أقلام حرة

عبد السلام فاروق: العيش والملح.. وهم الألفة وأسطورة الأصالة

في البدء كان الملح، ثم صار العيش، ثم صار بينهما ذلك الوهم الدافئ الذي نسميه "العلاقة". نعتقد أن سنوات العيش المشترك، وموائد الملح التي تشاركناها، تكفي لصنع أصالة حقيقية بيننا وبين الآخر. ننسى أن الملح قد يذوب في الماء دون أن يترك أثرًا، وأن العيش قد ييبس في الهواء دون أن يحتفظ بطعمه. 

العلاقات لا تقاس بكم السنوات، ولا بعدد اللقاءات، بل بنوعية ما يزرع في الفراغات بين قلبين. كم من شخص عرفناه منذ الطفولة، وها هو يخوننا ببرودة تفوق غدر الغرباء! وكم من غريب مر بنا كنسيم عابر، فترك فينا بصمة إنسانية لا تمحوها السنين. الأصالة ليست نتاجًا تلقائيًا للزمن، بل هي هبة نادرة تمنح لأرواح تعرف كيف تتحدث بلغة الصمت، وتقرأ ما بين السطور. 

العيش والملح مجرد استعارة جميلة، لكنها ليست قانونًا. بعض العلاقات تخبز في فرن الأيام فتصير كالحجر، وبعضها يقدم طازجًا كخبز الصباح، ثم يظل طريًا حتى في عز الشتاء. ليست المشكلة في الوصفة، بل في الأيدي التي تعجنها. هناك قلوب تختمر فيها النذالة كالخميرة، مهما طال وقت العجن، وأخرى تفيض شهامة كالعسل، حتى لو لم تذق منها إلا قطرة واحدة. 

ربما حان الوقت لأن نحرر علاقاتنا من سطوة "المطبخ" التقليدي، حيث كل شيء يقاس بالكم والقدم والمظهر. لنبحث عن تلك اللحظات التي تشبه ضوء الفجر الخافت: لا تحتاج إلى دليل لإثبات جمالها، ولا إلى شهادة زمنية لتأكيد قيمتها. الأصالة لا تورث، ولا تكتسب بالمصادفة، بل تمنح كهدية ثمينة من أولئك الذين يحملون في داخلهم بوصلة إنسانية لا تضل أبدًا. 

في النهاية، العلاقات الحقيقية تشبه النجوم: بعضها ينير سماءك رغم أنه قد يكون قد انطفأ منذ ملايين السنين، وبعضها يسطع أمامك كل يوم، لكنك لا تراه إلا عندما تغمض عينيك وتتذكر أن الجمال الحقيقي لا يرى دائمًا بالعين المجردة. 

لكن ماذا بعد أن ندرك زيف هذه المعادلة؟ ماذا نفعل حين نكتشف أن "العيش والملح" لم يعد ضمانة للوفاء، ولا حتى مؤشرًا على العمق؟ 

الحياة تعلمنا أن بعض الأشخاص يأتون كالمطر – يعبرون سريعًا، لكنهم يروون أرض القلب العطشى. بينما آخرون يشبهون الجدران القديمة: تلمسهم كل يوم، لكنك لا تشعر بهم أبدًا. الفرق ليس في القرب أو البعد، بل في ذلك السر الغامض الذي يجعل روحًا ما تلامس روحًا أخرى دون استئذان. 

نخطئ حين نربط القيمة بالزمن، كأن الوجود الطويل كفيل بصنع معنى. لكن الحقيقة أن بعض اللحظات الخاطفة تضيء أكثر من عقود كاملة. كلمسة يد في لحظة يأس، أو صمت يفهمك دون حروف، أو ابتسامة تأتيك من إنسان لم تنتظره، فتمسح عنك تعب السنين. هذه هي الكيمياء الحقيقية – لا تلك التي تصنعها الموائد المشتركة، بل التي تصنعها اللحظات الصادقة. 

النبلاء والغرباء

أغرب ما في الأمر أنك قد تجد أرق الناس حيث لا تتوقع. قد يمنحك سائح عابر إحساسًا بالأمان لم تجده في أقرب الناس إليك. وقد يقدم لك غريب كلمة صدق تعيد إليك ثقتك بنفسك بعد أن هدمها من كانوا يدعون المعرفة بك. 

لماذا؟ لأن الشهامة لا تقاس بمدى معرفة الآخرين بنا، بل بمدى معرفتهم بأنفسهم. النبيل هو من يرى فيك إنسانًا، حتى لو لم يعرف اسمك. أما الجاهل فينظر إليك كظل عابر، حتى لو شاركك حياته كلها. 

الحرية من وهم "الضرورة"

الأخطر من كل ذلك هو اعتقادنا أن بعض العلاقات "ضرورية" لمجرد أنها قديمة. نبقى فيها كالسجين الذي أُعجِب بزنزانته. ننسى أن الوجود المشترك لا يجب أن يكون سجنًا، ولا أن التقاليد الاجتماعية ينبغي أن تكون قيدًا. 

لكن الحرية الحقيقية ليست في الهروب من العلاقات، بل في اختيارها بعينين مفتوحتين. في أن تعرف متى تمسك بيدٍ، ومتى تترك أخرى. في أن تفهم أن بعض الأشخاص كانوا محطة، وآخرين سيكونون الطريق نفسه.

 العلاقات قصائد لا قوانين

في النهاية، لا توجد وصفة جاهزة للقلوب. كل علاقة قصيدة تكتبها الأيام بأحرف من نور وظلام. بعضها يقرؤها العالم كله، وبعضها لا يفهمها إلا شخصان فقط. لكن الجميل فيها أنها لا تشبه بعضها أبدًا. 

لذلك، توقف عن البحث عن "العيش والملح" في كل مكان. ربما تكون أجمل اللقاءات تلك التي تأتي بلا توقعات، كزهرة تنبت بين الصخور، أو كنجم يظهر فجأة في ليلة مظلمة. فقط افتح قلبك، ودع الحياة تقدم لك دروسها بلغتها الخاصة. فالحب الحقيقي لا يعرف القوانين، والأصيلة لا تحتاج إلى شهادات.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم