أقلام حرة
علي علي: النهوض رغم السقوطات
مذ خطا الإنسان أولى خطواته في التحضر على وجه المعمورة، أضحت مفردة التغيير ضرورة لامناص منها في يومياته، فحينها لم يكن له من معالم الحضارة مَعْلم، الأمر الذي حدا به أن يستحدث وسائل وآليات وسبل عيش، تعينه على العيش والتأقلم مع متطلبات الحياة، ولما كان العقل ميزة ميزه خالقه بها، فقد وظفه لخدمة طموحاته وتلبية حوائجه. وحتى اللحظة لم يبرح التغيير ملازمته في حله وترحاله، حاضرته وباديته، وها نحن نشهد كل يوم تغييرا في نواح عديدة من حياتنا، على يد متخصصين وعلماء وخبراء، لم تعد تخلو منهم ساحة من ساحات الأمم ولاسيما المتقدمة منها، فباتت مفردة التغيير من أكثر المفردات التي تتناقلها الأفكار، وتتلقاها الأسماع، وتتداولها الألسن، فالكل ينشد التغيير، والكل يرحب به ويسعى الى إدخاله في حساباته.
في وادي الرافدين، هناك مفردة أخرى مرت عليه في حقب عديدة من تاريخه، تلك هي مفردة السقوط، والسقوط فيه طال سلاطين وولاة وحكومات، وكذلك أعراق وقبائل وشخصيات كانت تقطن ربوعه، وما يؤسف له أن مع سقوط هؤلاء تسقط متعلقات أمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية عديدة، يقع وابلها ويتطاير شررها على أم رأس شعوب المنطقة، ومن كثرة السقوطات عبر التاريخ، صار التوجس والريبة في أمنهم واستقرارهم يساور نفوسهم، ومادام السقوط ليس جديدا في هذه الرقعة الجغرافية، فعلينا أن نتوقع حدوثه في أي حين وأية مرحلة نعيشها، وهو حدث يشمل التغيير ويتضمنه بأشكاله ووجوهه كلها حتما.
ويجرنا الحديث عن وادي الرافدين حتما إلى بغداد، فقد سبق أن كبلتها مفردة السقوط أكثر من مرة على مر تاريخها، والتاريخ يحدثنا بكل صراحة وشفافية عن هذا، إذ هناك ما يزيد على 20 واقعة سقطت فيها بغداد بيد حكم أجنبي، منذ إعادة تشييدها عام 762 للميلاد، في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. ومن أبرز تلك الأحداث سقوطها يوم الأحد الموافق 10 شباط عام 1258م على يد هولاكو بن تولوي بن جنكيزخان، وتُنسب إلى الوزير آنذاك ابن العُلقُمي قصيدة، قالها متألما على أحوال بغداد والخلافة:
كيف يُرجى الصلاحُ من أمرِ قومٍ
ضيعوا الحزم فيه أي ضياع
فمُطاع المقالِ غيرُ سديدٍ
وسديدُ المقال غيرُ مُطاع
بعدها سقطت بغداد على يد تيمورلنك عام 1393م. وفي عام 1411م سقطت بغداد مرة أخرى بيد شاه محمد بن قرة يوسف، حاكم دولة "القرة قوينلو" التركمانية. ويتوالى سقوط بغداد، ففي عام 1466 تمكن جهان شاه من دخولها. وفي عام 1508هاجم الشاه إسماعيل ملك فارس بغداد. بعدها دخلها السلطان العثماني سليمان القانوني وكان ذلك في عام 1534م، وبقيت المدينة تحت حكم العثمانيين نحو 90 عاما. وفي سنة 1623م سقطت بغداد مرة أخرى على يد الشاه عباس الأول. وفي عام 1638م استعاد السلطان العثماني مراد خان الرابع المدينة، التي بقيت تحت الحكم العثماني حتى عام 1917م، حيث سقطت بيد البريطانيين إبان الحرب العالمية الأولى، ووُضعت في سنة 1920 تحت الانتداب البريطاني، وفي العام نفسه حدثت ثورة شعبية قامت على إثرها حكومة وطنية، وفي عام 1932 تخلص العراق من الانتداب البريطاني وانضم إلى عصبة الأمم. أما سقوطها الأخير فقد كان بالأمس القريب في التاسع من نيسان عام 2003، وفي الحقيقة أن بغداد لم تسقط بل سقط حاكمها وحزبه وأزلامة، وهذه المرة على يد القوات الأمريكية، وتسلمها حكام عراقيون فعادت إلى أحضان أهلها.
على هذا المنوال، مرت القرون على وادي الرافدين، إذ بين سقوط وسقوط هناك سقوط، وهاهي البلاد تنهض بتَرِكتها نافضة غبار السقوطات رغم جراحاتها، وقد حق فيها تغزل الشعراء والرواة والمؤرخين، فمما أنشده نزار قباني فيها:
بغدادُ عشتُ الحُسنَ في ألوانه
لكنّ حُسنَكِ لم يكنْ بحسابي
ماذا سأكتبُ عنكِ يا فيروزَتي
فهواكِ لا يكفيه ألفُ كتابِ
***
علي علي