أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نقد موضوعية العلم

يفحص الفيزيائي والفيلسوف الاسترالي آلان تشالمرز Alan chalmers في كتابه المدرسي الصادرعام 1976 (ما هو هذا الشيء الذي يُسمى علما؟) كيف تُكتسب المعرفة العلمية ويتم التحقق من صحتها، عبر النظر الى الطرق التي تبرر وتدعم التحقيق العلمي. هو يعرض ويستطلع الفكرة بان العلم يتأسس على اكتساب المعرفة الموضوعية من خلال الملاحظة المباشرة، وان البيانات الحسية تعمل كحجر أساس يُبنى عليها الفهم العلمي. بعد ذلك هو يصف بعض الانتقادات لهذه الصورة، ومختلف المحاولات من جانب المفكرين المعاصرين لبناء نموذج اكثر دقة لتطوير العلم. الاطروحة المركزية لهذا المقال هو ان الملاحظات في العلم ليست موضوعية خالصة: انها تتأثر بشكل بارز بالاطر النظرية، والمعرفة القبلية، والتحيزات الذاتية التي تحدد كيفية ادراك وتفسير البيانات.

الرؤية التقليدية للعلم

الرؤية التقليدية هي ان العلم يتأسس على حقائق مُلاحظة يتم الحصول عليها من خلال التجربة الحسية المباشرة. هذه الملاحظات هي موضوعية: حقائق لا جدال فيها، يمكن التحقق منها، مستقلة عن نقاط ضعف المراقب ويمكن الوصول اليها مباشرة عن طريق الحواس.

هذا المستوى غير المسبوق من الموضوعية، يُعتقد على نطاق واسع انه يميز العلم عن الاشكال الاخرى للمعرفة بما يجعله منارة لليقين في عالم ممتليء بالتحيزات الشخصية والآراء التي لا أساس لها. انه يبيّن ان الطريقة العلمية هي طريق ثابت للحقيقة، خال من فوضى المنظورات الفردية.

وكما يلاحظ تشالمرز، ان هذا التصور جذّاب لأنه يعِد بفهم موثوق وغير غامض للعالم الطبيعي. لكنه يبدأ بإماطة اللثام عن هذا التصور المبسط من خلال الخوض عميقا في طبيعة الملاحظة. اذا كانت جميع التحقيقات العلمية مرتكزة على ما نستطيع ملاحظته، عندئذ من المهم جدا فحص موثوقية وموضوعية هذه الملاحظات. هو يستخدم مفهوم theory-laden الذي تكون فيه الملاحظة مثقلة بالنظريات، واذا كان الامر هكذا، فان هذا قد يُضعف وظيفة الملاحظة كأساس محايد للعلم. عندما نلاحظ ظاهرة معينة، كيف نتأكد ان ما ندركه هو واقع موضوعي وليس تفسيرا متأثرا بمعرفتنا القبلية والتزاماتنا النظرية؟

ان فكرة "العبء النظري" تشير الى ان ما يلاحظه العلماء يتحدد كثيرا بالاطر النظرية التي يؤمنون بها. في الحقيقة، فيلسوف العلم، نورود رسل هانسن Norwood Russell Hanson جادل بان "هناك في الاشياء ما هو اكثر مما تراه العين"(نماذج الاكتشاف، 1958، ص6)، بما يعني ان الملاحظة هي عملية نشطة، تستلزم تفسيرا. تشالمرز ذاته يؤكد على ان الملاحظات يتم غربلتها من خلال العدسات المعرفية التي تشكلها معتقداتنا ونظرياتنا الحالية. هذا يعني ان اثنين من العلماء يلاحظان نفس الظاهرة ربما يفسرانها بشكل مختلف طبقا لخلفيتهما النظرية.

في كتابه (بنية الثورات العلمية، 1962)، يتوسع توماس كون Thomas Kuhn في فكرة "ثقل النظرية" عبر ادخال مفهوم النموذج او البراديم paradigms وهو اطار من التفكير يرشد البحث العلمي، مثل نموذج التطور، او ميكانيكا الكم، او ميكانيكا نيوتن. هذه النماذج لا تتضمن فقط النظريات، وانما ايضا الطرق، المعايير، والقيم المشتركة لدى الجالية العلمية التي تستخدمها. طبقا لتوماس كون، العلم الطبيعي يعمل وفق هذه النماذج، والملاحظات يتم تفسيرها لتتلائم مع البنية النظرية للنموذج. بعد عقود وحتى قرون، يؤدي ثقل اللامألوف والتفسيرات المفرطة في التعقيد ضمن النموذج الى إحداث تحول الى نموذج جديد – وهو ما يسميه الثورة العلمية . بعد ذلك، يستمر العلم الطبيعي ضمن نموذج جديد وهكذا تتكرر العملية.

البعض ربما يجادل بان العلم يستخدم طرقا لتقليل التحيزات الذاتية، مثل القياسات الموحدة، والتجارب المتحكم بها، وعمليات مراجعة الأقران. هذه الممارسات تهدف الى ضمان ان تكون الملاحظات موثوقة وقابلة للتكرار وتعزز الموضوعية. لكن مع ان هذه الطرق تعزز صرامة التحقيق العلمي، لكنها يمكنها فقط ازالة جزء من تأثير النظريات القائمة على الملاحظة. وكما يزعم بول فايرابند Paul Feyerabend في (ضد الطريقة، 1975)، ان القواعد الميثدولوجية ذاتها تتأثر بالمنظورات النظرية، وان الخضوع القوي لميثدولوجيات صارمة ربما يعيق التقدم العلمي من خلال كبح وجهات النظر البديلة.

ادراك ان الملاحظات هي مثقلة بالنظرية له مضامين عميقة للعلم. انه يتحدى الرؤية التقليدية بان العلم هو موضوعي خالص، ويستدعي المزيد من الفهم الدقيق للطريقة التي تُبنى بها المعرفة. التحقيق العلمي يصبح ليس فقط مجموعة واضحة من الحقائق وانما عملية ديناميكية تستلزم تفسيرا وإعادة تفسير ضمن الاطر النظرية.

دراسة حالة: ملاحظات غاليلو

مثال يسلط الضوء على الملاحظات المثقلة بالنظرية هو استعمال غاليلو للتلسكوب لملاحظة أقمار كوكب المشتري. تفسير غاليلو تأثر بدعمه لمركزية الشمس لكوبرنيكوس – فكرة ان الشمس هي مركز النظام الشمسي (الرسول الفلكي، 1610). نقاد غاليلو الذين يتبعون النموذج التقليدي لمركزية الارض، اما أهملوا ملاحظاته او فسروها بشكل مختلف. هذا يبيّن كيف ان الالتزامات النظرية يمكن ان تؤثر ليس فقط على تفسير البيانات وانما ايضا على قبول الدليل التجريبي. قدرة غاليلو على تفسير ملاحظاته تأثرت بعمق بقبوله السابق لنموذج كوبرنيكوس، في ان الكواكب جميعها تدور حول الشمس. هو لم يسجل فقط بيانات بصرية من خلال تلسكوبه، هو فسر ما شاهد. تشالمرز يؤكد على ان ملاحظات غاليلو لم تكن حقائق محايدة تنتظر الاكتشاف وانما كانت مشبعة بالأهمية النظرية . بدون نظرية مركزية الشمس كإطار، لكانت حركة اقمار المشتري اُهملت او فسرت بشكل مختلف. بعض من معاصري غاليلو مثل كريستوف كلافيوس كان مشككا بملاحظاته وهو ما يوضح جيدا كيف تؤثر الالتزامات النظرية في تشكيل الادراك. رفضْ معاصرو غاليلو لقبول وجود اقمار في المشتري لم يكن ناتجا عن فشل في الملاحظة، وانما نتيجة لملاحظة تتعارض مع رؤيتهم العالمية المترسخة حول مركزية الارض.

هذا المثال يؤكد فكرة ان الملاحظات في العلم ليست خالية من التأثير النظري. من المهم جدا فهم ان ادراك الانسان هو نشط بطبيعته. اولاً، أدمغتنا لا تتلقى سلبيا بيانات حسية، وانما تنظمها بنشاط وتفسرها بالارتكازعلى معرفة قبلية وتوقعات. علم النفس المعرفي ايضا يشير الى ان التصور او الادراك هو عملية دمج معلومات جديدة مع بنيات معرفية موجودة. ربما يجادل احد ان استخدام غاليلو للدليل التجريبي بفاعلية يكون قد تحدّى النموذج المركزي السائد وفي النهاية اطاح به ، مبيّنا قوة الملاحظة. مع ذلك، هذا سيتجاهل المقاومة الاولية التي واجهتها استنتاجاته بسبب التحيزات النظرية السائدة. انها ليست مجرد الملاحظات ذاتها وانما التحول التدريجي في القبول النظري هو الذي قاد الى الهيمنة النهائية لنموذج مركزية الشمس.

عندما ينظر الباحثون الأقران من خلال المكروسكوب الى اي بيانات، فان ما يرونه يتأثر بعمق بتدريبهم، وبالخلفية النظرية والتوقعات. فمثلا، في بداية القرن العشرين، كان تفسير الاطياف الذرية atomic spectra مرتبطا بعمق بتطور نظرية ميكانيكا الكوانتم. بدون ذلك الاطار النظري، لكانت خطوط الاطياف المُلاحظة بقيت بلا توضيح. كل هذه الامثلة تتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي ببساطة تنتظر اكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، هي تُظهر ان الفهم في العلم يبرز من تفاعل معقد بين البيانات التجريبية والتفسير النظري. الإعتراف بهذا التفاعل هو هام جدا لأنه يعترف بالعناصر الانسانية في التحقيق العلمي، والذي يتضمن الابداعية، الحدس، والذاتية. وكما جادل فايرابند، ان الخضوع لقواعد ميثدولوجية صارمة يمكن احيانا ان يعرقل التقدم العلمي عبر كبح الاتجاهات المبدعة والغير تقليدية.

نقد التجريبية والوضعية

التجريبية – الرؤية بان المعرفة اساسا تبرز من تجربة حسية – لها تاريخ عميق. التجريبيان البارزان المبكران جون لوك (1632-1704) وديفد هيوم (1711- 76) جادلا بان الذهن البشري كصفحة بيضاء وان كل المعرفة تُكتسب من خلال المدخلات الحسية. هذا المنظور يؤكد بان كل الفهم يبرز من تفاعل مباشر مع العالم. ما نرى ونلمس ونسمع ونقيس يكوّن الاساس لكل المعرفة الموثوقة. بساطة هذه الفكرة جذابة، لأنها تقترح مسار واضح للحقيقة عبر الوثوق بالدليل الملاحظ والملموس. في بداية القرن العشرين، الوضعيون المنطقيون مثل آير A.J.Ayer توسعوا على ضوء المبادئ التجريبية عبر الادّعاء انه فقط البيانات التي يتم التحقق منها تجريبيا او منطقيا هي ذات معنى. هم سعوا الى ازالة الميتافيزيقا والتركيز بصرامة على افتراضات يمكن اختبارها اما من خلال الملاحظة المباشرة او من خلال التحليل المنطقي. هذه الحركة عززت الايمان بان المعرفة العلمية بُنيت على حقائق موضوعية مشتقة من تجربة حسية.

مع ذلك، تأكيدات التجريبي والوضعي على البيانات الحسية كمصدر وحيد للمعرفة تعرضت للنقد لتبسيطها تعقيدية الادراك. احدى التحديات الهامة هنا هو الاعتراف بان أعضائنا الحسية ليست مجرد مستقبلات سلبية للمحفزات الخارجية، وانما استجاباتها للحوافز تُفسر بنشاط من جانب الدماغ. وكما رأينا، المعرفة القبلية، التوقعات والاطر النظرية تؤثر على ما ندرك كحقائق. هذا يعني ان البيانات الحسية ليست موضوعية وانما تتشكل بواسطة بنائنا المعرفي. هذا الدور النشط للتفسير المعرفي في اكتساب المعرفة يتحدى رؤى كل من التجريبية والوضعية. علاوة على ذلك، في (بنية الثورات العلمية) يجادل كون ان البرادايم التي يعمل ضمنها العلم تعرّف المشاكل العلمية "الشرعية" وحلولها: ملاحظات تُفسر لتعزيز البردايم السائد، وما هو شاذ ربما يُهمل او يتم تجاهله حتى يحدث تحوّل في البردايم والذي يستطيع دمج واستيعاب تلك الشواذ . هذه الفكرة من التقدم العلمي تتحدى رؤية الوضعيين المنطقيين بان العلم يتقدم عبر تراكم حقائق موضوعية.

 بحث سايكولوجي آخر ايضا يؤيد الادّعاء بان الادراك هو عملية نشطة. فمثلا، الدراسات في علم النفس المعرفي تُظهر ان ما يدركه الفرد يتأثر باطر ونماذج ذهنية تطورت من تجربة قبلية. هذا يشير الى انه حتى عند مستوى الادراك الاولي، أذهاننا تقوم بتنقية وتفسير البيانات الحسية.

مرة اخرى، مؤيدو التجريبية ربما يدّعون ان الميثدولوجيات العلمية تُصمم لتخفيف التحيزات الذاتية. تقنيات مثل التجارب المُتحكم فيها والقياس النمطي ومراجعة الأقران تعزز الموضوعية، وتكرار التجربة، والوسائل الدقيقة تُصمم لتعزيز موثوقية الملاحظات. مع ذلك، بينما هذه الممارسات بلاشك تقوي العملية العلمية، لكنها يمكنها جزئيا فقط ازالة تأثير الاطر النظرية على الملاحظة.

حجة اخرى من جانب التجريبيين الخلّص هي ان نجاح التنبؤ العلمي يعطي مصداقية الى فكرة موضوعية الطريقة التجريبية. النظريات العلمية المرتكزة على بيانات تجريبية قادت في الحقيقة الى تقدم تكنلوجي هائل وتنبؤات دقيقة ومذهلة حول الظاهرة الطبيعية. لكن وكما ناقش كواين W V O Quine في (اثنان من دوغما التجريبية، المراجعة الفلسفية، 60:1، 1951)، عدم تقريرية النظرية (الدليل المتوفر غير كاف لتثبيت نظرية علمية معينة) بواسطة البيانات يعني ان عدة نظريات يمكن ان تكون منسجمة مع نفس المجموعة من الملاحظات. هذا يعني ان نظرية الخيار تستلزم معايير تتجاوز الملاحظة التجريبية وحدها مثل معايير البساطة، التماسك، والقوة التوضيحية.

هذه الانتقادات تشير الى ان اكتساب المعرفة العلمية يستلزم تفاعلا معقدا بين البيانات الحسية والتفسير المعرفي. الاعتراف بهذه التعقيدية لا يقلل من قيمة الدليل التجريبي وانما يدعو الى تقدير أكثر دقة لكيفية بناء المعرفة العلمية.

نزعة ادّعاءات المُلاحظة لإرتكاب الخطأ

هناك سوء تصوّر سائد هو ان الملاحظات بسبب امكانية الوصول اليها مباشرة عبر الحواس، تعطي حقائق لا خلاف فيها حول العالم. لكن تشالمرز يرى ان الملاحظات ليست حقائق محصنة من الخطأ، انها مؤقتة وعرضة للمراجعة. هي كالصباغة المتقطعة والغير منسجمة في اللوحة الواسعة للمعرفة العلمية، تتأثر بتحيزات المراقب ومحدداته والوضع الحالي للفهم النظري. هو يستعمل استعارة محاولة قراءة علامة شارع بنظارات ضبابية لتوضيح الكيفية التي يتأثر بها ادراكنا بعدسات الادراك. كما ان النظارات الضبابية تحجب الرؤية، كذلك الافكار المتصورة مسبقا والالتزامات النظرية يمكنها ان تشوه تفسيرنا للبيانات الحسية. هذا ينسجم مع هانسن الذي جادل بان كل الملاحظات مثقلة بالنظرية وان ما نراه يتأثر بما نتوقع رؤيته. فهم هشاشة ادّعاءات الملاحظة هام جدا لأنه يتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي تنتظر فقط ليأتي احد لإكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، انها تؤكد بان ما ندرك كـ "حقائق" هي في الغالب تفسيرات تشكلت بواسطة فهمنا في ذلك الوقت. وبشكل أعم، كما يلاحظ W.A.Sandoval(في فهم ابستيمولوجيات الطلاب التطبيقية وتأثيرها على التعلم من خلال التحقيق"، تعليم العلوم، 89:4 ، 2005)، عقائد المتعلمين التطبيقية حول المعرفة تؤثر في كيفية تفسيرهم وانخراطهم بالدليل العلمي. لذا من الضروري الاعتراف ان العلم ليس محاولة ثابتة لجمع حقائق خارجية غير قابلة للتغيير. بل انه عملية ديناميكية متطورة باستمرار تتميز بأسئلة مستمرة وتحقيق ومراجعة. تحقيق تقدم يتطلب كل من تراكم الملاحظة وتمحيص مستمر وإعادة تفسير لتلك الملاحظات في ضوء نظريات جديدة ودليل جديد.

توضيح تاريخي جيد لهذه العملية هو التحول من فيزياء نيوتن الى نسبية اينشتاين. في ميكانيكا نيوتن، مفاهيم مثل الزمان والمكان المطلقين اُعتبرا حقائق تجريبية مدعومة بملاحظات وتجارب العصر. لكن اينشتاين أدخل اطارا تفسيريا جديدا أعاد تعريف الزمان والمكان وأظهر ان قياس كل منهما هو نسبي للاطار المرجعي للمراقب. ملاحظة تجريبية جديدة لعبت فعلا دورا في تحول هذا البراديم: الاستنتاجات غير المتوقعة لتجارب Michelson-Morley عام 1887 في عدم وجود اختلاف هام بين سرعتي الضوء في اتجاهين متعامدين (يتقاطعان في زاوية قائمة) رغم حركة الارض في الفضاء. مع ذلك، هذا سيظل شذوذا محيرا بدون إعادة التصور النظري الجريء لاينشتاين لفكرتي الزمان والمكان. مرة اخرى، الملاحظات تُفسر ضمن اطر نظرية، وعندما تتغير تلك الاطر، يتغير فهمنا للملاحظة. هذا يسلط الضوء على الطبيعة التكرارية للعلم iterative nature، حيث حقائق اليوم المقبولة قد تصبح غدا مفاهيم منتهية الصلاحية.

حجة مضادة لفكرة الطبيعة المؤقتة للمعرفة العلمية هي ان تقارب الملاحظات المستقلة يقود بمرور الزمن الى معرفة موثوقة. لكن على الرغم من صحة القول ان الملاحظات المكررة يمكنها ان تقوّي الثقة في افكار معينة، فان تاريخ العلوم يبيّن ان التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لاتزال من الممكن إبطالها. نظرية الفلوجستون في الاحتراق كانت يوما ما التوضيح المهيمن المدعوم بالملاحظات، جرى استبدالها في النهاية بنظرية الاوكسجين للاحتراق بعد تجارب لافوازيه. هذا التحول حدث ليس فقط بسبب ملاحظات جديدة وانما بسبب الاطار النظري الجديد الذي وفر أحسن توضيح للظاهرة والذي بدوره يقود الى أحسن التجارب.

استنتاج

هذا النقد يسلط الضوء على فكرة ان العلم يُشتق كليا من حقائق ملاحظة موضوعية، ويؤكد انها فكرة شديدة التبسيط. وبينما لا يمكن إنكار أهمية الملاحظات للتحقيق العلمي، لكن الملاحظات متشابكة بشكل معقد مع النظرية والتفسير والمنظور الشخصي للعالِم . الاعتراف بان الملاحظات مثقلة بالنظرية يؤكد ان العلم ليس فقط حول جمع بيانات تجريبية وانما يستلزم عملية ديناميكية من التفسير واعادة التفسير للاستنتاجات ضمن اطر نظرية.

هذا له مضامين عميقة لفلسفة العلوم. انه يتحدى الرؤية التقليدية للعلم كمحاولة موضوعية بالكامل مرتكزة فقط على بيانات حسية، وذلك من خلال التأكيد على الدور الاساسي للبنيات النظرية والادراك البشري في صياغة المعرفة العلمية. هذا يدعو الى المزيد من الفهم الدقيق للموضوعية العلمية التي تعترف بالتفاعل المعقد بين الدليل التجريبي والتفسير النظري. استكشاف كيف يؤثر هذا التفاعل على التقدم العلمي عبر مختلف الحقول العلمية سيكون شيئا ثمينا لتفكير المستقبل، وقد يوفر رؤى ثاقبة في تطور المعرفة العلمية. هذا الاستطلاع يمكن ان يعمّق تقديرنا للعملية المعقدة التي تقود الاكتشاف العلمي وتشجع الحوار المستمر حول طبيعة الموضوعية والذاتية في العلم.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم