أقلام حرة
علي الطائي: الفقهاء.. أولُ تاركي العمل بالقرآن

قراءة في موقف الفقهاء من النص المؤسس
القرآن هو النص المؤسس للإسلام، والمرجع الأعلى في العقيدة والتشريع والسلوك، إلا أن تاريخ المسلمين يكشف لنا عن مفارقة مؤلمة؛ فقد تحول القرآن في واقع كثير من المذاهب إلى شعارٍ أكثر من كونه مصدراً حياً للفكر والحياة، وصار يُقرأ للتبرك والتعبد أكثر مما يُقرأ للفهم والتدبر والتوجيه. وهذه الإشكالية ليست عرضاً طارئاً، بل لها جذور فكرية ومذهبية، تمتد عميقاً في بنية الفقه التقليدي، وخاصة في بعض التيارات الشيعية التي أغلقت باب فهم القرآن إلا على الأئمة (المعصومين)، مدعية أن تفسيره لا يبلغه إلا من خُصوا بعلم إلهي مخصوص.
القرآن في منظور الفقهاء: مركزية مغيّبة
في بداية التنزيل، كان الصحابة يرجعون مباشرة إلى القرآن، يتأملونه آيةً آية، ويأخذون منه العقيدة والعبادة والمعاملة، تماماً كما أراد منهم الله والنبي. غير أن هذا النهج تبدد مع الزمن، وحلّ محلهُ اعتمادٌ مطلق على الروايات والآراء الفقهية، وكأن القرآن صار كتاباً غامضاً لا يُفهم إلا عبر وسيط ناطق أو عقل وصيّ.
في الفكر الشيعي الإمامي، تُطرح عقيدة "العصمة" للأئمة الاثني عشر كشرط ضروري لفهم النص القرآني. وبموجب هذه العقيدة، فإن تفسير القرآن لا يجوز إلا لمن كان معصوماً، لأن الآيات (حسب زعمهم) تحوي باطناً لا يبلغه الناس، وظاهراً قد يُضل من ظنه كلَّ الحقيقة. وقد أدى هذا المنهج إلى تجميد النص القرآني عن التداول الفقهي والفكري، فقلّ أن تجد آية تُستنبط منها الأحكام إلا وتُمرر عبر رواية أو تفسير مأثور عن أحد الأئمة، وكأن القرآن عاجز عن البيان بذاته.
بل إن بعض الروايات نسبت إلى الأئمة أنفسهم قولهم: "إن القرآن لا يُفسّر إلا بنا، ومن فسّره برأيه فقد كفر"، وهذا القول (إن صحّ) يحمل خطورة معرفية وأخلاقية كبيرة، لأنه يُقصي الأمة عن مصدر هدايتها، ويجعل فهم القرآن نخبويًا مخصوصًا بأشخاص غير موجودين اليوم.
هل يحتاج القرآن إلى تفسير؟
هنا نصل إلى جوهر السؤال: هل فهم القرآن مستحيل إلا عبر معصوم؟ وهل المقصود من القرآن أن يكون كتاب ألغاز لا يُفهم إلا بإذن خاص؟ أم أنه كتاب هدى، أنزله الله للناس كافة، بلغة واضحة، وبيّن فيه أنه "هدى للناس"، و"تبيانًا لكل شيء"، و"بلسانٍ عربي مبين"؟. الحق أن الأصل في القرآن أنه بيّن، وأن آياته محكمة يسيرة على من أراد الهداية. نعم، توجد آيات متشابهة، لكن الله تعالى قال: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..."، وهذا يدل أن العبرة ليست بغموض النص، بل بمرض القلب. والقرآن نفسه دعا إلى التدبر: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، وهذه الآية لا تترك عذراً لمذهب يحتج بأن التدبر لا يجوز إلا للمعصوم.
العودة إلى القرآن ضرورة لا ترف
الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى عودة صادقة إلى القرآن، لا للتبرك ولا للتجويد وحده، بل للفهم والعمل والبناء. إن الاقتصار على التفسير التراثي، أو إغلاق باب التفسير إلا على من ماتوا، هو من أشد أنواع الصد عن سبيل الله. ولو أن المسلمين قرأوا القرآن بروح حرة، وعقل صادق، وسؤال حيّ، لانفتحت أمامهم آفاق التجديد الديني والفكري.
القرآن ليس ملكاً لفئة، ولا حكراً على مذهب، وليس صندوق أسرار لا يُفتح إلا بمفتاح العصمة. هو كتاب الحياة، ومنهج الهداية، ورسالة إلى كل إنسان. وأي موقف فكري أو مذهبي يضع بين الناس وبينه حجاباً، فهو موقف مضاد للقرآن نفسه، وإن تزيّا بأثواب الورع والعلم.
فليعد المسلمون إلى القرآن، لا وسيلةً، بل غاية. لا مرجعية شكلية، بل مرجعية حقيقية في التفكير، وفي التشريع، وفي الوجدان. عندها فقط، تنهض هذه الأمة من سباتها، وتعود إلى دورها كأمة وسط.
***
د. علي الطائي