أقلام حرة
سلام على هيروشيما ونكازاكي
في الذكرى 78 لدمار هيروشيما ونكازاكي بقنبلتين نوويتين صرّح الأمين العام (للأمم المتّحدة) قائلا: " طبول الحرب النوويّة تدّق مرّة أخرى. إن انعدام الثقة والانقسام يتصاعدان. شبح الحرب النووية الذي كان يلوح في الأفق خلال الحرب الباردة قد ظهر من جديد. وتهدّد بعض الدول، بشكل متهوّر باستخدام أدوات الإبادة هذه. "
لقد حمل لنا يوم السادس من أوت / أغسطس من عام 1945 م خبرا مفجعا ضرب كل ّ كلّ القيّم الإنسانيّة عرض الحائط. جنون السياسة الأمريكيّة ألقت (بالولد الصغير) * على مدينة آمنة، آهلة بالسكان المسالمين، فحوّلتها إلى محرقة جهنّمية ومقبرة للعظام، المحترقة، المشويّة على نار حاميّة أرسلتها طائرة أمريكيّة باسم (الولد الصغير). وقضى في تلك المحرقة النوويّة - على حين غفلة - أكثر من مائة وأربعين ألفا من أبناء آدم وحواء، كان أغلبهم يغط في نوم عميق. ومنهم من كان غارقا في حلم معسول. وبعده بثلاثة أيام، وفي التاسع من الشهر نفسه (أي بعد ثلاثة أيام) والسنة نفسها ألقت طائرة أمريكيّة قنبلة ثانية (الرجل البدين) على مدينة نكازاكي فأأودت بحياة أكثر من أربعة وسبعين ألفا من الأبرياء. ولمّا تزل آثارهما الماديّة والنفسيّة شاهدة على فظاعة تلك الجريمة.
و لو قدّر لنا تخيّل حجم تلك المأساة النوويّة وهولها لحظة وقوعها، وكيف تلقّتها ساكنة هيروشيما ونكازاكي، لأصابنا الخرس والجنون المزمن.
وقعت الواقعة الرهيبة، وها هي ذكراها هذه السنة تمرّ على العالم في جوّ من التوتّر السياسي وفي غمرة الحرب الأوكرانيّة / الروسيّة، وحروب بينيّة وانقلابات وأزمات غذائيّة وصحيّة في القارة السمراء.
و لأنّ من قام بإلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما ونكازاكي في بلاد الشمس المشرقة، هي الولايات المتحدة الأمريكيّة، القوّة العظمى على وجه الأرض - التي هي فوق القانون، ولا أحد يجرؤ على محاسبتها - فقد مرّت الذكرى الأليمة في صورة عناوين على الصحف والمواقع الالكترونيّة لا غير، وكأنّ الذكريات التي آلمت البشريّة حتى العظم، لم يعد يذكرها سوى الموتى، أو ذهبت ألامها وأحزانها مع الضحايا.
إن الشعوب تستطيع أن تغيّر الحكومات والسياسات إذا ارادت وعزمت. مثلما تغنى بذلك الشابي، بلبل تونس الخضراء، رحمه الله: إذا الشعب يوما اراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر.
و في خضم الحرب الروسيّة الأوكرانيّة المجنونة عاد الحديث عن إمكانيّة استعمال اللأسلحة النووية لحسم أطوار النصر. وهو حديث ثلّة من المجانين، هم من سلالة (الولد الصغير) و(الرجل البدين)، وكأنّ البشريّة المعاصرة لا تقرأ التاريخ، أو لا تفهم ما تقرأه من صفحات التاريخ. ولم تتعظ ممّا حدث في شهر أوت عام 1945 م في هيروشيما ونكازاكي. إن العمى السياسي أشد فتكا على البشر من العمى البيولوجي. وإنّ الشعوب التي سلّمت مقاليد مصيرها إلى سلالة من السياسيين الرعن، الحمقى، المغامرين، المتهوّرين، تشبه جماعة سلّمت دفّة سفينتها في محيط هائج إلى ربّان أعمى، أصمّ، أبكم.
