أقلام حرة
بكر السباتين: كلمة السر في ثورة الجامعات ومعاقل قادة مستقبل أمريكا
اندلعت احتجاجات طلابية واسعة في جامعة «كولومبيا» الأمريكية سرعان ما توسعت إلى جامعات عديدة في الولايات المتحدة على رأسها "جورج واشنطن" و"هارفرد"، تضامناً مع غزة، وتنديداً بحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، الأمر الذي أشعلت موجة تضامن عالمية بعد أن لجأت رئيسة الجامعة نعمت شفيق، إلى استدعاء قوات الشرطة والسماح لها باقتحام الحرم الجامعي، من أجل قمع الطلبة المحتجين على جرائم الإبادة في غزة، وإنهاء اعتصامهم داخل الحرم الجامعي.
وأطلق مغردون على هذه الاحتجاجات اسم" ثورة الجامعات الأمريكية" كونها ناجمة عن الشعور بالصدمة الشبابية من الموقف الرسمي للولايات المتحدة الداعم لجرائم "إسرائيل" والانقلاب عليه، كونه يتناقض مع المبادئ التي نشأوا عليها.
ويمكن قراءة المشهد في الجامعات الأمريكية في سياق صراع الأجيال ما بين تقبل الآباء للأضاليل الإسرائيلية وانحياز الشباب للسردية الفلسطينية من خلال صور ضحايا غزة الناطقة، وهم يستعطفون الضمير العالمي بكبرياء رغم تعرضهم للإبادة بواسطة القتل والمجاعة.
ولنبدأ بجامعة كولمبيا العريقة التي أشعلت الفتيل، حيث تُعَدُّ من أفضل جامعات النخب، ويستطيع فيها الطلاب عمل الأبحاث والدراسات العليا والتفاعل مع الأفكار الخلاقة وتحليلها بعيداً عن التضليل الإعلامي ورغم ذلك فإن الزيف كان يباغتهم من بطون الكتب التي وضعها المستشرقون وغالباً ما كانت تحت إشراف استخباراتي غربي.. فالاستشراق هو الذي مهد لاستعمار الشرق برمته (وهي فكرة توسع بها أحد أساطين الجامعة من أصول فلسطينية البروفسور إدوارد سعيد في كتابه الأشهر: الاستشراق)، وبدلاً من سعي الغرب بمؤسساته البحثية والأكاديمية إلى تطوير الحوار الجاد بين الشرق والغرب ما بين الفهم الصحيح وبناء علاقات تعاونية ومعرفية بناءة ، جاءت السياسة القائمة على المصالح، لتعكر الأجواء من خلال وصف الشرق بأنه منبع للإرهاب وبالتالي ظهور مصطلح "الإسلامفوبيا" الذي طالب ترامب عام 2017 في مؤتمر العالم الإسلامي بالرياض بضرورة مواجهة هذه الظاهرة، وترسيخها كواقع.
وكانت حركة المقاومة حماس تندرج في هذا السياق على اعتبار أن غزة تمثل ملاذاً للأرهاب؛ ولكن مع وجود تقنيات الفضاء الرقمي فقد تعددت خيارات وبدائل الطلبة، فيما يتعلق بالمصادر المتاحة، وصارت أحكامهم على السرديات الخلافية أقرب إلى الإنصاف منها إلى الإجحاف المضلل، كما هو الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية.
وقد تم تأسيس جامعة كولمبيا في عام 1754، حيث شهدت تخرج الكثير من المشاهير ، والعظماء المؤثرين، وكان لهم دور فعال في مجتمعاتهم من أهمهم، الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.. وينتمي إليها أبناء النخب الأمريكية بكل اتجاهاتهم.
وقس على ذلك جامعات أخرى في بلاد العام سام مثل جامعة "جورج واشنطن" حيث طوق الطلبةُ في الأحداث الراهنة، رقبةَ تمثال مؤسس الولايات المتحدة جورج واشنطن، بعلم فلسطين والكوفية الفلسطينية في مشهد رمزي مهيب.
لقد تعامل هؤلاء الطلبة مع تجربة "غزة" كفكرة مستقلة، للولوج عبرها إلى السردية الفلسطينية المهجورة ومن ثم إعادة اكتشافها بعيداُ عن تأثيرات الدعاية الصهيونية التي ظلت تسيطر على العقل الغربي حتى مجيء الفضاء الرقمي وتقنياته الذي وفر المرجعيات البديلة.
