أقلام حرة
نهاد الحديثي: النصب والتماثيل.. لعبة السياسة والهوية الوطنية
يطالب بعض سياسيي النظام الحالي بازالة نماثيل ونصب شامخة في بغداد، كتمثال المنصور ونصب اللقاء وقوس النصر باعتبارها تمثل جزءا من بقايا النظام السابق، ويدعون ان العراق الجديد الذي يمثل الديمقراطية يجب ان يزيلها وتوضع مكانها نصب جديدة كنصب الابهام/ الاصبع مثار سخرية وانتقاد الفنانين الرواد فلا نستغرب مايجري، الفن هو نتيجة ما يدور حوله من نشاط إنساني وكذلك عندما يكون صاحب القرار الذي يتحكم بالفن لا يمتلك الأساسات التي تؤهله لأخذ القرارات تكون النتائج وخيمة وتسيء للفن التشكيلي والمشهد العام، وبات كل شيء طبيعي في ظل الوضع العام الذي نعيشه اليوم الأن،
بعد عام 2003 قررت لجنة اجتثاث البعث إزالة كثير من التماثيل تحت ذريعة أنها تمثل النظام السابق، فقد أزيل تمثال الطيار (عبدالله لعيبي) الذي كان شاخصاً بالقرب من المسرح الوطني، حيث يجسد التمثال طياراً يقف على حطام طائرة، وتعود قصته إلى مرحلة الحرب العراقية – الإيرانية، فبعد نفاد عتاد هذا الطيار ومشاهدته اقتراب طائرة الخصم من هدفها في محافظة السليمانية، وجه لعيبي طائرته لتصطدم بالطائرة الإيرانية ونجح في منعها من الاقتراب إلى الأراضي العراقية/، كما أزيل نصب المسيرة وهو من تصميم الفنان خالد الرحال، ويقع في ساحة المتحف ويضم النصب مجموعة من التماثيل المتداخلة التي تتخذ في النهاية شكل ملحمة تظهر فيها بداية الحضارة في وادي الرافدين وشخوص مثل كلكامش، وقامت أمانة بغداد بإزالة عدد من النُصب والتماثيل من ساحات وشوارع المدينة، ومنها نصب "الأسرى الشهداء "في ساحة المستنصرية، و"المسيرة" في ساحة المتحف (استُبدل بنصب جديد)، ونُصب "المقاتل العراقي" في الباب المُعظّم، وعدم أمانة العاصمة بحماية النُصب والتماثيل، باعتبارها إرثاً وطنياً وجمالياً ينبغي الحفاظ عليه. كما لم تمنع تعليق الإعلانات الانتخابية على واجهات النُصب والتماثيل، ولم تقم بأعمال الإدامة والتنظيف، أو تسييج الأعمال الفنية لغرض حمايتها من حوادث اصطدام السيارات، كما حدث أخيراً لنصب كهرمانة
لا يحضر الجانب السياسي في هدم التماثيل والنصب فحسب، بل إنه يصل إلى التشويه المتعمد كما هي الحال في نصب قوس النصر الذي يقع في ساحة الاحتفالات، فكان يضم على جانبيه خمسة آلاف خوذة لجنود إيرانيين، وهي خوذات حقيقية جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين البلدين في فترة الحرب العراقية الإيرانية وبعد عام 2003 أزيلت بالكامل، وكانت هناك محاولات لهدم تمثال المنصور، و نصب الشهيد الذي أنجز في ثمانينيات القرن الماضي تخليداً لذكرى الذين ارتقت أرواحهم خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ونصب الشهيد من تصميم المهندس المعماري العراقي سامان أسعد كمال، أما القبة الخاصة به، التي بنيت على الطراز العباسي فهي من تصميم الفنان التشكيلي العراقي إسماعيل فتاح الترك، وتكمن عبقرية هذا البناء في الخداع البصري الذي يحققه النصب المقام على أرض مفتوحة مترامية الأطراف، فالنصب مشيد بأكمله وسط بحيرة صناعية واسعة ويتألف من ثلاث وحدات أساسية هي القبة والراية التي تمثل الشهيد العراقي والينبوع الذي يمثل ديمومة التضحية من أجل الأرض
