أقلام حرة
موسى فرج: جحود الأبناء وعبودية الآباء...
كتب صديقي الشاعر والأديب المرموق الذي ارتحلت زوجته الى الرفيق الأعلى منذ سنوات بعد حياة مشتركة امتدت لأربعين عاماً، ومن ثم تفرق ابناؤه عنه كل يسعى لتحقيق "حلمه" فبقي وحيداً في داره يكابد وحشة الوحدة وقسوة التقدم في العمر نصاً مؤثراً بل موجعاً أقتطع مقاطع منه:
[- أتساءل بحسرة شديدة وتكاد الجهشة تتراءى على وجهي كلما تذكرت حياتي الاولى مع جلجلة الأولاد ودوران امرأتي في البيت وحركاتها الضاجة ؛ اين ولّى ذلك الضجيج الطفولي وهرَج الفتيان وصخبهم الصباحي خاصةً ؛ وكلٌ يبحث عن ضالّته فذاك يفتقد حقيبته والآخر يبحث عن حذائه تحت السرير ويجده اخيرا تحت الدرج.
- هنا أدعو الذاكرة ان تستعيد نشاطي الاول حينما انهض باكراً وأجمع أولادي ليشاركوني إعداد طعام الإفطار قبيل الذهاب الى مدارسهم وقد كنت اعتمد على أربع خطوات لا بد من انجازها في تهيئة مائدة الفطور.
- كنت انتقي ما عندي من فواكه لتكون مادة اساسية واختار من ألوانها وأشكالها بما يشابه شكل الحلوى طعاما مستساغا للطفل لتفتح شهيته معاندا مطالب سيدتي في ترك الاولاد وشأنهم ليأكلوا ما يشاؤون للحاق بمدارسهم.
- لم أكن أعطيهم الحليب وأجهد في منعهم من شربه الاّ بعد ان يتناولوا طبق الفاكهة وشيئا من الخضار الموضوعة في الصحن، لئلا تمتلئ بطونهم ويعزفوا عن تناول الفواكه والخضر.
- ولا انسى حزمي الشديد يوم كنت امنع اطفالي من اخذ الصحون جانباً ليأكلوا امام شاشة التلفزيون اثناء العشاء او الغداء فقد توجست خيفة ان الطفل يأخذ منحيين عند الاكل حينما يرى فيلما من افلام الكارتون مثلا ؛ فأما ان تقلّ شهيته وهو منشغل بمتابعة الشاشة بحيث ينسى الأكل ويتفاعل مع الفيلم وما يراه على الشاشة او يزداد نهمه مع متابعة ما يرى مما قد تسبب له السمنة المفرطة مستقبلا.
ينتقل صديقي الأديب من الأمس السعيد المتسم بالبذل الى الراهن المؤسف الذي يصطبغ بالجحود فيقول:
- امام هذا السكون الذي اعيشه الان بين قراءة الكتاب مع ما تتخلله من اتعاب بسبب العيون الواهنة، ألجأ بين الفينة والاخرى الى مشاهدة بعض الافلام المنتقاة والتجوال في غاليريهات اللوحات الفنية مما يقدمه الانترنيت لنا والاستماع الى ما يقوله المفكرون في محاضراتهم ومن ثم التجوال السريع بين الصحف والمجلات والمواقع الاخبارية للاطلاع على ما يدور في هذا العالم من عجائب وغرائب ومن سكينة ومن صخب اختلي بنفسي في ساعات الليل المتأخرة لأكتب ما يجول في نفسي دون ان يقحم خلوتي احد افراد اسرتي لأقوم بطرده خارجا حتى أكمل ما بيدي كما كان يحصل في السابق حين كان البيت مليئاً بالحركة.] انتهى نص صديقي...
وعندما تابعت ما كتبه بعض من أصدقائه يواسونه قرأت بعض مما كتبوا وكان:
- اللهم الصبر الجميل...
- واصبر فالصبر بلسم...والزمن يداوي الجراح.
- قرأت في وجعك وجعي يا أبا...
-اثرت المواجع...
- هذه المعاني الموجعة يمر بها الجميع...
- وكأنك تكتب عنا جميعا...
[انتهت مداخلات أصدقاء صديقي].
قضية صديقي الأديب ليست قضية عامة يمر بها كل أب لكنها ايضاً ليست حالة منقطعة مرَّ أو يمرّ بها هو وحده، لكنها اتسعت في السنوات العشر الأخيرة في العراق وربما في دول أخرى... وهي ليست قضية خلاف يحصل بين أفراد العائلة في مقتبل تكوينها فيركن للصبر باعتباره بلسماً انما قضية رجل يعيش أو كما هو يعتقد في الربع الأخير من حياته وهو – وهذا مهم جداً- يشعر بان حاجته للرعاية مثل حاجة أبنائه يوم كانوا أطفالاً وربما أكثر مع فارق انهم في ذلك العمر لا يجيدون غير البكاء والصراخ للتعبير عما يختلج في نفوسهم أو وما ينقصهم من حاجات في حين انه وبمثل عمره كل حواسه شغالة ليعبر بها عما يعتمل في نفسه من احساس بالظلم إزاء التقصير غير المبرر في معاملته من قبل الأبناء وبشكل مضاعف، في الحالين معاً:
- عندما يسارع الأبناء للهجرة دونما مبرر مقنع وعندما أشير الى الهجرة المبررة وغير المبررة فإني أأخذ في الحسبان إننا في العراق وقبل عام 2003 تحديداً كنا وبسبب حروب نظام صدام المستمرة والتي تجعل من الأبناء مشاريع دائمة للموت الى جانب القهر والملاحقة الدائمة والمستمرة من قبل أجهزة نظام الاستبداد ندفع أبناءنا للهجرة بغية الخلاص والسلامة الجسدية لهم على الأقل دون أن نبالي بما نتحمله من معاناة نفسية جراء ذلك...وفوق هذا فإن عوامل الجذب في غير حالات الاضطرار كانت قائمة وعلى أشدها في بلاد الهجرة وهذا غير متوفر اليوم...
- أما الحالة الثانية فهي عندما يرى الأبناء أن لهم حقوق على الآباء ولكن مع تحللهم من أي مسؤوليات أو واجبات تجاههم وقد تستمر نظرتهم الى تلك الحقوق المترتبة على الآباء لزمن غير محدود وربما تمتد من المهد الى اللحد فيستمر الابن في سلوكه الطفيلي على الأب رغم اشتداد عوده وتقدمه في السن وكأن الأب خلق لهذا ولهذا فقط.
حالة أخرى عرفتها عن كثب من المناسب المرور عليها: صديق مرموق آخر يحمل أعلى درجة علمية في مجال اختصاصه،أجبرته ظروف سياسية ليتغرب عن أهله وأبناء مدينته حتى بلغ السبعين قام خلالها بواجباته كأب على أفضل ما يكون وتخرج أبناؤه الأربعة ثلاثة منهم أطباء والرابع مهندس وأغلبهم يحمل مؤهلًا عاليًا في حقل اختصاصه، سقط نظام الاستبداد فسنحت له الفرصة لأن يعود الى مدينته ولكن هذه المرة ليرأس أعلى مؤسسة علمية فيها "رئاسة الجامعة الحكومية"، فشعر إن حلمه آن له أن يتحقق لخدمة مجتمعه والتعبير عن ذاته في آن معاً، ليقول لمن يعرف قدره أو يبخسه: ها أنا ذا...وطبعاً صاحبي اعقل من أن يطلب من ابنائه أو أي منهم مصاحبته لمدينته العتيدة لما يعرفه من التزامات كل منهم الوظيفية أو المهنية ولكن لو كنت أحد أبنائه لقلت له : أبه يا أبه...والله أني مقدر وقع أبي تمّام على نفسك وهو يقول:
كم منزل في الأرضِ يألفه الفتى... وحنينهُ أبداً لأوّلِ منزلِ
وإقراراً مني بواجب البر لك وعرفاناً بفضلك فإن عقلي يسبق لساني لأن أقول لك ما قاله سعد بن عباده: "لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا واحد "لكنك يا ابتي تعرف الوظيفة والتزاماتها وتعرف المهنة وغطاها ولك منا أن ننظم نحن الأربعة جدولًا دوريًا شهريًا بمقتضاه يزورك في مدينتك العتيدة أحدنا، وربما يتم "التسخيت" لاحقاً ليقتصر الأمر على الأعياد السنوية "الفطر والأضحى ورأس السنة وعيد الأب" أما أن أجد صاحبي عشية العيد يهيئ حقيبته ليسافر ليُعيد على أبنائه بيوم العيد واسأله: هل يزورونك في العيد...؟ فكان جوابه موجع بل صاعق عندما قال: احتفلت قبل أقل من سنة بعيد ميلادي الثالث والتسعين وحدي ومضى على وجودي في مدينتي العتيدة 20 سنه ولم يزرني أحد منهم...! قلت هذه عبودية الآباء مقابل جحود الأبناء، وأنا شخصياً اتعامل مع الأمر على صورة أخرى هل تحب أن تسمعها...؟ قال تفضل...؟ قلت:
في تركيا وعدد من الدول العربية طبعاً وأوربا لا ينادون الرجل بـ أبو فلان بل باسمه الأول مصحوبة بـ سيد أو أخ وفي الغرب باسمه الثاني يعني اسم العائلة أو الجد إلا في العراق فإنهم ينادونه بـ أبو فلان أو فلانه واذا ما عنده ابن يسمونه أبو غايب حتى لو كان فلان أو غايب "مطلع روح أبوه من خشمه".. والمشكله اذا ينادونه باسمه أو على الطريقة الغربية باسمه الثاني أو اسم جده يأخذ على خاطره.
ومن قراءتي لنص صديقي المؤثر حقاً بل الموجع وتضامن عدد من أصدقائه مما يؤشر أنهم يشتركون معه بالمعاناة نفسها من جفوة الأبناء واحيانا عقوقهم تولّدت لدي قناعة قد أطبقها شخصياً وانصح بها تقوم على خطوتين:
الأولى: مع الحبل السري للولد أرفق قصاصة مكتوب عليها: أي بني...اتعهد بأن أتولاك بالرعاية حتى يشتد عودك وأن أحبك بقية حياتك ولكن اعلم اني مثلما عظمك رخوا ويتعين عليّ رعايتك حتى يشتد فإنه بالتزامن مع اشتداد عودك فإن عظمي يبدأ بالوهن واحتاج للرعاية مثلك تماما يوم كان عظمك رخواً ويتعين عليك القيام لي بمثل ما قمت به لك طبقاً للقواعد النافذة قانونية أو دينية أو أخلاقية وإلا سأفسخ عقد الرابطة بيننا وليسموك باسمك أو ابن غايب...
الثانية: سأفكر جدياً باقتناء روبوت صيني أو كوري يعوضني عنك عندما تخونني رهافة عظم ترقوتي في التمكن من ادخال قنينة الغاز أو عبوة ماء الأورو ولن يعنيني وجودك من عدمه فأنا لا انحني ولا أتوجع ولن استجدي العطف من احد ولو كان اسمه فلان أو كان أسمه غايب وسأتخذ من الروبوت ابنا ووليا ولتذهب أنت وجحودك الى المستنقع...
بالمناسبه: الممثل الأمريكي كلينت استوود، البالغ من العمر 95 سنة، والحاصل على أربع جوائز أوسكار في كلمة له أمام الجمهور قال" :مرعب هو التقدم في العمر أليس كذلك، ها أنتم ترون كل شيء بأعينكم، عظام لا تتحرك بليونة، ونظر العينين متعبٌ لهما الضوء، والرئتين تغتنمان فرصة الراحة من البحث عن نفسٍ متعب جدا.. لكن المرعب والُمتعب أكثر هو حين تبلغ التسعين سنة ولا تجد أحدا ممِن تحبهم بقربك يستمع بتذمر لقصص تاريخك المليء بالبطولات الوهمية". لكن كلينت استوود اشغلته هوليود عن استشراف مستقبله في التسعين لكننا في العراق لا هوليودات تشغلنا عن استشراف المستقبل.
***
د. موسى فرج