بل نداءَ كلِّ زمان: "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد“.

تلك الكلمة ليست مجرد رفض، بل إعلانُ ولادةٍ جديدةٍ للكرامة. إن الإنسان، كما قال روسو، حين يتنازل عن حريته، يتنازل عن إنسانيته، عن ذاته وواجبه معًا. والحسينُ، إذ رفض التنازل، لم يُنقذ نفسه، بل أنقذ روح الإنسان من خنوعها، ونفخ فيها من عزيمته ما يجعلها عصيّةً على السقوط.

ورغم تعاقب القرون وتعفّن الذاكرة لدى بعضهم، بقي الحسين حقيقًة نابضة، لا يمحوها التراب ولا تُطفئها السنون. فـكربلاء لم تكن نهاية، بل بدءٌ جديد لرحلة الحقّ في وجه الباطل. تماثيله لا تزال تُنصب في الضمائر، تسكن أرواح المظلومين، وتشدُّ على أيادي المقاومين. هنا يُصدَق نيتشه حين تحدّث عن "التاريخ الفعّال" – ذاك الذي لا يُروى ليُنسى، بل يُستحضر ليُغيّر.

أما يزيد، فقد خلّفه الزمنُ في مزبلة النسيان، تحرسه لعنات الأحرار، وتحاكمه أجيالٌ لم تعرفه، لكنها عرفت طغيانه. ظنّ أنه انتصر حين أسكت صوت الحسين، ولم يدرِ أن الصوت الذي يسكن في الضمير، لا يُخرس، وأن الدم حين يُسكب من أجل الحقّ، لا يجفُّ بل يزهرُ في وجدان البشرية قيماً خالدة.

هكذا يبقى التاريخ ضميرًا لا ينام، يحفظ الذاكرة ويغرس فينا المعنى، ويهمس لنا كلما تهددنا الظلم: قفْ، فثمة من قال "لا" قبلك، وبقي خالدًا.

***

حميد علي القحطاني

في المثقف اليوم