أقلام حرة

نهاد الحديثي: والسياسيــون ايضا يتبعهـم الغاوون

والشعراء يتبعهم الغاوون، هذه كانت بداية الآيات الأخيرة من سورة “الشعراء”، والتي سميت بها، وهي آيات حافلة بالمعاني، تتحدث عن طبقة وصنف من الناس تمكنوا من أدوات الكلام العربي واستعملوه في خطابات مختلفة الأشكال والأنواع، عرف الشعراء بقدرات كبيرة على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، والوعد بما لا يمكن الوفاء به، وإيهام استحالة ما يمكن الوفاء به، مستعملين أدوات بلاغية دقيقة تستطيع الوصول بمحمولات الخطاب الخبيث إلى أعماق الوعي دون استئذان للجهة المخاطَبة، وهي نفسها أدوات الخطاب السياسي.

والحقيقة أن المقصود بالشعراء في هذه الآيات الكريمة شعراء الكفار الذين كانوا بمثابة قنوات فضائية توجه سهامها للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم عبدالله بن الزبعري، وضرار بن الخطاب الفهري، وأبو عزة الجمحي وغيرهم. وقد أشار إلى هذا الزمخِشري في (الكشاف)، والنيسابوري في (تفسير غرائب القرآن)، فالحق يقول في هذه الآيات: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)، مما يدل على أنها لا تشمل الشعراء المسلمين وهم المؤمنون العاملون للصالحات

وكان الخطاب السياسي أحد المضامين الشعرية الثقيلة عند شيوخ القبائل ورؤساء المعادن، ووقفة مع هذه الآيات تكشف بدقة عالية خصائص هذا النوع من الخطاب وحقيقته ومقاصده وجهاته المستهدفة،، وكان “السوفسطائيون” طبقة مثقفة يونانية اشتهرت بالقدرة على الإيهام والتشكيك والتلاعب بالمفاهيم والحقائق، وبغض النظر عن محلهم في الفكر العقلي الإغريقي فقد كان هؤلاء أساتذة بامتياز لمجموعات لها سلطات على العقل الاجتماعي والفكري، فيعلم الباحثون أن تلامذة هؤلاء كانوا غالبا محاميين وسياسيين، وكانت حججهم الخطابية والشعرية أكثر أنواع الخطابات المستعملة. شعراء البارحة -سياسيو اليوم- من البلاغة إلى شروط نجاح الخطبة السياسية مرورا بأسئلة مثل: …لماذا يكذب القادة السياسيون؟ وكيف يكذبون؟ وهما سؤالان يحيلان على عمق نظام الخطاب السياسي، فتحت الموضوع عجائب وغرائب.

لماذا يكذب القادة؟ عنوان كتاب ألفه جون جي ميرشيمر، يحكي فيه صاحبه حقيقة الكذب في السياسة الدولية، هم السياسيون أتباع “أفلاطون” صاحب نظرية “الأكاذيب السياسية النبيلة”! والتي نسج على طريقتها إسحاق شامير بقوله: “يجوز الكذب من أجل أرض إسرائيل”،،، هكذا هم الشعراء،، هكذا هم السياسيون، يتبعهم الغاوون والمغفلون، تراهم في كل واد يهيمون، وبالمخاطبين يتلاعبون، يقولون ما لا يفعلون، ولا يوازيهم إلا سحرة فراعنة عصر التنوير والتزوير، من مهرجي ومشعوذي الإعلام المكتوب والمرئي، فلا يقبل “الصباح” وإلا وكذبة أو أكثر.. ويتبعه “المساء” بمثله فيما يشبه “أذكار “الصباح” و”المساء” عند المؤمنين،، الكذب هو أداة من أدوات فن الحكم وحاول تحديد أصناف الكذب والأسباب التي تقود صانع القرار أو القائد للكذب والتكاليف والفوائد المحتملة.،، والكذب عادة موجه للداخل أي للمواطنين أكثر منه للخارج، فالقادة لا يلجأون للكذب على بعضهم البعض لعدة أسباب أهمها أمنية وللحفاظ على الثقة المتبادلة، ولكن القائد -حسب المؤلِف- يمكنه أن يكذب على شعبه وفي الأغلب هذه الكذبات أو التصريحات المغلوطة تصب في مصلحة الدولة حسب وجهة نظر القادة.

يقول بعض الفقهاء أن الإعلام والإعلاميين- في هذا الزمن- هم داخلون في قول الله عزوجل {والشعراء يتبعهم الغاوون} لان بعضهم يبطلو الحق ويحقو الباطل،، يرفعوا أقواما ويحطوا من قدر الآخرين،، فهم كالشعراء، أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه .وقال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وأنهم يقولون مالا يفعلون} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه . وهذا حال بعض الإعلاميين اليوم، فهم يشبهون تماما أولئك الشعراء.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم