أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: اللغة المثالية واللغة العادية

تدور هذه الثنائية، أقصد ثنائية اللغة المثالية والعادية، حول إمكان تقديم وصف دقيق وملائم للأشياء عن طريق اللغة، أي استعمال أكثر لغة ملائمة لطبيعة المشكل. وكان وجه الحاجة في البحث فيها يعود إلى الوعي، بما في اللغة العادية من غموض وقصور ونقص، فهنالك كلمات ليس لها معنى محدد، وكلمات أخرى معانيها متداخلة، كما أن اللغة العادية بمفرداتها المألوفة قاصرة عما نريد التعبير به... واللغة المثالية هي لغة رمزية، تتجنب كل عيوب اللغة العادية بحيث يكون كل اسم دالاً على مسمى معين أو يكون كل كلمة معنى ومدلول.
وتنطلق هذه اللغة من أن معظم الموارد التعبيرية في اللغات العادية موسومة بأنها غير أهلٍ بالثقة، وذلك بسبب الإبهام الذي تضعه في الخطاب، والتي على اللغة من أجل العلم أن تتخطاها، وثمة مصدران للإبهام: الغنى المعجمي للغات الطبيعية، لكن هذا الغنى مصدر عدم دقة، بسبب تعدد استخدامات العبارة. تضاف إلى هذه الشائبة شائبة أخرى، مرتبطة بالتسامح في المضمر التي تظهرها اللغات الطبيعية، ومن آثار ذلك أن يترك في الظل، وحتى أن تخفي المحركات الحجاجية أو البرهانية التي تحكم تسلسل القضايا، ما يطعن في صدقية النتائج المحققة... ستتميز اللغة المثالية التي ستستخدم في التعبير عن العلم الدقيق بدقة العبارات التي ستكون موضوع تحديد بين واستخدام واضح تحدده بدوره قاعدة بينة، وعليها أيضاً أن تجعل بينة العمليات التي تتشكل بموجبها القضايا وتتولد الواحدة من الأخرى.
فضلاً عن ذلك يقول رسل: ان اللغة الطبيعية غير مهيأة للتعبير عن العديد من المسائل الفلسفية، ومن ثم فإن كثيراً من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها قد ضلوا سواء السبيل. واللغة المثالية عند رسل، تملك ثلاث خصائص رئيسة تميزها عن اللغة العادية:
-كل كلمة في القضية تتناسب مع مكّون واحد في القضية المقابلة، باستثناء العبارات المنطقية (و،أو،إذا... مع إن)، حيث الوظيفة مختلفة.
- هكذا لغة هي تحليلية بالكامل، تظهر بنظرة واحدة البنية المنطقية للواقعة مؤكدة أو منفية.
- إنها لغة نحوية محضة، مثل تلك التي سمحت مبادئ الرياضيات بإنشائها، ما يجعلها جديرة بأن لا تعد لغة، بسبب غياب المفردات، ولكن يكفي، في الواقع، إضافة مفردات إلى هكذا لغة للحصول على لغة منطقية مثالية.
وبالتالي فإن الألفاظ المستخدمة عادة في اللغات الطبيعية غامضة وملتبسة، من هنا فعلى الباحث الفلسفي أن يحدد معانيه، وأن يحرص باستمرار على فهم المعاني الدقيقة التي تستخدم فيها الألفاظ حين ترد على قلم هذا الفيلسوف أو ذاك. ومن ثم فإن اللغة العادية قضايا مركبة، ولذلك يجب تحليلها إلى مكوناتها الذرية كي تتجنب أي غموض أو نقص.
ويرى رسل، لو نظرنا إلى الألفاظ لوجدنا أنها تؤدي وظيفتين، فهي من جهة تقرر وقائع، وهي من جهة أخرى تستثير انفعالات. الفيلسوف في أمس الحاجة إلى الاعتراف بوجود هاتين الوظيفتين، حتى لا يقوم بالخلط بينهما، وقد أضاع الفلاسفة الكثير من وقتهم في الاشتغال بالمسائل الأخلاقية مثلاً، نظراً لتوهمهم بأن ثمة حقائق تنصب عليها العبارات الأخلاقية، في حين أن هذه العبارات لا تزيد عن كونها تعبيرات عن مشاعر ذاتية، أو مجرد توجيهات تقدم للآخرين حتى يستشعروا نحو بعض المسائل أحاسيس أخلاقية مماثلة.
وقد أخذ فتغنشتاين من اطروحات رسل نفسها، وتجلى ذلك في مفهومين شبه متعارضين للممارسة الفلسفية، ففي الواقع، إن تحليل اللغة الذي روج له رسل يسمح بإيضاح اشتغالها، فإن فكرة (ميتافيزيقا) خاضعة للإصلاح بقيت هي الأفق، موكلة للفلسفة مهمتها في آن، تلك المتميزة من العلوم، بيد أن تحليل اللغة والفهم الواضح لاشتغالها قادا فتغنشتاين إلى حل الميتافيزيقا، فبحسبه، وحدها علوم الطبيعة تحمل خطاباً معقولاً عن العلم، وكل محاولة أخرى، ومن ضمنها الميتافيزيقا، تخرق حدود اللغة، وتقع بالضرورة في اللامعنى.
أما المفهوم الجديد للغة، فيتمثل بالتالي:
- الاعتراف بالبعد الفعلاني (من فِعل) للدلالة، فإذا كان فهم ملفوظ ما، هو التحكم ببعض العاب اللغة، فإن التكلم، وقبل كل شيء، هو سلوك ما، مرتبط بجملة من الممارسات المنظمة (شكل من الحياة).
- إيضاح أهمية السياقات ومواقف استخدام اللغة في تحديد المعنى، في حين أن محاولات إنشاء لغة مثالية اهتمت دائماً بنزع سياق الدلالة بمحاولة ايجاد، ضمن الاقتصاد الداخلي للنظام، الشروط الكافية للدلالة. المقاربة الجديدة لا تدرك المعنى إلا في تعلقه بالسياق، باعتباره مكوناً.
***
د. حيدر عبد السادة جودة