أقلام فكرية

حيدر عبد السادة: الانعطافة اللغوية للفلسفة أم الانعطافة الفلسفية للغة

ما ينبغي أن نلتفت له، ونحن بصدد الحديث عن أهم المُنجزات المعرفية في القرن العشرين، إن ما عُرف في ثنايا الحديث عن فلسفة اللغة، أنها نتاج ما يُعرف بـ(الانعطافة اللغوية)؛ وهذا ما هو شائع في كتابات المُتخصصين في ذلك. لكن الحقيقة أن الفلسفة هي من أرادت أن تحقق لنفسها تحولاً في خطابها المعرفي وليس اللغة، فإذا اعتمد الخطاب الفلسفي سابقاً على الميتافيزيقا واللاهوت من جهة، والعقل والعلم من جهةٍ أخرى في إحداث التحول في الخطاب الفلسفي عبر عصوره المعرفية، فإنها هنا تعتمد على اللغة في تحقيق ذلك المنعطف المنشود.
وهذا يسحبنا إلى فرضِ إشكالٍ شائك حول أولوية الفلسفة على اللغة، أم أولوية الأخيرة على الفلسفة؟ تحديداً في إرساء معالم هذا الحقل الجديد. بمعنى، هل عملت الفلسفة على استخدام اللغة للتعبير عن غايتها في التحول الفلسفي، وبالتالي الحديث عن (انعطافة فلسفية)؟ أم اللغة هي من استعملت الفلسفة لتحقيق (الانعطافة اللغوية)؟. والحقيقة إنَّ من جانبنا نعتقد بأولوية الفلسفة على اللغة، لإنَّ الفلسفة هي من أرادت أن تستخدم اللغة في التعبير عن نفسها فلسفياً، ومن ثمَّ فإن مباحث فلسفة اللغة إنما قادتها أقلام فلسفية وليست نحوية أو لغوية، وهذا يؤكد لنا أن اللغة هنا لا تتعدى عن كونها أداة تم استخدامها فلسفياً، لغاية اعادة النصاب إلى الفلسفة، عن طريق إعادة صبّها في الواقع الذي تغرّبت عنه نتيجة الإسراف في الميتافيزيقا. وبالتالي يُجاز لنا أن نقول بأنها أداة تم استخدامها فلسفياً للإفلات من نسقية الفلسفة أو هرميتها. ولكن لهذه الأداة سابقة خطيرة تتمثل في كونها تتحدث عن نفسها، فتحولت من أداة تعبيرية مُنفعلة بفعل الحدث الفلسفي، إلى فاعلة ومُنتجة باعتبارها بؤرة التفلسف. وبالتالي فلم تكن الإنعطافة اللغوية من أجل ذاتها، بل هي مجردُ أداة إنما جاءت لإمكانية ديمومة الفكر الفلسفي وتجديده، ولهذا فنحن إزاء منعطف أو منعرج فلسفي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن مسوغ الانطلاق من اللغة هو الطفرة المعرفية التي بدلت العلاقة بين الدال والمدلول، فاللغة لم تعد مجرد ممثل للمعرفة، كما أن المعرفة لم تعد مجرد تمثل للأشياء بكلام آخر لم تعد اللغة ممثلاً للتمثل ذاته. بل أصبحت إمكاناً للوجود بقدر ما تجسد بيئة للفكر أو وسطاً للفهم. يعني أن علاقة الانسان بوجوده هي علاقة لغوية، سواء اتصل الأمر بالعقل أو الحس، بالوعي أو اللاوعي، بالمعرفة أو بالممارسة… من هنا يمكن القول بأن اللغة هي مفتتح الوعي، وبأن الوعي بالأشياء هو نشاط رمزي لغوي.
وتمثلّت أهم المنابت التي أسست لنشأة مباحث فلسفة اللغة، في مبالغة الفلسفة في تعاليها عن الواقع، وانحسار مجمل مباحثها نتيجة الإنهماك في الميتافيزيقا والعلوم المجردة، فمنذ بواكير الفلسفة الأولى، اشتغلت الفلسفة اليونانية على تفكيك النظام الخارجي للعالم بصورة عقلانية، من أجل أن تُحدث منعرجاً جديداً وقطيعة معرفية مع مرحلة الأسطورة في الفكر الشرقي القديم، التي بالغت هي الأخرى في النظر إلى الوجود عن طريق الاسطورة والخرافة؛ انتهاءً بالملاحم الاسطورية لدى شعراء اليونان. لكنها سرعان ما غرقت بالتصورات الميتافيزيقية، والتي تساوي في بعض صورها مضامين الفكر الاسطوري للشرق القديم؛ وإن كانت هناك محاولات جادة في التأصيل للفلسفة العملية (الاجتماع، السياسة، الأخلاق)، إلا أنها بقيت مجرد أبحاث على هامش الفلسفة النظرية (الإلهيات، الطبيعيات، الرياضيات).
ولم يدأب الفكر الفلسفي في العصور الوسطى إلى إحداث قطيعة أو انعطافة فلسفية، بل عمل على نقل التراث اليوناني إلى العالم العربي والأوربي، بإضفاء ثوب الثيولوجيا والفكر اللاهوتي عليه، فبقيت بذلك حبيسة التصورات الميتافيزيقية في البحث عن الله وصفاته، والتأسيس لفلسفة الوجود.
ومن أجل إنقاذ مركزية الإنسان التي تضررت جرّاء البحث في الوجود الخارجي، حملت الفلسفة الحديثة ورائدها الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) همُّ التأسيس لانعطافة فلسفية ومعرفية، تحاول أن تأصّل مركزية الإنسان، وتسلّيط الضوء على ما يتعلق به، فانتصرت للإنسان على حساب الطبيعة، وإخضاع الأخيرة تحت مباحث الفكر الإنساني.
مع ما تقدم من قطيعة حديثة بالفكر (القروسطي)، بقيت المهمة التي أُنيطت بالفلسفة محض تجربة تأملية مجردة، الأمر الذي لم يحررها من كونها فلسفة قوالب وتخوم عالية وفلسفة أنساق، الأمر الذي دعا بعض الفلاسفة لوصفها بـ(فلسفة السرديات الكُبرى)، والتي خُتمت بفلسفة الألماني (فريدريك هيجل). ثم بدأ المنعرج الحاسم في تاريخ الفلسفة، من خلال الثورة التي أشعلها الفيلسوف الدنماركي (سورين كيركيغارد)، على الأفكار الهيجلية، والتي-بحسب كيركيغارد- لا تقيم وزناً للإنسان ولا للحياة الإنسانية، وإنما اتجهت نحو المطلق أو الروح المطلق، في حين ان كيركيغارد قد اراد من الفلسفة ان تكون تعبيراً حيّاً عن الوجود الخاص للإنسان، بمعنى اراد ان يضع نظرية عامة للإنسان، تعبّر عن ما يعانيه من ألم، وعذاب، وقلق، ويأس، ومخاطرة...الخ.
***
حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم