أقلام حرة
نبيل الربيعي: الحزب الشيوعي العراقي والشعائر الحسينية
تفاوتت الرؤى في ثورة الحسين على الحكم الأموي واستشهاده عام 61 هجرية، فهناك الروايات المغالية التي جعلت منها تجارة ومكاسب، ومسخت تقدميتها عندما حولتها لطقوس بعيدة كل البعد عن أهدافها.
لقد كانت ثورة الحسين التحررية درسا للكثير من الثوار في العالم، وأسهمت في رفع الوعي الثوري لدى الساعين لتغيير الواقع، وذلك لإمكانية استغلالها في هذا المجال على عكس ما يجري اليوم في تسيرها لتحقيق المكاسب الآنية والفردية لبعض الأطراف التي سيرتها بما يخدم مصالحها ويحقق طموحها في التسلط والحكم، ويتناسى هؤلاء أن الملايين التي تشارك سنويا في هذه المشاريع ليس لديها دوافع سياسية كما يحاول استغلالها البعض، وإنما يعبرون بشكل أو آخر عن رفضهم للظلم الاجتماعي الذين تعاني منه الجماهير الشعبية، التي استغلت عواطفها لتتحول هذه المظاهرة الكبرى في طريق بعيد عن أهدافها ومراميها وأن هيمنة هذه الأطراف على الجماعات المنظمة لها حولها من الركن العبادي التقدمي الى طريق يتقاطع مع أهدافها الحقيقية.
وعندما كان الحزب الشيوعي أيام مده الكبير واجهة للمواكب الحسينية، كان لهذه المواكب طعمها الوطني وهدفها التحرري عندما كانت أردودات المشاركين معبرة عن الهم الوطني والهاجس الشعبي وكان غالبية شعراء ورواديد تلك الأيام من العناصر الوطنية المخلصة لشعبها والساعية لتحقيق أمانيه وتطلعاته في الحياة الحرة الكريمة، وكان لتلك الأردودات طابعها السياسي والوطني، وهدفها النضالي الذي يرعب الحكام والمستبدين لذلك كان غالبية حكام السوء يحاربون هذه الطقوس ويحاولون تحجيمها أو منعها، ليس لسبب ديني أو تعصب طائفي كما يصوره البعض ممن يحاولون استغلال الأمر بما يخدم مصالحهم في اللعب على أوتار الطائفية البغيضة وإنما لأن هذه المسيرات الجماهيرية تمثل معارضة حقيقة للسلطة وقراراتها القمعية ،وكانت الجماهير العراقية تتابع بعض المواكب المعروفة بتقدميتها واهتمامها بالعمل الوطني لتستمع الى ما يردده المشاركون من أردودات تقع في الصميم من اهتمامهم وهمهم اليومي، وكان شعراء تلك الفترة يعبرون خير تعبير عن الواقع السياسي تلك الأيام ولو حفظت تلك الأردودات والقصائد المعارضة للسلطة لشكلت شيئا كبير في التاريخ النضالي للشعب العراقي، ومما نتذكره أو سمعناه في هذا المجال أو أطلعنا عليه الشيء الكثير مما يمثل واقع الحركة الوطنية في العراق، ومن الشعراء الشيوعيين كان الشاعر الكبير عبد الحسين أبو شبع والشاعر شهيد أبو شبع والشاعر فاضل الرادود وغيرهم من شعراء الحسين الوطنيين يلهبون الجماهير بقصائدهم الرنانة التي كانت ثورة في الثورة وصورة ناصعة لتوجهات العراقيين، في مختلف عهود التسلط والبغي منذ العهد الملكي وحتى العهد ألصدامي الجائر، ومما قاله فاضل الرادود عام 1963 قصيدته التي ندد فيها بانقلاب شباط الفاشي والتي كان مطلعها:-
عماش ... بيده الرشاش
أو عبد الحسين أبو شبع الذي له الشوارد الخوالد في التحريض على الثورة والانتفاض على الظلم والمعاناة الشعبية التي ناء بأعبائها الملايين.
وعندما سقط الحكم الملكي صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 وهرب معتمده الغربي ورجله الأول في العراق نوري السعيد بعباءة نسائية، كانت الردة الحسينية لعزاء أهالي الكاظم النجباء خير وصف لهذا العار:-
يحسين اسمع صوت الأحرار
هاي الفضيحة ألبقَّت تذكار
*
هارب بزي النسه
خاف الشعب يهجسه
يحسين اسمع صوت الأحرار
***
نعله أعلى نوري
أو گـومـه الأشرار
*
حـگ الشعب ضـيـعـه
والصوچ من مرضعة
يحسين اسمع صوت الأحرار
أو موكب عزاء العباسية في كربلاء الذي يصف معاناة العراقيين في تأمين لقمة العيش وهم يسيرون على آبار النفط:-
شعبي كالجمل أكله
صفه العاكول
*
لكن عل الظهر كله
ذهب محمول
*
شنهو الذهب
مفعولة
للياكل بعاكوله
وعندما قام المسعور عيسى سوار القيادي في حزب برزاني بقتل الطلبة الشيوعيين العائدين من الاتحاد السوفيتي كانت المواكب الحسينية تندد بالجريمة النكراء التي أرتكبها الجاحدون في كردستان، ومما قيل:-
عيسى شكثر سافل
أعدم كم مناضل
*
أهل المطرقة
وأهل المناجل
وكانت جل المواكب الحسينية يتولى أدارتها وتسييرها الشيوعيون، أو من يسير في فلكهم من الشخصيات الوطنية التي وجدت في الشيوعية العراقية مصداقاً للثورة الحسينية الرائدة بأهدافها ومراميها وندر؛ أن وجد عزاء أو موكب ليس للشيوعيين فيه المكان الأرفع والتوجيه الكامل، ولا زال البعض من أبناء الرعيل الأول يؤدون هذا الدور وموكب شباب العباسية في مقدمة المواكب الحسينية التي كان لها ولا يزال الدور الوطني والبعد النضالي، ولا زال يحضا بإعجاب الجماهير التي تنتظر لساعات موعد انطلاقه لتستمتع الى الصوت الثائر والنغم الجميل، وقد أورد الشاعر صباح حسن عبد الأمير مجموعة من الردات التي رددها الموكب المذكور وجميعها تصب في الخط الوطني الرافض لجميع أشكال الاستغلال والتسلط والفساد الحكومي ونشرها وهي تعبر خير تعبير عن مطامح الشعب العراقي في مواجهته الكبرى مع الإرهاب والاستغلال والفساد الحكومي، وربما للموكب رداته المتشابهة التي نأمل أن تأخذ طريقها للنشر ليطلع العراقيون على حقيقة النضال الوطني الذي لا زال الشيوعيون ينوؤون بأعبائه رغم الظروف العسيرة التي تمر بها الحركة الوطنية في العراق.
ولو قيض للرأي الآخر أن يجد طريقه للإسهام بهذه المراسيم وإبراز الوجه الثوري لمعركة الطف الخالدة لكانت أردوداتهم لا تخرج عن الإطار الوطني الداعي لنبذ الفرقة الطائفية، ودعوة الحكومة لمعالجة الملفات الساخنة في المجال الأمني والخدماتي ومكافحة الفساد، ومواجهة الإرهاب، ولكن هيمنة الجهات الفاعلة في الحكومة العراقية حرَّف هذه الاتجاهات الوطنية لتكون هذه المسيرات الجماهيرية خالية من الروح الثورية المقاتلة، التي كانت عليها أيام المواجهة مع الحكام المستبدين، وقد قيل أن هناك مواكب قد رددت بعض الردات المنددة، وأنقل بعضها على ذمة ذاكريها لعدم سماعي لها فعلاً؛ وعدم مشاركتي في المسيرات الحسينية بسبب الوضع الصحي وعوامل أخرى، وهذه الأردودات تعبر عن حس وطني افتقدناه هذه الأيام.
وين يا حامي الحرب على المفسدين
ليش ما شفنا حكم على المجرمين
رقابهم محد لواها لا قضاء ولا نزاهة..؟
تدري جيران الوطن متآمرين
على تمزيق الوطن متوحدين
يا حسين
كل حزب عنده أجنده
والشعب بس الله عنده
يا إمام الثائرين على دربك سائرين
يا حسين..
وبحكم وجود المراقد المقدسة في منطقة الفرات الأوسط كان الاهتمام كبيراً بالشعائر الحسينية واحتل قدراً من نشاط منظمات الحزب الشيوعي العراقي، "بحكم وجود الأئمة علي بن أبي طالب (ع) في النجف الأشرف والحسين (ع) والعباس (ع) في كربلاء، ولهذا الغرض فقد أولت منظمات الحزب في الفرات الأوسط الاهتمام الذي يتناسب بالموقع. ففي العام الأول لثورة الرابع عشر من تموز تمّ تشكيل لجنة حزبية على نطاق منطقة الفرات الأوسط مهمتها التواجد في مدينة كربلاء أبان الزيارة الأربعينية ويقصد بها ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (ع).
تكونت تلك اللجنة من الشهيد ستار معروف مسؤولاً عنها وعدنان عباس وعلي النوري وساجد حمادة في عضويتها، وكانت مهمتها تنظيم العلاقة مع رفاق الحزب الذين كان لهم دور نشيط في تنظيم المواكب الحسينية في مدن الفرات الأوسط المختلفة خلال زيارة الأربعين، هذا إلى جانب تنظيم الارتباط مع المواكب التي تأتي من مناطق العراق المختلفة لهذه الزيارة، كما نسعى لإعطاء هذه المناسبة ما تستحقه من اهتمام ولأجل طرح الشعارات المعبرة عن رفضها الظلم والعبودية ونصرت العمال والفلاحين والكادحين من أبناء الشعب العراقي.
كان التخطيط لهذا التوجه يقضي بالمحافظة على هيبة ومكانة وقدسية هذه الذكرى. أولت منظمات الحزب في الريف كل الاهتمام والاحترام للمشاعر الدينية لأبناء الريف وتقاليدهم... فكثيراً ما كان يحدث عند أوقات الصلاة أن يتوقف الاجتماع الحزبي ويعاود عمله بعد أداء فريضة الصلاة، وتكاد تكون المشاركة في تأدية زيارة العتبات المقدسة من التقاليد السائدة عند الشيوعيين والمفضلة لديهم.
كانت زيارة الأربعين إلى كربلاء الأولى بعد انتصار ثورة 14 تموز 1958م؛ "وكعادة المواكب الحسينية الوافدة من جميع المدن لإحياء المناسبة في العشرين من صفر من كل عام، حيث يتوافد محبّو الحسين سبط النبي محمد (ص) إلى كربلاء لإحياء ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاده من المدن كبيرها وصغيرها بعيدها وقريبها، بمختلف الطبقات ومختلف الأعمار بمئات الألوف.. كانت المناسبة محفلاً جماهيرياً حاشداً لتأكيد قوة القوى الديمقراطية في رفع وتعميم شعار الاتحاد الفدرالي، وبتوجيه من الشيوعيين بدأ موكب من مواكب مدينة الحلة وعلى طريقة (المستهلات الحسينية) بالمستهل:-
الشعب فدرالي رايد لامــــــــــــــــــــــته... غايته
يجمع صفوف الشعب بين أكراد وعرب... غايته
وبدأ الموكب يتحرك بهذا الشعار وخطوة خطوة أخذ الموكب يتسع ويتسع ويتسع حتى بادرت العشرات من المواكب للالتحاق به، وخلال أقل من ساعة كانت عشرات الألوف تردده وبحركة معبرّة عند ترديد المقطع الثاني... ثم اعقبتها مبادرة من الشبيبة أثارت الاعجاب لا تعرف كيف ومتى اعدت المئات من الأعلام الصغيرة بحجم المروحة اليدوية المعروفة (المهفة)، ولكنها من قماش مثلثة الشكل وبمختلف الألوان مكتوب على كل علم كلمة (فدرالي)، حيث انطلق الشباب الحاملين لها مطوقين المواكب يلوحون بها ويرددون بأصوات هادرة (فدرالي... فدرالي... فدرالي... فدرالي)...
***
نبيل عبد الأمير الربيعي
..................
المصادر:
- نبيل عبد الأمير الربيعي ومحمد علي محيي الدين، النضال إن حكى.. تاريخ محلية بابل للحزب الشيوعي (1937-1963م) ج1، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2022.
- عدنان عباس، هذا ما حدث، ج1، دمشق، دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2008.