أقلام حرة
علي الجنابي: بَقيةٌ مِن سِيجار
زحفَت مخالبُ طفليَ النَّمرِ الصغير فالتَقَطَتْ بقيةَ جثمانٍ من سيجارْ، على حين غفلةٍ من بؤبؤٍ لي شاردٌ بنظراتِهِ ولها متأبِّطٌ محتارْ. وأنا ما ألفتُ ذلكَ البؤبؤَ في ثوانيَ عُمُرِهِ إلّا شارد العبراتِ قائماً أو قاعداً أو إن سَار. ثمَّ شهَقَ نمريَ الصغيرالدّخانَ بمنخريه فحلّقَ والدخانُ في العنان وطارْ، فقهقهَ صغيري وكأنه قيصرٌ روما، أو ربما ظنَّ أنّهُ هارونُ الرشيد قد صارْ. قهقهتُ أنا معه ساخراً من أسرارٍ في الصَّدرٍ فَوَّارةٍ وأسرار، ومن جعجعةِ قطارِ زماننا ثقيلٍ مستطار. قطارٍ ما حملَ إلينا إلّا سيجارٌ ينفثُ دخاناً من بطن نارْ.
مهلاً عليَّ يا أبتِ، يا شمعةً بين صَحبِكَ الغيارى الأبرار، ومهلاً عليَّ يا ذا عمامةٍ مُتّحفِّزَةٍ لزَلَّةٍ كتحفّزِ هرٍّ جائعٍ على فارٍ، أو تَحفُّزِ نارٍ غلى حطبٍ في تنورٍ قد سُجِّرَ وفار. ومهلاً عليَّ أنتَ ياصاحبي وألجمْ ذرفَكَ إن ثار ، ومهلاً ياجارُ وأحجمْ حرفكَ يا جارُ إن جار.
مهلاً عليَّ كلكمُ أجمعونَ فلستُ بفاسقٍ خَوَّار، وذروا سيوفَ النُّصحِ في أغمادِها ولا تنعتونيَ بسوءِ تربيةٍ من سفاهةٍ وأقذارْ، فهكذا هوَ فكري يقضي دقائِقَهُ وإذ أعياهُ غمُّ الزمانِ ورقصَ على كتفيهِ الهَمُّ ودار، وباتَ رقَّاصُ الزمان فيهِ جاثماً، فلا تبخترَ فيهِ ولا سمرَ ولا فيه خبرُ سار، وما عادَ ينفعُ فكري عِلمٌ قد تعلّمَه من كتابٍ أو مِن حِوار، ولا يدفعُ عنهُ مجلسُ حكمةٍ بهِ كانَ قدِ استَنار، ولايشفعُ له حتى مسجدٌ أو ديرٌ كان قد مرَّ بهِ وزار. فترى الفكرَ مُعتَكفَاً عن غوغاء زمانِهِ هذا، وعن الصاحبِ بالجنبِ وعن الآلِ والجارْ، وتراه لاهياً يعبثُ ويَعُدُّ ببقيةِ عيدانِ ثقابٍ مالديهِ من آثامٍ وأوزار، بعضُهنَّ أعوادٌ مقصومةُ الظَّهرِ وبعضٌ مَعطوبُ الرأسِ وبعضٌ سليمٌ قويمٌ لكنهُ غَدَّار، إذ يتَفجَّرُ إن احتكَّ بما في غلافهِ من جدار.
نمريَ الصغير ما فتأ ينفُثُ برهفٍ وبشغفٍ دخاناً من بقيَّةِ السِّيجار، وهو لا يدري أن دارَنا أمست تغبطُ مُقامَ أصحابِ القبورِالأطهار منهم والفجار، وتتمنى منامهم الهادئِ ومن رقوهم تغار.
أنفثْ وإمرحْ!
إمرحْ يا صغيريَ، وإفرحْ ببهجةٍ لانملكُ غيرها، بهجةِ الشهقة من سيجار, وإني وإياكَ لعلى هدىً أو في ضلالٍ بئيسٍ منه يُستَجَار.
إمرحْ، ولن نباليَ بمَن يتَصَيَّدُ فينا العيبَ، والعيبُ في عِبِّهِ قد تكَدَّسَ وتيَبَّسَ وبارْ.
انفثْ ولا عليك منهم يا أميري، ودعنا نضحك ونذر لعبةَ التَّربيةَ بيننا بمناوراتٍ بينَ القطّ والفار. وإشهقْ الدخانَ ومِن منخريكَ أخرجْهُ، فما كان الدُّخان يوماً بعارٍ أو بضار. وكذبَ النَّاصحونَ بتنمُّرٍ بأنَّ السيجارَ آفةٌ مُسرطنةٌ سمُّها يدَمدِمٌ الأبدانِ وضار. أوليس سرطانُ زمانِهم أشدُّ فتكاً على روحيْنا إن تغلغلَ خِلسةً بيننا في الدار.
إشهقْ ثمَّ ساخراً إنهقْ أيُّها القائدُ المُختار، وإرتقبْ إذ يلبسُ الناصحونَ عباءةِ الأولياءِ الأبرار أو يهتفونَ بعصمة الأنبياء الأخيار.
أنفثْ ويالثغرتينِ في منخرينِ فيكَ آسرينِ ساحرين صغار..
ويْ! إنهم يمنعونني وإياكَ بهجةَ دخانٍ يتيمةٍ إن تَحلَّقَ في الفضا وطار، بل وينعَتونني بالتَّفاهةِ والسَّفاهةِ ورُبَما الصَّلافةِ والعار!
وعلامَ الصَّلافةٍ والعار!
فأنا ماطعنتُ بعرضِ رسولِ الله الذي بسناهُ تستنيرُ الأقمارُ والأبصار..
وأنا ما قتلتُ أبنَ بنتِهِ في البلادِ، وماسبيتُ ذريته من كوكبةِ آلٍ أطهار..
وأنا ما سئمتُ من الأقصى مسرى المصطفى المختار، ولا التئمتُ معانقاً بني صهيون لا خفيةً ولا في جهار .
فأينَ سفاهتي وأينَ هيَ الصلافةُ والعار !
أمِن بقيةٍ من سيجار تناثرَ كلُّ ذلكَ الخزيِّ والعار!
أفٍّ لهم من ناصحين جلّادينَ بالسنةٍ حدادٍ على شهقةٍ دخان من سيجار!
أفٍّ لهم، ولِمَا يتنطعون بنفاقٍ أغبرٍ أعورٍ ختَّار.
أفٍّ مبثوثةٌ بنفثِ دخانِ (كوبيٍّ)؛ فخر الأصنافِ في عالمِ السيجار.
***
علي الجنابي