فمنذ السابع من أكتوبر تخمرت تجربة غزة من خلال صمود المقاومة، وتحييدها لجبروت القوة الإسرائيلية بمعجزة أنفاق غزة، والتفاف الشعب حولها رغم تعرضه للإبادة، وتحول علم فلسطين والكوفية المرقطة البيضاء إلى أيقونات شبابية في العالم دون استثناء حيث طُوِّقَتْ بها الأعناق والسواعد ووضعت في البيوت إلى جانب صور غيفارا ومانديلا،
إن المشاركة الأمريكية في حرب الإبادة تسببت بالانخراط الفعلي لشباب الولايات المتحدة بكل أعراقهم في أتون "ثورة الجامعات" ولا أستبعد أن يكونوا قد تأثروا بتجربة الطيار الأمريكي الذي أشعل النار في نفسه حتى الموت خارج سفارة "إسرائيل" في واشنطن، حيث أعلن أنه "لن يكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعية"، في إشارة إلى الحرب التي تشنها "إسرائيل" في غزة، وهو ذات الشعار الذي يرفعه طلبة الجامعات من باب أن هذه الثورة شبابية ومرشحة للخروج من نطاقها الجامعي وتتناما مثل كرة الثلج..
في الوقت ذاته، فإن معظم الجامعات الأمريكية ما زالت مشتعلة بالتظاهرات والإضرابات، والدراسة شبه معطلة، وحوّلت عن بعد في بعض الجامعات بعد قيام رئيسة جامعة كولومبيا المصرية الأصل الصهيونية الهوى بفصل خمسة عشر طالبا من المطالبين بوقف حرب الإبادة في غزة. فووجهت هذه الإجراءات تصعيدياً برفع سقف المطالب الطلابية. لتصبح:
رفع الحصار عن غزة كلياً دون شروط، وقف إطلاق النار الشامل، مقاطعة كل الجامعات والشركات المرتبطة بدعم الحرب بشكل جديّ وفاعل، وقف المساعدات الأمريكية العسكرية والمالية والسياسية التي تقدم ل"إسرائيل".
ويمكن إدراج أسباب تمكن فكرة غزة من الاستجواذ على عقول وقلوب الجماهير الطلابية، والتي قد تسهم في استدامة ثورتهم التي أخافت الإدارة الأمريكية، فيما يلي:
أولاً- وجود قضية يدافعون عنها متمثلة بوقف حرب الإبادة في غزة، وكانت الشرارة التي أيقظت الضمائر والعقول،
ثانياً- المشاركة الأمريكية في هذه الحرب، باستخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، وهو إقحام مرفوض للمواطن الأمريكي في حرب تناقض مبادئه المستمدة من دستور الولايات المتحدة التي تربى عليها وشكلت وعيه المبكر، ومنها استمدت الجامعات أنظمتها الداخلية؛ ليكتشف زيفها، وخاصة بعدما شهدته الجامعات الأمريكية من انتهاكات أمنية بحق الطلاب الذين خرجوا بمسيرات سلمية رفضاً لحرب الإبادة الجائرة ضد الفلسطينيين.
ثالثاً- البعد التاريخي لهذه الثورة، اقتداءً بما جرى في جامعة (كولومبيا 1968) والتي كانت عنواناً لإحدى المواد الاختيارية المتعلقة بالاحتجاجات على حرب فيتنام والتي درسها بعض طلاب الجامعة قبل أن ينشئوا مخيمهم الاحتجاجي في حديقة جامعة كولومبيا الأسبوع الماضي، حيث يرى الطلاب مدى التشابه بين مضمون المادة ونشاطهم ضمن احتجاجات جامعة كولومبيا.
رابعاً- ولتحييد قانون "معاداة السامية" على اعتبار أن المستهدف هو "إسرائيل" التي تمارس الإرهاب والإبادة وليست اليهودية كديانة، فقد ضمت هذه "الثورة" جميع الأطياف بما فيهم الطلبة اليهود الذين تبرأوا من الصهيونية ودولة الاحتلال الإسرائيلي التي يرونها كوصمة عار على اليهودية.
القصة مليئة بالمفاجآت فالحديث عن الجامعات يعني الدخول إلى معاقل التغيير في الدول.. فما بالكم حينما يتعلق الأمر بجامعات عريقة مثل "كولمبيا" و"هرفرد" الأكثر خصوصية في بلاد العم سام؟
***
بقلم بكر السباتين
28 أبريل 2024