و من مصلحة الشعوب، بل ومن واجبها، ومن أحكم الحكم، أن تنتفض ضدّ انتشار الأسلحة النووية التي تهدّد كوكبنا الأرضي بالدمار والخراب والفناء. وتتّخذ هذه الذكرى الأليمة محطّة للتغيير. إنّ المطالبة بإزالة الترسانة النوويّة والبيولوجيّة والكيماويّة، أهم من المطالبة بالديمقراطيّة، بل أولى من الحريّة. أليس السلم والمحافظة على الحق في الحياة من أولويات حقوق الإنسان.
لقد انتفضت شعوب الأرض في جميع قارات العالم، منذ القدم ضدّ الديكتاتوريّة والاستبداد والظلم والعبوديّة والاحتلال، فلماذا هي عاجزة اليوم عن الانتفاض ضد الأسلحة النوويّة المدّمرة للبشر والحيوان والبيئة وللحياة كلّها. إنّ مصير الشعوب بين يديها، وليس بين أيدي أفراد من هواة السياسة ومحترفيها تحت مسمّى الشرعيّة الدستوريّة وأليات سلطويّة للدولة المعاصرة، كـ: الانتخابات(الحرّة) أو المزيّفة أو الانقلابات العسكريّة.
كان من المفروض، وقد وقعت الواقعة منذ 78 سنة، وألقي(الولد الصغير) و(الرجل البدين) على رؤوس الأبرياء في هيروشيما ونكازاكي، أن يرسّم (مجلس الأمن) الذي مقّره في الدولة المعتديّة (الولايات المتّحدة الأمريكيّة) شهر أوت من كلّ سنة، كشهر لمناهضة إنتاج الأسلحة النوويّة وانتشارها، وذلك بإقامة تظاهرات ومظاهرات ومحاضرات في الساحات والشوارع والجامعات والمخيّمات والنوادي والملاعب الرياضيّة، وتصميم شعار مثل: (لا للأسلحة النوويّة) أو (أوقفوا إنتاج الأسلحة النوويّة) أو (دمّروا الأسلحة النوويّة)، ويوضع – هذا الشعار - على جميع أقمصة الرياضيين، في مختلف الرياضات الجماعيّة والفرديّة، ويوضع كملصقات على جدران المدن والبلدات وعلى وسائل النقل المختلفة. إنّنا في حاجة – اليوم، لا إذا، وقبل وقوع الكارثة العظمى – إلى المرور من مربّع الكلام إلى مربّع الفعل.
و السؤال المحيّر، فعلا، هل توارثت الدوّل النوويّة الغباء عن أسلافها ؟ لمن تُنتج هذه الترسانة النوويّة ؟ ليخبرنا عقلاء القوم عن نوع هذا العدو الأرضي أو الكوني وحجمه، والذي تخشى منه البشريّة ؟
إنّها فوبيا الوهم والغرور التي انتابت هذا الإنسان الغربي المعاصر عندما فقد صلته بالسماء، ورمى القيّم الروحيّة وراء ظهره.
لقد صرّح رئيس الوزراء الياباني (ابن الدولة الضحيّة) فوميو كيشيدا بمناسبة إحياء الذكرى الأليمة، قائلا: " إنّ الطريق إلى نزع السلاح النووي أصبح أكثر خطورة بسبب الانقسامات الدوليّة العميقة والتهديدات النووية من قبل روسيا " وأضاف: " من الضروري إعادة تنشيط الزخم الدولي نحو عالم خال من الأسلحة النووية مرّة أخرى ".
و مهما قيل عن مظاهر الخوف والقلق والرعب التي صار يعيشها الإنسان من جرّاء انتشار الأسلحة النوويّة بين أيدي الأقوياء من العقلاء والمجانين، فإنّ الخطر الفعليّ المحدق، والتوجّس من وقوعه حقيقة لا شكّ فيها.
و لا ندري ماذا يخبيء لنا المستقبل ؟ وكم نخشى أن نستيقظ يوما ما، على فجر جهنّمي، وقد انبلجت ظلمته بفعل لهيب قنابله الذريّة، لا بنور شمس الصباح المشرقة ونسائم الفجر العليلة وزقزقة العصافير وهديل الحمائم البيضاء.
يا شعوب العالم، في الغرب والشرق، انتفضي ضدّ حفّاري القبور، فإنّ وجودك السلمي مهدّد، وهو بين يدي (ولد صغير آخر) لا عقل له أو(رجل بدين) لا قلب له.
***
بقلم الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر