أقلام حرة
الطيب النقر: الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ومكان
إن الإسلام لم يقتصر دوره على التهديد والوعيد بأن العقاب سوف ينال كل من أصاب حداً من حدود الله فى يوم يوم تقشعر فيه الأبدان وتشيب فيه الولدان وأن الطرد من رحمة الله ونعيمه هو مصير من يطلق العنان لشهواته ولذاته الفانية دون أن يتفكر فى المآل وسوء العاقبة. بل نجده قد وضع العقوبات الرادعة التى تكون بمثابة سيف مسلط يلاحق كل من ضعف وازعه الدينى وأصاخ بسمعه لهوى نفسه وأراد أن ينغمس فى وحل الخطيئة ويهوى فى لجج الشيطان "فالطبيعة البشرية مبنية على تحكم الرغبات والشهوات، وبخاصة إذا ما خفت دواعى السيطرة الروحية من القلوب فإنا ولابد واجدون فى أبناء هذه الطبيعة، من تضعف عقيدتهم فى الترهيب الأخروى، أو يغفلون عن تقديره والنظر إليه، وكان من مقتضيات الحكمة فى السلامة من تعارض الرغبات والشهوات، وضعف المعنى الروحى فى مقاومة الشر، إتخاذ علاج ناجع، لكبح هذه النفوس، صيانة للجماعة من شيوع الفساد، وتفشى جراثيم الإجرام". فشرع الإسلام العقوبات فى الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض:"فى النفوس، والأبدان، والأعراض، والأموال،كالقتل والجراح، والقذف والسرقة؛ فأحكم الشارع سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر".
"وحتى يصبح التشريع الإسلامى صالحاً للتطبيق فى كل زمان ومكان نوعت العقوبة إلى الزامية لا يجوز تعديلها، وأخرى اختيارية وفقاً لما يراه الحاكم".العقوبات الإلزامية أو المقدرة "هى التى ورد فيها نص من الشارع يبين نوعها ويحدد مقدارها وهى بهذا الوصف تشمل عقوبات الحدود والقصاص والدّيات.
والحدود تشمل حد الزنا والقذف وحد الخمر وحد السرقة والحرابة والردة والبغى. أما القصاص والدية فهما العقوبتان اللتان حددهما الشارع بسبب الإعتداء على النفس أو على ما دون النفس كالجرح والقطع...
وأما العقوبات التفويضية أو الغير مقدرة فهى التى لم يرد فيها نص من الشارع يبين نوعها ويحدد مقدارها وإنما يخضع أمر النظر فيها وتقديرها للقاضى وهذا النوع من العقوبات يطلق عليها العقوبات التعزيرية أو التعزير".وقد اتجهت الشريعة الغراء فى جرائم الحدود إلى الشدة والردع وأخذت على يد المجرم أخذاً شديداً، و"حكمة التشدد فى هذه الجرائم أن ضررها لا يقتصر على المجنى عليه بل يتعداه إلى المجتمع بأسره الأمر الذى يؤدى إلى فساده وتداعى أركانه وشيوع الفحشاء فيه، فالتشدد فى عقوبات هذه الجرائم قصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام، وقصد به مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تهمل مصلحة الفرد فى سبيل الجماعة، بل العجب أن لا تضحى بمصلحة الفرد فى هذا السبيل".على أن الإسلام لا يشدد فى العقوبة هذا التشديد إلا "بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، فتوقيع العقوبة وتنفيذها لا يتحقق إلا فى الحالات الثابتة التى لا شبهة فيها.
فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة، ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب ويتمرغ فى الوحل طائعاً غير مضطر". أما العقوبة الأخروية فلقد ادخرها المولى عزوجل للعصاة من عباده الذين أفنوا حياتهم فى مقارعة الكؤوس ومطاردة اللذات دون أدنى اعتبار للجبار الذى يسدل عليهم ستره ظانين أنّ بعدهم عن أعين الناس ومواطن الإثبات كفل لهم النجاة من عين الرقيب ومن سطوة القاضى المهيب فالعقوبات الأخروية"تجد أثرها فى حسم الرزائل الخلقية التى تعزب العقوبات الدنيوية عن ملاحقتها ويتعذر عن رجال القضاء ورجال الضبط القضائى إثباتها كالحسد والنفاق وقريب منها الغيبة والنميمة وغيرها من الجرائم الخلقية". فإن سلم ذلك العبد العاصى وخفى أمره ونجا من العقاب والتنكيل فى دنياه فهو حتماً لن ينجو عقاب الله عزوجل الذى لا تخفى عليه خافية، فهو يراه أينما كان وكيفما فعل وسيحاسبه إذا اقتضت مشيئته ذلك عما صدر منه من جرائر اجترحها وآصار اقترفها.
وصفوة القول أن العقوبة هى الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة والفرد من تلك العصابة التى استزلها الشيطان واستفزها بخدعه وأغواها بأكاذيبه.
***
د. الطيب النقر