السياسة تتربص للفن، ويبدو ان الانظمة السياسية في العراق تضيق ذرعاً من الماضي فتحاول إلغاء الرموز الفنية التي تجسد المرحلة التي سبقتها، كل حكومة تحاول أن تلغي ملامح نتاج الحكومات السابقة وبخاصة في الأعمال الفنية التي تخدم فكر وسياسة الدولة، لذلك نجد أن هناك إلغاء وتدميراً متوالياً بين الحكومات، وما يبقى فقط هو بعض الأعمال الفنية المرتبطة بالفن الحقيقي، غالباً ما تؤرخ التماثيل مرحلة تاريخية مرت على العراق، فمع دخول القوات البريطانية كانت هناك تماثيل تجسد قادة بريطانيين كما هي الحال مع تمثال الجنرال مود، وهو الجنرال الإنجليزي الذي دخل مع قواته مدينة بغداد في 11 مارس (آذار) 1917 بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وأقيم التمثال أمام السفارة البريطانية في منطقة الشواكة عام 1923 وحطم في يوم 14 يوليو (تموز) عام 1958، كما كان هناك تمثال للقائد الإنجليزي لجمن وهو يرتدي الملابس العربية وكان مقاماً أعلى منارة القشلة التاريخية وأزيل من مكانه عام 1958
النصب والتماثيل تمثل حكاية لفترة تاريخية من حياة العراقيين، فهي تؤرخ وتوثق المراحل التي مرت على العراق، ولا بد من الحفاظ عليها وليس إتلافها، ومن الأجدى نقلها للمتحف الوطني لتعرف الأجيال تاريخ البلاد من خلال هذا الفن وما جسده من مراحل تاريخية، وأن أي إلغاء للنصب والتماثيل هو محاولة لتشويه مسيرة الفن، قائلاً "كل انقلاب سياسي يحاول أن يمحي آثار من سبقه ظناً منه أنه يمسح ذاكرة الأجيال التي قد تؤثر في مساره التاريخي، متناسياً أنه بهذا الفعل قد شوه مسيرة الفن والجمال والنتاج الفني لبلد يحمل موروثاً تاريخياً متفردا، وتقول المعمارية العراقية ميسون الدملوجي في كتابها"منحوتات بغداد بين الفن والسياسة "، ودور العمارة والفن في إعادة إحياء الهوية الوطنية، من خلال تحليل النُصب والتماثيل في شوارع بغداد بشكل متوازٍ، مع الأوضاع السياسية العاصفة التي مرّ بها العراق في مراحل مختلفة، وذلك عبر استلهام رموز تاريخية عربية أو إسلامية حيناً وعراقية حيناً آخر، وتطرح الدملوجي مسألة الاهتمام بالفن في الفضاء العام كوسيلة لإعادة بناء الهوية. وتشير إلى أن "فترة الستينيات والسبعينيات تميّزت بوفرة إنتاج الأعمال الفنية في الشوارع والتقاطعات، ثم مرحلة الحرب العراقية الإيرانية والنصب التي اقترنت بها، السياسة وضعف الخبرات تلاحق ترميم وصيانة النصب والتماثيل وحسب ارتباطها بالمراحل السياسية المتعاقبة، فكل نظام سياسي يرغب أن يسخر الفن ليجسد انتصاراته وأيديولوجياته عبر تماثيل تشخص في الساحات العامة، وغالباً ما تتعرض هذه التماثيل إلى الهدم بعد انتهاء كل مرحلة سياسية، أغلب التماثيل والمنحوتات في العراق تقاوم عوامل البيئة وتبقى صامدة، وهي تلك المصنوعة من خام البرونز والحجر والمرمر ومنها ما تكون هشة لا تقاوم، وهي المصنوعة من المواد الجبسية والأسمنت، وتبقى التماثيل البرونزية هي التي تقاوم عوامل الزمن بسبب خاصية التأكسد التي يتمتع بها عنصر البرونز فتبقى الأعمال المنحوتة محافظة على جمالياتها، ولا تحتاج سوى لصيانة دورية بسبب المتخصصين في فن النحت، معظم عمليات الصيانة للأنصاب والتماثيل "ارتجالية غير علمية وغير مدروسة"، معتبراً أن الدولة لم تعط مسألة الترميم والصيانة اهتماماً حقيقياً، مشيراً إلى أن هناك أعمالاً فنية لكبار فناني العراق وبخاصة الجداريات التي صنعت من مادة السيراميك والفسيفساء تكاد تكون اليوم في آخر مراحلها من الضياع.
***
نهاد الحديثي