أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: طبيعة التفكير.. هل أفكارنا واقعية؟

يمكننا الشك في كل شيء. لكن هناك شيئا واحدا مؤكدا وهو اننا الآن نفكر. هذه الفكرة ميّزت التفكير الفلسفي لفيلسوف القرن السابع عشر رينيه ديكارت. بالنسبة لديكارت إمتلاكنا لأفكار هو الشيء الوحيد الذي لا نشك فيه. لكن ماهي بالضبط هذه الافكار؟ هذا هو اللغز الذي حير الفلاسفة لقرون ومنهم سقراط – وهو ايضا الموضوع الذي نال زخما جديدا بظهور الذكاء الاصطناعي حيث يحاول الخبراء معرفة ما اذا كانت الماكنة تستطيع التفكيرحقا.
مدرستان للتفكير
هناك جوابان رئيسيان للسؤال الفلسفي حول ماهية الأفكار. الاول هو ان الافكار هي أشياء مادية. الافكار هي بالضبط تشبه الذرات، الجزيئات، القطط، الغيوم، او قطرات المطر: جزء اومجموعة أجزاء من الكون المادي. هذا الموقف يُعرف بالمادية materialism.
اما الرؤية الثانية هي ان الافكار منفصلة عن العالم المادي. هي ليست كالذرات وانما نوع من الاشياء يختلف كليا. هذه الرؤية تسمى الثنائية dualism لأنها تنظر للعالم وهو في طبيعة مزدوجة: الذهني والمادي.
لكي نفهم بشكل أفضل الفرق بين هاتين الرؤيتين لننظر في تجربة فكرية (افتراضية).
افرض ان الله يبني العالم من نقطة الصفر. اذا كانت المادية صحيحة، عندئذ كل ما يحتاجه الله لإنتاج الافكار هو ان يبني العناصر المادية الاساسية للواقع – الجسيمات الأساسية – ثم يضع قوانين الطبيعة. بعد ذلك يجب على الافكار ان تتبع.
لكن، اذا كانت الثنائية صحيحة، معنى ذلك ان وضع القوانين الاساسية والمكونات المادية للواقع سوف لن ينتج افكارا. ولابد من اضافة بعض المظاهر اللامادية للواقع، لأن الأفكار هي شيء فوق كل العناصر المادية.
لماذا نكون ماديين؟
اذا كانت الافكار مادية،فماهي الاشياء المادية؟ الجواب المعقول هو انها حالات الدماغ brain states او الشبكة العصبية. هذا الجواب يدعم الكثير من علوم الأعصاب وعلم النفس المعاصر. في الحقيقة، ان الربط بين الدماغ والافكار هو الذي يجعل المادية معقولة. هناك عدة ارتباطات بين حالات دماغنا وافكارنا. أجزاء معينة من الدماغ تضيء بشكل متوقع عندما يكون شخص ما في ألم، او عندما يفكر في الماضي او المستقبل. الهيبوكامبس hippocampus وهو ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن التعلم والتذكر، ويقع قرب أسفل الدماغ، يبدو انه مرتبط بالتفكير الخيالي والابداعي، بينما منطقة بروكا Broca، التي تقع في النصف الايسر من الدماغ ترتبط بالكلام واللغة.
ماذا توضح هذه الارتباطات؟ الجواب هو ان أفكارنا هي فقط حالات متغيرة للدماغ. هذا الجواب، ان كان صحيحا، فهو يميل الى المادية.
لماذا نكون ثنائيين؟
يقول الثنائي ان الارتباطات بين حالات الدماغ والافكار هي فقط تلك الارتباطات لا اكثر. ليس لدينا أي توضيح للكيفية التي تؤدي بها حالات الدماغ الى التفكير الواعي. هناك ارتباط معروف جيدا بين إشعال عود الثقاب واشتعال العود. لكن بالاضافة الى الارتباط، نحن ايضا لدينا توضيح عن سبب اشتعال العود عند إشعاله. الاحتكاك يسبب رد فعل كيميائي في رأس عود الثقاب والذي يقود الى إطلاق طاقة.
لا يوجد توضيح مقارن للارتباط بين الافكار وحالات الدماغ. كذلك، هناك عدة أشياء مادية لا تمتلك افكارا. نحن ليس لدينا فكرة عن السبب الذي تؤدي فيه حالات الدماغ الى الافكار بينما لا يؤدي الكرسي الى ذلك.
معرفة الألوان
الشيء الذي نحن متأكدون منه - وهو اننا لدينا افكار- لايزال لم يتم توضيحه تماما بعبارات مادية. ذلك ليس بسبب قلة الجهود المبذولة. علم الاعصاب والفلسفة والعلوم الادراكية وعلم النفس جميعها بذلت جهودا شاقة في محاولة تتبّع هذا اللغز. لكن الامر بقي يزداد سوءاً: نحن لا نستطيع ابدا توضيح كيف تنبثق الافكار من الحالات العصبية. لكي نفهم لماذا، من الأفضل النظر في تجربة فكرية (افتراضية) للفيلسوف الاسترالي فرانك جاكسون.
السيدة مريم تعيش كل حياتها في غرفة غير ملونة (بيضاء وسوداء). هي لم تصادف ان ترى اللون ابدا. مع ذلك، هي تستطيع ايضا استخدام كومبيوتر يحتوي على توضيح تام لكل مظهر من المظاهر المادية للكون بما في ذلك جميع التفاصيل العصبية والمادية لتجربة رؤية اللون. هي تتعلم كل هذا. وفي أحد الايام، تغادر مريم غرفتها وترى لوناً لأول مرة. هل هي تتعلم أي شيء جديد الآن؟
ربما من المحفز جدا الاعتقاد انها تتعلم ذلك: هي تتعلم كأنها تتعامل مع لون. لكن لنتذكّر، ان مريم كانت تعرف سلفا كل الحقائق المادية عن الكون. لذا، اذا كانت تتعلم شيئا ما جديد، فهو يجب ان يكون حقيقة غير مادية. كذلك، اذا كانت الحقيقة التي تتعلمها تأتي من التجربة، فهذا يعني وجوب ان يكون هناك مظهر غير مادي للتجربة.
اذا كنت تعتقد ان مريم تتعلم شيئا جديدا بعد مغادرتها الغرفة، فانت يجب ان تقبل بان الثنائية يجب ان تكون صحيحة. واذا كان هذا هو الموقف، عندئذ نحن لا نستطيع إعطاء توضيح للتفكير من حيث علاقته بوظائف الدماغ، كما جادل الفلاسفة في ذلك.
الذهن والماكنة
الاجابة على السؤال عن مادية التفكير لم تسوي تماما السؤال فيما اذا كانت المكائن تستطيع التفكير ام لا، لكنها ستساعد في ذلك. اذا كان التفكير ماديا، عندئذ لا سبب هناك من حيث المبدأ لعدم قدرة المكائن على التفكير. واذا لم يكن التفكير ماديا، فمن غير الواضح ان كانت المكائن تستطيع التفكير. فهل بالامكان ربط المكائن الى ما هو غير مادي بالطريقة الصحيحة؟ هذا سيعتمد على الكيفية التي يرتبط بها التفكير الغير مادي بالعالم المادي.
في كلتا الحالتين، متابعة السؤال حول ماهية التفكير من المحتمل ان تكون له مضامين هامة حول طريقة تفكيرنا بشأن ذكاء الماكنة ومكاننا في الطبيعة.
***
حاتم حميد محسن
............................
Are our thoughts real? Here’s what philosophy says, March5, 2025, The conversation.