أقلام فكرية

غالب المسعودي: اقتصاديات الهامش الأقصى: مقاربة فلسفية نقدية

يمثل توسع "اقتصاد القرافة" في المدن العربية الكبرى إحدى أبرز المعضلات الاجتماعية والاقتصادية. تتطلب هذه الظاهرة مقاربة تحليلية تتجاوز الوصف السطحي للفقر. إن دراسة هذه الظاهرة، بوصفها "تقنية" إدارية اضطرارية، تمثل أداة نقدية جذرية للفكر الاقتصادي السائد وللسياسات الكلية المعتمدة في الإدارة الحضرية والاجتماعية. نسعى هنا لتقديم تشريح هيكلي ومقاربة فلسفية لاقتصاديات الهامش الأقصى، بهدف استخلاص الدروس حول آليات البقاء والإنتاج في ظل الإقصاء المؤسساتي.

المفهوم التأسيسي: المقبرة كـ "هامش أقصى"

لطالما تم التعامل مع المجالات المخصصة لدفن الأموات ضمن إطار الثاناتولوجيا (علم دراسة الموت) أو العلوم الاجتماعية التقليدية (كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ). إلا أن الجغرافيا، بوصفها علماً يركز على العلاقة التفاعلية بين المجتمع والمجال، لم تُعطِ هذه الظاهرة ما تستحقه من اهتمام، على الرغم من حضورها القوي في المشهد الجغرافي، سواء في الأرياف أو المدن.

إن المقبرة، خاصةً في السياق الحضري المكتظ، ليست مجرد مشكلة اجتماعية ناتجة عن الفقر، بل هي تعبير مكاني لفشل إدارة الندرة:

 ندرة السكن الرسمي وندرة القيمة القانونية للوجود. يمثل هذا المجال "الهامش الأقصى"، لكونه منطقة مُستبعدة قانونياً (مخصصة للأموات) ولكنه مأهول بأجيال متعاقبة من الأحياء. هذا التناقض يولد صراعاً حاداً بسبب الازدواجية في القيمة؛ فالمقبرة لها قيمة ودلالات روحانية في مختلف المجتمعات، لكنها تخضع أيضاً لرهانات عقارية متسارعة في محيطها.

تُبرز هذه الظاهرة قصور فكرة مركزية الدولة والسلطة التي تتخذ من العاصمة مقراً لها، لتصبح البيئات المحيطة بمثابة أطراف أو "هوامش" مُهملة. عندما يتحول هذا الهامش إلى مكان مأهول بشكل دائم، يدفعنا ذلك إلى التساؤل الفلسفي الذي طرحه جاك دريدا: "هل يمكن لهذا النصّ الذي بين أيدينا أن يصبح هامشاً لهامش؟". أي، هل يمكن لهذا المجال المستبعد (المقبرة) أن يصبح مستودعاً لا ينضب للنقد الوجودي والفلسفي، بدلاً من كونه مجرد أمر ثانوي؟ هذا التحول من "اللامكان" إلى "مكان البقاء" يمثل أول تقنية إدارية اضطرارية؛ فالسكان "يغزون" مجال الموت لحل مشكلة الندرة الوجودية للحياة.

التشريح الهيكلي لـ "تقنيات سكان المقابر" الاقتصادية

تُعرّف "تقنيات سكان المقابر" بأنها مجموعة من الاستراتيجيات اللامركزية والأنشطة الاقتصادية غير الرسمية التي يتبناها السكان للبقاء على قيد الحياة. تتحول هذه التقنيات مع الوقت إلى نظم إدارية موازية تدير شؤون الأمن والخدمات والعقار في منطقة المقابر.

يمثل اقتصاد الظل مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تتم خارج الإطار القانوني والتنظيمي للدولة، ويكون الهدف الأساسي منها غالباً هو تجنب الالتزامات القانونية والضريبية والبيروقراطية. بالنسبة لسكان المقابر، يمثل هذا الاقتصاد ملاذاً اضطرارياً ناتجاً عن الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من الأطر والسياسات الرسمية.

نقد مركزية الدولة ورأسمالية النخبة

إن المقاربة الفلسفية تتطلب هنا تحويل تقنية البقاء إلى أداة نقدية ضد المركزية الفكرية. فالاقتصاد الكلي يرى الفقر كعجز في الأرقام، لكن اقتصاديات المقابر تكشف أن الفقر المدقع هو نتاج إدارة سياسية للمجال؛ حيث يُسمح للمتنفذين بالاستيلاء على الأراضي، ويقتصر دور الدولة على الإدارة الأمنية/البوليسية لتنظيم الحياة في الشقين الرسمي وغير الرسمي. هذه الإدارة تغذي أسباب الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي وتثبت أن النماذج الاقتصادية السائدة تنتج الهامش.

يعد مفهوم الملكية الخاصة حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، ويُنظر إليه على أنه أساس وجود القوانين لاحتواء الصراع الناتج عن الندرة. إلا أن تقنية "وضع اليد" في "القرافة" تقلب هذا المفهوم رأساً على عقب. ففي هذا الهامش، لم تعد القوانين موجودة لتنظيم الندرة بين الجميع، بل لحماية التراكم الرأسمالي الذي أدى إلى طرد الفقراء من الأراضي.

عندما يضطر الفقير للعيش في مكان مخصص للأموات، ويجد أن "أرض الله الواسعة" مملوكة، ويقوم المنفذون بإزالة بيته إذا أقامه عليها، فإن هذا يمثل إخفاقاً جذرياً للقانون كنظام عادل لتوزيع الموارد. إن الصراع الذي ينشأ في "القرافة" ليس صراعاً تقليدياً على موارد محدودة، بل هو صراع هيكلي بين الدولة والنخبة المالكة والأفراد المستبعدين الذين يمارسون "وضع اليد" كشكل من أشكال المقاومة الاقتصادية والحق في الوجود.

بالتوازي مع النقد القانوني، هناك نقد أخلاقي وديني لظاهرة السكن في المقابر، حيث يرى الفقهاء أن سكن الحارس أو العمال داخل المقبرة "منكر وإهانة للقبور" لما يترتب عليه من استيحاء وبطلان للصلاة. إلا أن هذا النقد الشرعي، على أهميته، يجب موازنته بالتبرير الوجودي للسكن؛ وهو الحق في الحياة الذي أُغلق أمامه الباب القانوني والاجتماعي.

 اقتصاد الوجود والقيمة غير المكتسبة

تفرض المقاربة الفلسفية لـ "اقتصاديات المقابر" إعادة التفكير في قيمة الإنسان. يمكن تطبيق المفهوم الفلسفي للقيمة، حيث يواجه الإنسان صراعاً بين قيمته الوجودية المجرّدة وقيمته المكتسبة (الاقتصادية). العيش في المقبرة هو الدليل القاطع على تجاهل النظام الاقتصادي للقيمة الوجودية المجرّدة للإنسان، إذ يُنظر إليهم على أنهم "أحياء بدرجة أموات".

إن "تقنيات سكان المقابر" (البقاء والتكيف والتكافل غير الرسمي) تشكل مقاومة عملية لنبوءة فوكو حول "موت الإنسان". على الرغم من الظروف القاسية التي تزيد من معدلات الوفيات والأمراض، فإن استمرارهم في الحياة وتشكيل شبكات تكافل داخلية هو إعلان لقيمة البقاء والكرامة الإنسانية ورفض للاستبعاد القصري. هذه المقاربة النقدية تستلزم تحليلاً مقارناً لمرتكزات الفكر الاقتصادي السائد في مواجهة واقع الهامش.

استخلاص المبادئ الجديدة للإدارة الاقتصادية النقدية

تستوجب "اقتصاديات المقابر" تبني مبادئ جديدة للإدارة الاقتصادية النقدية، خارجة عن التيار الرئيسي، ترتكز على ما يلي:

مبدأ الاعتراف الوجودي أولاً: يجب أن تبدأ أي سياسة اقتصادية للحد من الفقر بالاعتراف بالقيمة الوجودية المجرّدة للإنسان. يجب التوقف عن التعامل مع الفقراء كأرقام أو كـ "مستبعدين طوعياً أو قصرياً"، بل ككيانات اقتصادية تحتاج إلى إطار قانوني وخدمي يسمح لها بالإنتاج والعيش بكرامة.

مبدأ الجغرافيا الاقتصادية الشاملة: يجب دمج قضايا الرهان العقاري حول مناطق الدفن ضمن التخطيط الاقتصادي الكلي للمدن. هذا يضمن عدم إهمال أي مجال جغرافي، ويعالج التناقض القائم بين القيمة الروحانية للمقابر والضغط الاستثماري العقاري المتزايد عليها. يجب أن يُنظر إلى المساحات العمرانية من منظور التنمية الشاملة بدلاً من مجرد التركيز على المناطق المُدِرّة للربح.

إن تحليل "اقتصاديات سكان المقابر" يكشف أن الظاهرة ليست فقط نتيجة لارتفاع معدلات الفقر، بل هي انعكاس جذري لفشل الإدارة الاقتصادية المركزية في تحقيق العدالة التوزيعية والاجتماعية.

"اقتصاديات المقابر" كمرآة للفساد المؤسساتي

تُعد "تقنيات سكان المقابر" (المرونة في إدارة الموارد) أنظمة اقتصادية اضطرارية. هذه الأنظمة أنتجها الظلم، وتستمد شرعيتها الوجودية من إهمال الدولة وتجاهل الفكر الاقتصادي السائد لمعيار القيمة الوجودية للإنسان. إن استمرار هذه الظاهرة على مدى عقود، مع تعاقب الأجيال داخلها، ليس دليلاً على مجرد فقر عابر، بل هو مرآة تعكس الفشل الهيكلي العميق في تطبيق العدالة في الإدارة الاقتصادية الكلية، وفشل الدولة في حماية مواطنيها من الرأسمالية المتوحشة والاستيلاء على الموارد. لا يمكن علاج هذه الظاهرة إلا بتبني مقاربة نقدية تضع قيمة الإنسان الوجودية قبل قيمة الناتج المكتسب.

***

كتابة غالب المسعودي

..........................

المراجع

اﻟﻣﻘﺎﺑر اﻟﻣﺟﺎﻻت اﻟﻣﺧﺻﺻﺔ ﻣن ﻣﻧظور ﺟﻐراﻓﻲ دراﺳﺔ ﺑﺑﻟﯾوﻏ revues.imist.ma)

عياد، هاني جرجس. "في عالم خارج نطاق الحياة: سكان القبور أحياء بدرجة أموات" ahewar.org

أرشيف مجلة القافلة. "الهامش" (متاح على: qafilaharchive.com)

منصة المستثمر. "اقتصاد الظل: مدخل شامل" investor.com)

شبكة الألوكة. "سكن حارس وعمال المقبرة" (متاح على: alukah.net)

ويكيبيديا. "مدارس الفكر الاقتصادي" (متاح على: ar.wikipedia.org)

منظمة الأمم المتحدة (UN). "سياسات الاقتصاد الكلى والنمو في المنطقة العربية" un.org

 

في المثقف اليوم