أقلام حرة

أكرم عثمان: فن التعامل مع العميل الغاضب: من التحدي إلى التمكين

في بيئة العمل، نلتقي يومياً بأشخاص يختلفون عنا في أنماطهم وسلوكياتهم وتوقعاتهم. منهم من يمر مرور النسيم؛ هادئاً، مبتسماً بشوشاً، وقوراً، سمته ومحياه لطيف ومهذب يشعرك أن الحياة أيسر مما نتخيل، ومنهم من يجلس أمامك وقد تراكمت في صدره هموم وأوجاع لا علاقة لها بك، لكنها تخرج دفعة واحدة في مواجهة قد لا تخلو من توتر وانفعالات غير مبررة. من بين هؤلاء، يظهر "العميل الغاضب" كأحد أبرز التحديات التي تختبر جاهزيتنا الذهنية والنفسية والمهنية مجتمعة. وليس التعامل معه أمراً عابراً، بل هو لحظة حرجة تضعنا على المحك، وتستخرج كل ما في جعبتنا من وعي وإدراك ومهارات وخبرات؛ إما أن ترفعنا وتحكي عنا قصة نجاح وتألق، أو تهزمنا وتكشف ثغراتنا ونقاط ضعفنا.

العميل الغاضب ليس خصماً أو عدواً، بل هو زبون يتردد على منظمتنا، لديه توقعات لم تلب، أو تجربة لم تكن بالمستوى المطلوب، أو حتى تصورات مسبقة لم تصحح. في هذه المساحة من الانفعال والغضب الجامح، تظهر الشخصية المهنية الحقيقية، ويقاس نضج الموظف لا بما يقوله، بل بما يفعله حين يتعرض لضغط مفاجئ أو موقف غير متوقع، وصوت مرتفع، وكلمات حادة، وربما اتهامات بالتقصير أو التأخير في الخدمة. هنا بالضبط يكمن العلم والفن وتجذر الخبرات، ويتجلى الفهم الحقيقي للممارسات وردود الأفعال الإيجابية المطلوبة؛ أن تتحلى بهدوء رصين، وعقلٍ متزن، ونفسٍ تواقة للتقبل والاحتواء مهما بلغت التحديات، وتطرح الحل كمن يمد يده لا ليسكت الآخر، بل ليرفعه ويعلي شأنه.

ليس من السهل أن تواجه من يغضبك وتبقى في هدوئك وسمتك، أن ترى الشرر في العيون فلا يضطرب لك جفن أو طرفة عين، وأن تسمع الكلمات القاسية فلا تهتز في داخلك القيم. أن تبقى ثابتاً راسخاً كثبات الجبال رغم العواصف، تحاور بالعقل، وتؤكد بالاحترام، وتشعر من أمامك أنك هنا لخدمته وراحته وحل مشاكله، لا لتتهمه أو تدينه أو تهاجمه بأسلوبه التي يتصرف به. هذه ليست مجرد مهارة، بل هي سلوك حضاري وإنساني، يعكس مستوى النضج والوعي، وقدرتك على التحلي بالقيم والمبادئ الأصيلة.

في كثير من البيئات الوظيفية، يلاحظ غياب التدريب العملي على مهارات احتواء الغضب وكيفية التعامل معه، ويغيب الذكاء العاطفي كأداة فاعلة في إدارة هذا النوع من المواقف. وقد أظهرت الدراسات الحديثة في مجال خدمة العملاء، ومنها ما نشرته Harvard Business Review، أن العملاء الذين يعاملون باحترام وهدوء في لحظة غضب، هم الأكثر ولاء وامتناناً للمنظمة لاحقاً، وأن الموظف الذي يمتلك قدرة على الإنصات النشط والفعال وتقديم ردود واعية ومدروسة، غالباً ما يحول التوتر إلى فرصة ذهبية لتعزيز الثقة والرضا.

الأمثلة على هذه القدرة التحويلية كثيرة. كم من مرة خرج عميل منفعلاً، ليدخل في لحظات في حوار هادئ، ثم يخرج معتذراً وممتناً للموقف النبيل الذي تحلى به الموظف؟ وكم من قصة بدأت بشكوى حادة وانتهت بتوصية بأن هذه المؤسسة جديرة بالثقة والاحترام؟ كلها كانت بفضل موظف امتلك الحضور واللباقة والاتزان، وتحول من موظف خدمة إلى قائد موقف، وخبير في امتصاص الانفعال، ومثال يحتذى في التهذيب والتعامل الراقي.

إن فن التعامل مع العملاء الغاضبين لا يعتمد على استراتيجيات جاهزة، بل على مزيج من الحكمة والوعي والإدارة الذاتية والذكاء العاطفي، تعاطفاً ودعماً، وقدرة على تكوين علاقات مثمرة رغم الأزمات والمواقف الصعبة. وهذه كلها مهارات يمكن بناؤها بالتدريب والممارسة. وقد أشار دانييل جولمان إلى أن الموظف الناجح في إدارة الانفعالات لا ينجح فقط في المواقف الفردية، بل يصبح قدوة مهنية يحتذى بها في فريق العمل.

الاحتراف الحقيقي لا يظهر في اللحظات السهلة، بل في قلب العاصفة، وفي خضم المواقف الضاغطة وساعات التحدي، حين يكون صوت العميل عالياً، والشكوى شديدة، وتجد نفسك أمام خيارين: إما أن ترد بالغضب فتخسر، أو أن تتحلى بالحكمة فتفوز. الفائز ليس من يسكت الآخر، بل من يهدئ من روعه، ويبدل انفعاله بهدوء واتزان، ويقنعه من خلال الاستماع التقمّصي الفعّال، ويمنحه الفرصة للتعبير عن رأيه بحرية دون مقاطعة أو فرض سلطة. فالاحترام واجب، والكرامة مصونة، والحل موجود.

من هنا، تتضح أهمية التدريب المتخصص الذي لا يقتصر على تقديم المهارات، بل يعزز القيم ويعيد تعريف المهنية والاحتراف بوصفهما سلوكاً إنسانياً راقياً. وهذا ما أؤمن به وأسعى إلى ترسيخه في البرامج التدريبية التي أقدمها، مستنداً إلى خبرة عملية، وإطار نظري حديث، وممارسة ميدانية مباشرة مع مؤسسات متعددة في العالم العربي وخارجه.

التعامل مع العملاء الغاضبين ليس مهمة عابرة، بل امتحان للروح وتجربة حقيقية تكشف معدن الإنسان وقدرته على أن يكون مرآة لأخلاقه وقيم مؤسسته، وسفيرًا لثقافة الاحترام والاحتواء في مواجهة الغضب والانفعال. فعندما نتعامل مع هذه التحديات، لا نحل أزمة آنية فحسب، بل نبني جسوراً من الثقة والاحترام تستمر بيننا وبين عملائنا، ونصنع قصة نجاح تروى بفخر؛ أن كل ما هو صعب يلين أمام الوعي والقيم الراسخة.

في النهاية، لا يُقاس النجاح بما تقدمه من خدمات فقط، بل بكيفية تقديمها، وبالأسلوب الراقي الذي تدار به لحظات التوتر والمواقف الصعبة. ذلك هو الفارق بين موظف يؤدي وظيفة ينتظر نهاية الشهر، وآخر يصنع أثراً وبصمة أخلاقية ومهنية لا تمحى، وتبقى ما بقيت القيم حية في نفوس الناس والمؤسسات.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

16/10/2025

.....................

المراجع:

*   Goleman, D. (2020). Emotional Intelligence. Bantam Books.

*   Harvard Business Review. (2024). Turning Customer Rage into Respect.

*   Forbes Insights. (2023). Customer Loyalty Trends.

*   عثمان، أكرم. برنامج تدريبي في الذكاء العاطفي في منظمات الأعمال. البنك الإسلامي الفلسطيني، رام الله، 2025.

في المثقف اليوم