أقلام فكرية
غالب المسعودي.. التراجعات الإبستيمولوجية واغتيال العقل
الحلول الهروبية في الفكر العربي
الأزمة البنيوية وجدلية الاستقالة المعرفية
يعيش الفكر العربي المعاصر حالة من الاضطراب الجذري، وهي حالة لا يمكن اختزالها في مجرد تعثرٍ للمشاريع التنموية أو توالٍ للإخفاقات السياسية؛ بل هي في جوهرها أزمة "إبستيمولوجية" عميقة، تضرب بجذورها في البنية التكوينية للعقل العربي وآليات إنتاجه للمعرفة. إن الإشكالية المركزية هنا تتجاوز السرديات التاريخية التقليدية [1]، لتبحث في التحولات البنيوية التي أفضت إلى تآكل "البعد الفلسفي" للقضية المعرفية، وذلك عبر الانزياح التدريجي والممنهج من نظام "البرهان" -القائم على العقلانية والسببية والتحليل المنطقي- إلى نظام "البيان" المرتهن كلياً لسلطة النص وسحر اللغة.
لم يكن هذا التحول خياراً ثقافياً عفوياً، بل جاء تعبيراً عن عجزٍ بنيوي في مواجهة تحديات الحداثة الغربية وتفكيك موروث التخلف. فبدلاً من تطوير "نسق فلسفي" متماسك قادر على الاشتباك النقدي مع الواقع، جنح العقل العربي -في تمظهراته الرومانسية- نحو "النزوعات الهروبية"، مستبدلاً الصرامة المنطقية بالسيولة العاطفية، والمفهوم الفلسفي الدقيق بالصورة الشعرية الضبابية. هذا النكوص المعرفي أدى إلى ما أسماه برهان غليون "اغتيال العقل" [2]، وما وصفه محمد عابد الجابري بـ "الاستقالة المعرفية"؛ وهي حالة لا تزال تداعياتها تُحكِم قبضتها على العقل العربي المعاصر، مانعةً إياه من إنتاج معرفة كونية أو تأسيس حداثة أصيلة. [3]
العقل الرومانسي: استلاب الأسطورة ونكران التاريخ
يستخدم المفكر عبد الله العروي مصطلح "العقل الرومانسي" لتوصيف تلك الذهنية العاجزة عن التعامل مع الواقع بقوانينه التاريخية والمادية، فتلجأ إلى القفز فوقه أو تجاوزه قسراً. وعوضاً عن التحليل العقلاني الموضوعي لأسباب التخلف (الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية)، يجنح العقل الرومانسي نحو تفسيرات "ماهوية"، أو "تآمرية"، أو "غيبية". إنه يهرب من "واقعية البؤس" إلى رحابة "مجال الحلم"، سواء كان حلم استعادة الماضي المجيد، أو حلم المستقبل اليوتوبي (عبر الأيديولوجيات الثورية الشعاراتية).
تشير الدراسات التحليلية لأدب الأطفال والمرويات الشعبية العربية إلى هيمنة هذه "الحلول الهروبية"؛ حيث لا يفكك البطل إشكالياته بالتخطيط والعمل التراكمي، بل عبر المصادفة أو المساعدة الميتافيزيقية [5]. يعكس هذا النمط بنية ذهنية جمعية تفضل "الخلاص الإعجازي" على الإنجاز العقلاني. وتكتمل دائرة هذا الاغتيال عبر التبعية التي تستورد منتجات الحداثة الغربية (التكنولوجيا والنظم الإدارية) دون استيراد روحها النقدية الفلسفية؛ فينتج عن ذلك "تحديث رثّ"، يخلق هياكل تبدو في ظاهرها حديثة، لكنها تُدار بعقلية تقليدية وعصبية قبلية. تؤدي هذه الدينامية حتماً إلى عزل المثقف العقلاني وتهميشه، أو تحويله إلى مجرد "موظف أيديولوجي" يبرر للسلطة أو للجماهير أوهامهم، بدلاً من ممارسة دوره النقدي.
التكفير: سلاح الإبادة المعرفية الرمزية
يمثل "التكفير" الأداة الأكثر عنفاً في عملية الاغتيال الرمزي للعقل. إنه ليس حكماً فقهياً فحسب، بل هو قرار سياسي واجتماعي بـ "الحجر على الفكر". فعندما يتم وسم أي محاولة لاستخدام البرهان أو التفلسف بأنها "زندقة" أو "غزو فكري"، يُغلق المجال العام أمام أي إمكانية للحوار العقلاني [6]. يصبح العقل "متهماً" حتى تثبت براءته عبر الانصياع والتسليم. يلغي التكفير مبدأ "النسبية" و"الاحتمالية" الذي يقوم عليه البرهان العلمي، ويكرّس مبدأ "الحقيقة المطلقة الواحدة" التي يحتكرها طرف دون غيره؛ مما يحول المجتمع من ساحة للحوار الفكري الخلاق إلى ساحة حرب باردة -أو ساخنة- تهدد السلم الأهلي والفكري.
انهيار المؤسسة الأكاديمية وصعود الشعبوية المعرفية
لم تسلم الجامعة التي تُفترض أنها الحصن الأخير للعقل، من عدوى "الاستقالة المعرفية". إذ تشير المعطيات إلى تراجع فادح في القيمة المعرفية "للشهادة العلمية" وللبحث الأكاديمي في العالم العربي. لقد تحولت الجامعات من مراكز لإنتاج المعرفة البرهانية إلى مؤسسات لمنح ألقاب وجاهة اجتماعية فارغة، في انتصار واضح لمنطق "الكم" على "الكيف"، ولمنطق "العلاقات" على "الكفاءات". [7]
وفي عصر الفضاءات الرقمية المفتوحة، تصاعدت ظاهرة "الشعبوية المعرفية"، حيث تمت مساواة الآراء الانطباعية لغير المتخصصين بالحقائق العلمية المنهجية، وبات العقل الأكاديمي الرصين يُهاجم بوصفه "منعزلاً" أو "نخبوياً". هذه البيئة الطاردة تدفع ما تبقى من العقول البرهانية إما إلى الهجرة (استقالة جغرافية) أو الصمت (استقالة وجودية).
تداعيات السيولة العاطفية واقتصاديات الخرافة
إن غياب "النسق الفلسفي البنيوي" القادر على تفكيك التخلف لم يكن بلا ثمن؛ فالفراغ الذي تركه غياب البرهان ملأته "السيولة العاطفية" و"الصور الشعرية"، مما أدى إلى نتائج كارثية ملموسة.
على المستوى التاريخي:
بسبب غياب المنهج التراكمي، لا يبني الفكر العربي على منجزاته السابقة. كل جيل يبدأ من الصفر، أو يعيد اجترار معارك الماضي دون حسم، مما يخلق زمناً عربياً "راكدًا" ودائرياً.
على المستوى السياسي:
في غياب التحليل العقلاني القائم على المصالح وتوازن القوى، تتحول السياسة إلى "وعظ أخلاقي" أو "حماسة شعرية". وكلا الخطابين يعجزان عن إدارة الدولة الحديثة، وينتهيان بكوارث يتم تبريرها لاحقاً بمنطق "المؤامرة".
على المستوى الاجتماعي:
انتشرت ما يمكن تسميته بـ "اقتصاديات الخرافة"؛ حيث تراجع الطب النفسي والعلوم الاجتماعية لصالح الممارسات الغيبية واستسهال الحلول، وهذا ليس مجرد تخلف شعبي، بل نتيجة مباشرة لاستقالة العقل النخبوي.
اللغة كحجاب للواقع
لقد أمست اللغة العربية المعاصرة، تحت وطأة البلاغة القديمة والشعرية المفرطة، أداة "للإطراب" و"الإخفاء" بدلاً من الكشف والبيان [8]. يغرق الخطاب السياسي والثقافي في الإنشاء والمحسنات البديعية للتعمية على غياب المضمون؛ فالنظام البياني لا يزال يولد ألفاظاً ضخمة لا يقابلها واقع ملموس.
نحو "رشدية جديدة" أو استمرار التيه
إن الانتقال العكسي من "البرهان" إلى "البيان"، ومن "المفهوم" إلى "الصورة"، يمثل جوهر المأساة الفكرية العربية. لقد أدى هذا "الاغتيال الرمزي" إلى تجريد الإنسان العربي من سلاحه الوحيد القادر على ترويض التاريخ: العقل النقدي. وعليه، فإن أي محاولة للتحديث تتجاهل هذا البعد الإبستمولوجي محكومٌ عليها بالفشل. فلا ديمقراطية مع عقل "بياني" يؤمن بالقطب الأوحد، ولا اقتصاد صناعي مع عقلية سحرية، ولا مجتمع معرفة مع عقل "رومانسي" يهرب من الواقع.
إن الخروج من حالة "الاستقالة المعرفية" يتطلب تدشين "ثورة إبستيمولوجية مضادة" -أو ما يمكن تسميته "رشدية جديدة"- تعيد الاعتبار لركيزتين أساسيتين:
أسبقية الواقع على الصورة: فالمفاهيم يجب أن تُنحت من صخر الواقع المعاش، لا أن تُستجلب من سحب الخيال.
أسبقية البرهان على البيان: تكريس البرهان كآلية وحيدة للحسم في المجال العام، والسياسة، والتعليم. بدون هذه العودة الشاقة والمؤلمة إلى "البرهان"، سيظل الفكر العربي يدور في حلقة مفرغة من "الحلول الهروبية"، معيداً إنتاج تخلفه بآليات حديثة، ومستقيلاً من المشاركة الفاعلة في صنع الحضارة الإنسانية المعاصرة.
***
غالب المسعودي
....................
الهوامش والمراجع
[1] للمزيد حول جذور التخلف، انظر: "لماذا تخلف العرب؟"، موقع مأرب برس (Marebpress.com). [2] يُنظر: "اغتيال العقل... والثقافة الشعبوية"، جريدة الاتحاد (Aletihad.ae). [3] حول إشكاليات الحداثة والهوية، يُنظر: "الحداثة وما بعد الحداثة وسؤال الهوية"، ICLS 2016. [4] للاستزادة حول النماذج الأدبية وعلاقتها بالوعي، يُنظر: "هيلين وتراث فاوست"، مؤسسة هنداوي (Hindawi.org). [5] دراسات حول التنشئة، يُنظر: "أدب الأطفال وثقافتهم"، منصة المنهل (Almanhal.com). [6] حول مخاطر إغلاق العقل، يُنظر: "العقل المغلق ومخاطر سياسة التكفير"، مجلة الرافد (Alraafed.com). [7] عن أزمة التعليم العالي، يُنظر: "الجامعة في زمن الشك. من يحمي العقل من الاغتيال الرمزي؟"، مدار 21 (Madar21.com). [8] حول البنية الفنية واللغوية، يُنظر: "حداثة البناء الفني"، جامعة جيجل. (dspace.univ-jijel.dz)






