أقلام حرة

علي الطائي: أبناء الله!!

قد يصدمُ هذا العنوانُ التافهُ عددًا كبيرًا من القرّاء. قد يَحكمون على كاتبه بالزندقة. قد يُخرجون كاتبه من رِبقَةِ الدين، أو من جماعة المسلمين. لماذا؟
ببساطة شديدة، لأن الله (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ). وكأنه اكتشاف سوف يهز الكاتب. أغلب هؤلاء لم يقرأوا المقال، بل حكموا على كاتبه اللعين بالطرد من جماعتهم بسبب العنوان ليس إلا. أو قد يحكمون عليه بالإلحاد وهم لا يعلمون معنى هذه المفردة.
دعونا نتحاورُ قليلا، بالرغم من قناعتي الشديدة أن لا حوار منتج بيني وبين هؤلاء، لسبب تافه هو تفاهة هذه العقول، المؤدلجة، والمؤطرة بإطار ديني طائفي، وأن الجدال معي يعد ضرباً من ضروب السيئات بل الموبقات. ولم يعلموا أو ربما يتجاهلون، وأنا أرجح الثانية، أن الله يقول (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). أظنهم يخبؤون من كتاب الله الكثير من الآيات الداعية إلى تحرير البشر فكريا، وعقائديا.
كلنا سمعنا المقولة الشهيرة: هذا الولد ابنُ أبيه، وهذه البنتُ ابنةُ أمها أو أبيها. والمقصودُ منها أن هذا الولد (ابن أبيه) ذو شأن عظيم فاق كل إخوانه. هذا الولدُ يشبه أباه، و(من يشابه أبه فما ظلم). هذا إذا كان الأب عظيما، وكبير الشأن، ولو كان تافها، كأغلب الآباء اليوم، سقطت حكمة العرب الآنفة الذكر.
الله، بلا شك، هو أعظم شيء في الوجود، ولا يشبهه شيء كما نصت الآيات الكثيرة عليه. وحينما يدَّعي أحدٌ أنه ابنُ الله، تتحقق الحكمة العربية التي أسلفناها. لكن هل من أحد منا يتجرأ على هذا الادعاء؟
لا أحدَ بالطبع، إلا ما سبق في ديانة النصارى. وكل المسلمين، اعتمادا على كتاب الله، يشجبون هذا.
لا أتحدثُ عن هؤلاء، إنما أتحدثُ عن مجموعةٍ من المسلمين لا النصارى ولا اليهود، الذين لم يدَّعوا في الواقع أنهم أبناءُ الله صراحة، بل على طريقة لسان الحال أو المقال يحسبون أنهم كذلك.
من خلالِ ما قرأتُ وما سمعتُ طيلة أكثر من أربعين عاماً مضت، فهمتُ أنَّ اللهَ اختار من البشر مَن سماهم (المصطفين الأخيار) أي الذين اصطفاهم الله وذكروا في آيات القرآن، من قبيل (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) و (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . ولا يسعنا في هذا المكان إلا أن نذعن لما جاء في الكتاب السماوي الأخير. لكن الأمر المهم في هذا أن الله صرح بأسماء هؤلاء أو ربما فهم من السياق الذوات المقصودون والمصطفون. وأعود فأقول: وهؤلاء لم أقصدهم في مقالي هذا ولا أرغب بالدخول في جدال عقيم في قوم ماتوا منذ قرون وذرَّ الهواء تراب أجسادهم لأنه جدال لم ولن يأتيَ بأية ثمرة. الذين أقصدهم هم من يعيش بين أظهرنا ويأكل طعامنا، ويشرب شرابنا، ويتنفس هواءنا.
قلت له: ذلك الملاك الذي يلبس زي العلماء، ويرتدي عمامة الفقهاء، يفتي بقتل البشر لأنهم لا يتبعون أفكاره.
قال: هذا الذي تتحدث عنه خط أحمر، لأن صلته بالله قوية، فلا تغضب ربك، واستغفر من ذنبك، لأن الشك فيهم حرام.
قلت مستغربا: الله يأمر بقتل البشر وهو الذي حرم القتل بغير الحق، أو القصاص؟
قال: أستغفر الله، لم يفعل هذا، ولا أمر به.
قلت: إذن كيف يأمر هذا الرجل بقتل من لا يتفق معه فكراً، وعقيدة؟
قال: ومتى فعل هذا؟
قلت: ألم تقرأ فتاواه التي تنوء به كتبه؟
لم يفطن هذا المُغرمُ إلى ممارسات هذا الملاك وأشباهه مع سائر الناس. ينظر إليه وكأنه محاط بملائكة الله المقربين. فُتِنَ به وبأحاديثه التي تخلبُ عقولَ السطحيين أمثالِه.
هذا الملائكي هو الذي صنع قدسيته بنفسه، فصدقه الآخرون من سواد الناس، الذين اعتادوا على تسليم ذممهم وعقولهم لأمثال هؤلاء الذين يجيدون فن الإقناع والخداع. إنهم لا يألون جهدا من إظلال العامة، لأن العامة في الغالب من بسطاء العقول، أو تاركيها على الأرجح. إنهم سلموا ما بعهدتهم من خلايا المخ وعواطف القلوب إلى أمثال هؤلاء المتشدقين، المتفيهقين، والمتفقهين. المظهر الخارجي لهذا المقدس هو الأهم عند هؤلاء، لا يعلمون أنهم لبسوا مظهره، وتبنوا فكره، واستقرضوا عقله، وتكلموا بلسانه، ولم يكن لهم من فضل إلا نقل أفكاره ورؤاه، وهم يؤمنون بمقالة ناقل الفكر ليس بكافر، ولم يعلموا أن ناقل الفكر والعاملَ به دون تمحيص هو كافر بالعقل والإنسانية. إنه يجيد التشدق بالفم، والتلويح باليدين، ويتقن هز الرأس، وإفاضة العيون بدموع الغش والخداع. يتسلق إلى أفهام العامة بسلم العاطفة وصدور الحور العين، وأنهار اللبن والخمر التي وعد المتقون، المستسلمون له، لأنه ابن الله الذي اصطفاه وأعطاه العلم قذفا، لأن الله يهدي من يشاء ويظل من يشاء، وهو على كل شيء قدير.
إنه يبني للآخرة، لأنه لم ينس نصيبه من الدنيا، فتجده يراكم لبنات التبر والفضة ويكنز الملايين باسم الله الذي يتحرك في بحبوحته، ولا أحد له الكلمة إلا هو، لأنه مقدس، والمقدس لابد أن تكون أفعاله مقدسة، ولا يأتي بالمنكر. إنه يقدر بما أوتي من علم المنطق الأرسطوطاليسي العتيق على تحليل ما يشاء، وتحريم ما لا يشتهي. ولا قدرة لأحد على الرد عليه لأنه ابن الله.
إنه الأوحد الذي له أن يقطب وجهه في وجوه البؤساء، فتغرورق عيونهم بالدموع، وكيف لا وقد رسَّخَ في عقولهم أن الدمعة تطفئ حر جهنم!!!!
إنه النور الذي انتقل من أصلاب الأجداد حتى استقر في خصى الأحفاد!!! فأنجب الابن البار.
هو كاشفُ الظلمة في حنادس الليالي التي غاب عنها القمر، بل هو القمر بذاته، أو أنه خلق من أجله!! إنه الوجه الذي رسمه الله على سطح القمر وليست صورة تضاريسه!!!
هو الثريا التي تظهر للرائي حين يرفع بصره يدعو الله في سمائه!!!
إنه الحافظ الذي لولاه ما استقرت الأرض في مدارها، وما هدأت الجبال في أماكنها!!!
لولاه ما كنا، ولما خلق الله البعير، والحمار، والكلب لولاه!!!
ولولاه ما أطعمنا الله الفول والجرجير والبطيخ!!!
إنه (في أفكار هذا العبد الفقير) لا يأكل مما نأكل، ولا يشرب مما نشرب، ولا يواقع زوجته مثلما نفعل نحن التافهون.
إنه على صلة وثيقة بلا واسطة مع الخالق، يطعمه من ثمار الجنة، ويسقيه من الرحيق المختوم، والعسل المصفى، وزوجه ليست من نساء الأرض اللواتي لا ينفع مع وخمتهن كل عطور الدنيا!!!
إنه يعلم ما في صدرك وكأنه شقه فاطلع على أسراره، وهو يعلم بكم أينما كنتم. فحاذر الظهور أمامه والشك يملأ قلبك، ويفيض العناد من رأسك. لن تبلغ أجرك حتى تسلِّمَ رأسك وما يحتويه، وعينك بمقلتها ودموعها الحرّى، وبطنك بكرشها، ولسانَكَ بطولِهِ وبذاءته، واحذر أن تضاجع زوجك حتى يأذن لك ويحدد لك أمتع الطرق!!! وأفضل الأوقات!!! لأنك لو فعلت غير هذا وخرج الطفل مشوها، أو أعور، فلا تلومن إلا نفسك!!!
إنه ذلك الابن الذي لو مشى على الأرض لسبَّحَت الحصى له، وكل الشجر والجت والبرسيم!!! وغردت الطيور وزقزقت العصافير، وصاحت البوم، وكله تسبيح وتهليل فرحاً بمروره المقدس!!!
إنه الذي يتكلم مع الملائكة في غلس الليل، ويقيم المجالس معهم فيأمرهم وهم له طائعون!!! ولو كان على شغل أو زحمة من أمره، أتوه في عالمِ الطيفِ والرؤيا حتى يسجل حضوره المقدس!!
لولاه لوجدنا الأيتام تملأ دورهم التي بناها أهل الخير!!!
ولولاه لازدحمت السبل بالفقراء والمساكين!!!
ولولاه ما عشنا (كما نحن الآن) في جنة الأرض التي وعدنا الله بها!!!
إنه السبب الأول لنزول القطر من السماء، ولولاه لأصابنا القحط والجفاف!!
لولاه لمات الرافدان( دجلة والفرات) ولما رأيناهما يفيضان كل موسمٍ فيغرقان الحرث والنسل!!! ويبطشان بالمدنِ والقرى.
هو الذي ببركة عمامته خلصنا الله من الداء الذي فتك بأهل الأرض، كورونا اللعين، والذي هو من الفيروسات التي غضب الله عليها لأنها من القومِ الكافرين!!!
لولا وجوده لتهدمت المدارس وجلس التلاميذ على حصران من الخوص والقصب، في العراء تحت الشمس اللاهبة وبرد الشتاء القارص!!!
لولا وجوده وبركة جلبابه المقدس لعاث الفقراء والمساكين شرا بأكوام النفايات!!! بحثا عن شيء له ثمن يسترون به عوراتهم التي تستظل تحت بيوت من الصفيح، وتحتهم يئن النفط ويبكي عليهم!!! في بلد نصف أرضه مخلوق من بترول!!!
لولا وجوده وبركة لحيته الطاهرة، لكنا اليوم نأكل مما يزرعه الغرب، ونلبس ما ينسجه الغرب الكافر، ونركب الإبل، ونمشي حفاة، ونرتدي عمامة إسرائيلية، أو (صاية) صينية الصنع!!!
هذه هي بعض فيوضات ابن الله الذي أخبرتك عنه، ولو استرسلت في الحديث لطال بنا المقال، ولك أن تَصِمَني بما تشاء، لكن تذكر أنني تحت رعاية الله وبصره، لأنني أفكر، ولأنني أعقل ما يدور حولي. أما أنت فلن تنعم بهذه النعمة، ولو صرت ابنا لله!!!!
***
د. علي الطائي

في المثقف اليوم