أقلام حرة

علي الجنابي: عَنِ د. مُصطَفَى مَحمُود

  وكنتُ قد قرأتُ في سالفٍ من زمن غالب مؤلفاته رحمه الله تعالى، وتابعتُ حلقات برنامجه التلفازي الشهير "العلم والإيمان" كافة، وإذ كنتُ يومئذٍ نَهلاً من شروحاتهِ اللطيفة، وذَهلاً منبهراً بتأوّهاته الرهيفة. بيد أنيَ اليوم، وبينما قطفاً أتصفحُ له سطوراً من مؤلفاته، أو خطفاً أتابع مقتطفاتٍ من برنامجه، وبينما شيبتي باتت في موقد الرأس تَشتعلُ، إذ أشعرُ أن خواطره تلك لا تتوائم إلّا مع فئة من الناس شيباً وشباناً من الذين لا يمسون كتاباً يُعينهم على امتلاكِ ما في الفلاة من نياسم، وإدراكِ مافي الحياة من طلاسم. وأرانيَ أقول ذلك كي أتشجَّعَ ولا أتسجَّعَ في تبيانِ كبوةٍ فادحةٍ في ذي عبارة؛ (إذا رأيت الناس تخشى العيب أكثر من الحرام، وتحترم الأصول قبل العقول، وتقدس رجال الدين أكثر من الدين نفسه...فأهلا بك في الدول العربية). ولعمري إنها لهفوةٍ من د. مصطفى كانت قادحة، وبها تجنّ قاسٍ على أمتنا العربية وغير مبرر، وما كان ينبغي له رحمه الله أن يُفصحَ عن ذا تصريح،

ذلك..

أن أمم الأرض كلها أجمعين اليومَ هي أمم حمَّالة لما إنتقدَ من صفات، ولولا فضل الله ﷻ ورحمته المهداة ﷻ لما آمن بشراً، ولمَا اهتدى الى سواء الصراط والى ارتواء الفضائل، بل لكان د. مصطفى نفسهُ اليوم أولَ الناس نراهُ مضطجعاً ومربوطاً بعقدةٍ من حبلٍ أو خرقةٍ من قماش مع إبهامِ القدمِ لهبل العظيم أو للات أو للعزى ينتظر منه الشفاء من داء الشقيقة أو من داءٍ غيره.

  ثم إن د. مصطفى ورُغم انه عاش في زمان العلوم واستنارته بما تعلَّمَ من قراطيس علميةٍ أو فلسفيةٍ، لكنه ومع كل علومه المختزنة في دماغه لا يعدلُ مثقال ذرة من حكمة (عبد المطلب بن هاشم)، ولا يرتقي الى فهم (أبي الحكم بن هشام)، ولا الى إدراك (الوليد بن المغيرة)، فلقد كان كل رجل منهم جبلاً من الحكمة سيَّارةً في كل فضاء، ونَبلاً من الفصاحة طيَّارةً تحت كل سماء.

  أفلم يرَ د. مصطفى رحمه الله ﷻ أن امتنا اليوم تخشى العيب قبل الحرام لأنه (حرام)، ولو لم يك حراما لما خشيته. ثم انها تحترم الأصول قبل العقول لأنها أصول (سماوية) وما هي بأصولٍ أرضية ولو كانت ارضية لتمردت عليها. ثم إنها تقدس رجل الدين أكثر من الدين ذاته، ليس عن سذاجةٍ منها بل لأنها أمة راقية صادقة النوايا، ولا يمكن أن تظن برجل الدين على أنه مخادع كاذب دجال، والمسلم الموحد فيها والذي لا يدعو مع الله ﷻ أحداً تراه لا يُخدَعُ من أمرٍ مرتين. وإنما كلُّ امرئ ينظر على الناس من خلال نقاء وصفاء دواخله، وهذا ما فعله الحسين رضي الله عنه معنا نحن أهل العراق رُغم التحذيرات من عدم الرحيل شطر ديارنا لأنه كان ينظرُ الينا من خلال نقاء سريرته هو لا من خلال غدرنا نحن، فما كان يتخيلُ قط أننا سوف نخذله أو به نغدرُ، ورضي الله تعالى عن عبدالله بن عمر بن الخطاب إذ كان يقول: "من خدعنا بالله انخدعنا له".

  ثم إن قيمة أيةِ أمة هي من قيمة ووزن الكتاب المنزل عليها من ربِّ السماء ﷻ. ثم إن أمة العرب هي أمة وقّافةٌ على الحق المبين وليس كما تهجَّمَ عليها بذا وصفٍ غريبٍ معيب.

  ثم كيف لم يتذكرْ د. مصطفى عباقرة الغرب من علماء فيزياء ومن أطباء، وهم يهرعون -رغم عبقريتهم- في يوم الأحد الى الكنائس كي يلتمسوا من (ابن الله) الطمأنينة والخلاص؟ وكيف لم يتفكر في عباقرة اليابان من علماء النانو وكيف يهرعون اليوم -رغم عبقريتهم- الى المعابد كي يلتمسوا من (بوذا) البركات والسعادة، بل وكيف لم يتدبر عدد الملحدين في الأمم الأخرى؟ ولو أنه تدبرَ لما تجبَّرَ، ولعلمَ أنهم يشكلون الأكثرية في تعداد أممهم.

  إن التهجم أو الإنتقاص من أمة العرب (سواء في مراحل ما قبل الإسلام أو مابعده) لهو جريمة كبرى لا تُغتفر، ولا ينتقص منها إلّا من كانَ في نظرهِ قُصر، وفي بصرهِ فُقر، وتراه يَستَعجِلُ التصريحَ بما فَهِمَ ظنَّاً منه أنهُ به قد عَلِمَ، بل وظنَّ أنه أضحى عليماً بما في الزبر.

  ثم إننا كلنا أجمعين مهووسون بشتم أمتنا في صبح وفي مساء وما أبرئ نفسي، وترانا ننسى انه من غير اللائق أن يقول ربُّ الدار لضيوفه؛ (ان كنتم تحبون اللغو والصخب فأهلاً بكم في منزلي بين أسرتي)، وكان من الواجب عليه ان يُهذبَ افراد اسرته على فضيلة الهدوء بذكاء، وأن يُشذبَ منهم رذيلة اللغو بعواء، وربما جاز له أن يقول لهم سراً بينهم ساخراً من لغوهم هذي العبارة بغية استنهاض فضيلة الهدوء في نفوس افراد أسرته داخل الدار. لذلك ما وبَّخَ نبينا رسول الله ﷺ امته قطُّ حتى ولو تلميحاً، بل ما وبَّخَ خادماً أو مولىً عنده لأنه ﷺ يعلم ان الناسَ، كلَّ الناسِ ما هم إلّا قطعان تحتاج الراعيَ الهاديَ المرشد وليس الى اللائم الغائم، ولسانُهُ عن لين القول نائم.

إن ربَّ أمة العرب الحكيم ﷻ الخلّاق لها والعليم بها قد وصفها بأسمى وصف (سواء قبل الإسلام أو بعده)، فقالَ عنها سبحانه وتعالى:

(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

قال ﷻ : (أُخْرِجَتْ)

ولم يقل ﷻ : (خَرَجَتْ)، فتأمَّل، تأمَّلْ يا رعاك الله الفرق بين الفعلين، ففي الفرق سر الأمر كله، وسر التشريفِ كله.

(أُخْرِجَتْ)؛ أي أخرجها الله جل في علاه بيديه وليس خروجاً كما (خَرِجَتِ) الأممُ الأخرى، فتَجَمَّلْ بكمال ذا الوصف وتَكَمَّلْ بعظمته.

ورحم الرحمن ﷻ أستاذنا د. مصطفى محمود بوافر من رحماته، وأشهدُ أنه كان إنساناً نبيلاً ومفكراً جليلا.

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم