أقلام فكرية
محمد فراح: في التمييز بين الأخلاق la Morale والإتيقا L'éthique

ما الغاية من كتابة مقال تمييزي بين الأخلاق La Morale والإتيقا L'éthique ؟ الجواب عن هذا السؤال من أسهل ما يمكن، فسبب كتابتي لهذا المقال هو سبب تمييزي الغرض منه بيان الفرق بين حقلين متعارضين ومختلفين إختلاف السماوات والأرض، ذلك أن الكثير من الباحثين والمهتمين بل وحتى المتخصصين في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية لازالوا يخلطون بين هذين الحقلين اعتقاداً منهم أنه حقل واحد متداخل، في حين أن العكس هو ما يحدث، فالأخلاق La Morale حقل مستقل ومتمايز عن حقل الإتيقا L'éthique وهذا ما سنحاول إبرازه في مقالنا هذا.
"إن الإشتقاق اللغوي لا يكاد يسعفنا في هذا المسعى: [أي للتمييز بين الإتيقا والأخلاق]. فكلمة La éthè (باللغة الإغريقية تعني العادات الأخلاقية) و Mores (باللغة اللاتينية تعني الأعراف) وهما تتحليان في الواقع بدلالات يقرب بعضها من بعض غاية القرب.
فإذا كانت كلمة Éthique الإتيقا إغريقية الأصل وكانت كلمة Morale الأخلاق لاتينية، فإنهما معاً يحيلان على محتويات متقاربة.
على فكرة العادات الأخلاقية (الإتيقا) والأعراف (الأخلاق)، وسبل العمل التي يحددها الإستعمال.
وعلى غرار القرابة التي يبرزها أمامنا التحليل الإشتقاقي، فثمة مجال لتمييز الإتيقا عن الأخلاق. فالأخيرة [أي الأخلاق] من الناحية النظرية تريد أن تتجه إتجاهً أكبر صوب التفكير في أسس الأخلاق.
بينما تسعى الإتيقا لِتَفْكِيكِ قواعد السلوك والعمل التي تشكل الأخلاق وأحكام الخير والشر التي تندرج داخل الأخلاق. ما دلالة الإتيقا؟ إنها لا تعني أبداً الأخلاق [الأعراف]، أي جملة قواعد خاصة بثقافة معينة، بل تعني [الإتيقا] "ما وراء الأخلاق"، أي مَذْهَباً يقع بعد الأخلاق، إنها نظرية معقلنة عن الخير والشر، عن القيم والأحكام الأخلاقية.
إن الإتيقا، تفكك بشكل عام قواعد السلوك والعمل، وهي تحلل البنى، وتفرق روابطها سَعْياً وراء النزول إلى أسس الإلزام المُضْمَرَّةِ.
وعلى غرار الأخلاق [الأعراف]، تسعى الإتيقا إلى أن تكون هَدَّامةً وبَنَّاءَةً في نفس الوقت، مُرَكِّزَةً على الأسس والمبادئ الأولى.
كما تتميز [الإتيقا] عن الأخلاق من حيث بعدها المتسم بأنه نظري على نحو أكثر. وبرغبتها الهادفة للوصول إلى المصدر. [...]، وتهتم بالتنظير، وبالأساس، بل أيضاً بقواعد الأوامر أو الأحكام الأخلاقية.
ولكن كم من واحد سيذكرنا بأننا اليوم نتحدث عن "إتيقا التجارة، أو إتيقا الإعلام والاتصال"، [...] وهي إتيقا عملية، إتيقا أقرب إلى أن تكون علم الواجبات، [...]، المعنى الأول الأساسي لكلمة إتيقا هي وضعها فيما وراء الأخلاق بل والمذهب المؤسس الذي يَشْمَلُ المبادئ، [...].
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الكتاب [تقصد جاكلين روس كتابها الفكر الإتيقي المعاصر]، سينظر إلى الإتيقا من وجهة نظر دلالتها المزدوجة: بوصفها نظرية معقلنة عن الخير والشر، ولكن أيضاً بوصفها أَمْراً فَرَضِياً، "إتيقا عملية"، مثل "بيو-إتيقا" تُوجِبُ مِنَّا أن ندرس تناظمها التصوري." [1]
بدايةً وقبل كل شيء حينما نقول أخلاق La Morale فعادة ما يتبادر إلى ذهننا ذلك الحقل أو المجال أو الميدان الذي يقدم لنا أحكاماً معياريةً أو قِيمِيةً مُثْلَى حول فعل ما.
فنقول بأن الفعل أو السلوك الأخلاقي والقيمي هو الفعل أو السلوك الذي يحاكي الخير Le bien بينما الفعل أو السلوك الغير أخلاقي أو الغير قيمي هو ذلك الفعل أو السلوك الذي يُمَاهِي ويُحَاكِي ويُمَاثِلُ بين الشر Le Mal
لذلك وعودة إلى تاريخ الفلسفة والسجالات أو المحاورات الأفلاطونية بين سقراط والسوفسطائيين كانت هدفها التعرف على حقيقة الخير أو معيار الخير الأسمى، وحقيقة الشر أو معيار الشر، ويحسب للسوفسطائيين اعترافهم بِنِسْبِيَّةِ الْقِيَمِ الإنسانية، أي نسبية ومنظورية قيمتي الخير والشر، فقد أنظر أنا إلى أن هذا الفعل أو السلوك خَيِّرٌ بطبعه وقد ينظر الآخر القريب أو البعيد عني في ثقافة أخرى من هذا العالم إلى أن هذا الفعل شِرِّيرٌ بطبعه، وهذه مسألة بديهية قد لا نختلف فيها بتاتا.
لهذا نلحظ مقاومة وإزعاج سقراط لهؤلاء السوفسطائيين -اللذين أقول عنهم بهذا الصدد أنهم فلاسفة الإختلاف والتباين والنسبية قبل دولوز وفيلكس غواتاري- واللذين (أي هؤلاء السوفسطائيين) استشعر سقراط خطرهم على المدينة والدولة التي كان يهدف سقراط أن يجعل منها فاضلة لا مختلفة.
هكذا إذن أثرنا هذا النقاش اليوناني الأول في تاريخ الفلسفة فقط لمعرفة البدايات الأولى لميلاد ونشأة سجال أصل الأخلاق.
ويمتد هذا النقاش والسجال إلى لحظة ظهور الأديان التوحيدية المسيحية واليهودية والإسلام هذا الأخير الذي سيأتي لنا بكتاب مقدس هو القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة كلاهما يميزان تمييزاً جذرياً بين الفعل الخير الحلال والفعل الشرير الحرام، رغم أن الحلال بَيِّنٌ والحَرَامُ بَيِّنٌ، ورغم قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بُعِثَ لِيُتِمَّ مَكَارِمَ الأخلاق.
سنحاول القفز عن العصور الوسطى سواء المسيحية أو اليهودية لأنها كذلك كانت تستند في أخلاقها على الكتب المقدسة والتشريعات الدينية.
لكن هذا لا يعني أن الفلاسفة العرب المسلمون أو حتى الفلاسفة اليهود أو المسيحيين لم يعتمدوا على ما وصلهم من اليونان لتشريع الأخلاق والقيم، خاصة كتاب أرسطو، "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، لكن هذا الكتاب بالمناسبة كان له طابع سياسي أكثر من طابع أخلاقي.
كما أن الكتابات في حقل فلسفة الأخلاق في الثقافة العربية الإسلامية الوسيطية خاصة كانت شبه ضعيفة نظراً لغياب وانعدام المصادر اليونانية، فَمَثَلاً كتاب "الأخلاق إلى أوديم"، وحتى الكتاب السابق لأرسطو، أي "الأخلاق إلى نيقوماخوس" لا نجد شروحات أو تلخيصات أو تعليقات لهما باللغة العربية كما فعل الكندي أو الفارابي أو إبن رشد أو إبن باجة مع كتاب "السماع الطبيعي" !!
ولكي لا نطيل لأن ما يهمنا في الحقيقة هو التمييز بين الأخلاق والإتيقا خاصة في السياق الحديث الذي يبدأ مع فيلسوف الأخلاق أو بصريح العبارة فيلسوف الواجب الألماني إيمانويل كانط، بكتابه المعنون "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" وكتاب "نقد العقل العملي"، وبعده سيكتب أرثور شوبنهاور "أساس الأخلاق"، وبعدهما مباشرة سيبدع فريدريك نيتشه كتابيه "ما وراء الخير والشر" و "جينيالوجيا الأخلاق"، كما انتبهنا أن شيخ العصر الحديث الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل لم يكتب كتاباً في الأخلاق !!
كل هذه الكتابات الفلسفية في الأخلاق كان الغرض منها التفكير العقلي المجرد في القيم الأخلاقية، خاصة قيمتي "الخير والشر" وفضح أو كشف حقيقتهما عبر التاريخ، وكل فيلسوف من هؤلاء أبدعوا مفاهيم خاصة بهم في كتبهم الفلسفية في حقل الأخلاق.
أما عن الإتيقا وهي التي سنركز عليها كثيراً نظراً لأهميتها في السياق الفلسفي المعاصر مع بيير هادو وميشيل فوكو وجيل دولوز وأندري كونت اسبونفيل ...إلخ.
عندما نقول Éthique لا يمكن ترجمتها بالأخلاق التي تعني Morale لهذا يجب أن نتركها إتيقا نظراً لعدم وجود مرادف لها باللغة العربية، حتى أخلاقيات ترجمة غير دقيقة ولا تناسبها وسنلاحظ تحولات حمولتها الفلسفية والتي تميزها عن الأخلاق، ذلك أن كتاب "الأخلاق إلى أوديم" لأرسطو هو كتاب إتيقي بالدرجة الأولى لأنه يهتم بالحياة أو كيفية عيش الحياة، عكس كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" الذي هو كتاب في السياسة المدنية، كما أن أبيقور صاحب "رسالة إلى مينيسي" هو أيضاً كتاب في فن العيش، لا هو ولا كتابه "الرسائل والحِكَم"، هكذا كانت المدرسة الأبيقورية تقدم لنا دروساً في حِكْمَةُ العَيْش.
نفس الأمر سنجده مع سينيكا بل والمدرسة الرواقية عموماً هي مدرسة كذلك كتبت "عن قِصَرِ الحَيَاةِ"، وذهب سينيكا مؤسسها بعيداً مصرحاً بإمكانية "تعلم الحياة" و"تعلم كيف تعيش"، بل وقدم لنا دليلاً عملياً لكيفية عيش "الحياة السعيدة"، وهو صاحب العزاء consolations
وهذا ما نلحظه في سياق الثقافة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، فمثلاً كتب المعلم الثاني أبو نصر الفارابي "رسالة التنبيه على سبيل السعادة"، ينبهنا إلى كيفية "تحصيل السعادة" وهذان كتابين مهمين لهما نفس المنحى الإتيقي، ولا ننسى كذلك الكتاب الشهير لإبن مسكويه المعنون ب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" رغم ما يشاع عنه بين الدارسين بأنه مجرد شرح وتلخيص وتعليق على كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" لأرسطو، أو أن الأخلاق التي يدعوا إليها إبن مسكويه هي نفسها الأخلاق التي دعى إليها أرسطو، بالرغم من أن هذا القول فيه الكثير من النظر.
علماً أن فيلسوفنا إبن مسكويه لديه كتابين أخريين يقدم فيهما تصوره الإتيقي للعالم خاصة كتاب "الحكمة الخالدة" والكتاب الذي عنونه ب "السعادة"، فهل من المعقول أن نقول عن هذين الكتابين أيضاً أنهما يعرضان موقف أرسطو !!
كما أن الفترة الحديثة ستشهد ميلاد الإتيقا بشكلها اللامع مع إسبينوزا الذي سيكتب كتاباً يحمل نفس العنوان أي "الإتيقا"، وهو الكتاب الذي نقل إلى اللغة العربية بعنوان "علم الأخلاق" ترجمة جلال الدين سعيد، علماً أن ترجمة محتوى الكتاب كانت من الطراز الرفيع إلا أن ترجمة العنوان كانت غير دقيقة وهو الأمر الذي إنتبه له الدكتور أحمد العلمي وقدم ترجمة دقيقة جدا لكتاب إسبينوزا بعنوان "الإتيقا"، وتجذر الإشارة إلى أن الأستاذين جلال الدين سعيد وأحمد العلمي كلاهما متخصصان في فلسفة إسبينوزا.
قبل أن نمر إلى الفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور الذي يمكن إعتباره من كبار إتيقيي العصر الحديث بدءاً من كتابه الشهير: "فن أن تكون دائماً على صواب"، وباقي أعماله الفلسفية الأخرى: "كيف تكون سعيداً"، "العالم بوصفه إرادة وتمثلاً"، رغم كون أن هذا الأخير هناك من المتخصصين من يردفه ضمن حقل الميتافيزيقيا، إلا أننا إرتأينا أنه كتاب إتيقي بالدرجة الأولى بل وباقي أعماله الفلسفية التي تعبر عن تصوره الإتيقي للحياة خاصة "أقواله المأثورة عن الحكمة في الحياة"، ودليل "فن معرفة النفس" يذكرنا هذا بالعبارة الشهيرة على معبد ديلفي "يا أيها الإنسان إعرف نفسك بنفسك" والتي طالما ما رددها سقراط على لسانه وهو يزعج الناس اللذين لا يعرفون كيف يعيشون حياةً حكيمةً، هذا ما كان يريده أرثور شوبنهاور من كتبه المزعجة التي تعلمنا كيف نعيش حياةً سعيدة، رغم أن لديه كتباً متشائمةً مثل "من عدم الحياة" الذي يعرض فيه موقفه العدمي من الحياة، بل له كتاب أيضاً حول "الإنتحار"، كما كتب أيضاً عن ميتافيزيقا الحب والموت، وله كتاب مستقل عن "أساس الأخلاق" يناقش أو يجادل فيه كانط الذي جاء ب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق".
قبل أن ننتقل إلى فيلسوف إمبراطورية بروسيا الألماني فريدريك هيغل نريد أن نوضح أنه لم يترك أي كتاب أو عمل يرجى له في حقل الإتيقا بل وحتى حقل الأخلاق، رغم كونه صاحب الموسوعة، بل حتى فلسفته المثالية كانت تتوخى الموسوعية، اللهم الشروحات والتعليقات والتلخيصات هنا وهناك حول المواقف الإتيقية للفلاسفة نجدها مبثوثة بشكل مفتت في متنه الفلسفي.
أما عن الفلاسفة الإتيقيون في الإشتغال الفلسفي المعاصر، فأنا أنصح بالعودة إلى كتاب جاكلين روس La pensée éthique contemporaine باللغة الفرنسية الأصلية نظراً لأن الترجمة العربية لم تصب حتى في تعريب العنوان، حيث ترجمه الدكتور عادل العوا ب "الفكر الأخلاقي المعاصر"، ومنذ بداية مقالنا ونحن نقيم مَيْزاً جذرياً بين الأخلاق LaMorale والإتيقا L'éthique حيث كان من الأنسب ترجمته ونقله إلى اللغة العربية محافظين على نطقه كما فعل الدكتور أحمد العلمي مع كتاب إسبينوزا "الإتيقا" وتركه كما هو "الفكر الإتيقي المعاصر"، بل وأكثر من ذلك اختار ترجمة الإتيقا ب "الأخلاق النظرية" مما يجعل القارئ في رَيْبَةٍ وحَيْرَةٍ من أمره، متسائلاً عن ما هي الأخلاق النظرية ؟ وما الفرق بينها وبين الأخلاق العملية أو التطبيقية بل وما الفرق بين الأخلاق النظرية والأخلاق عموماً !!!!
مثل هاته الترجمات التحريفية للمعنى تجعل قارئ النص في حيرة من أمره، بينما الأجدر أن نحترم عقل القارئ ونحافظ على أمانة نقل الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ من لغة إلى لغة أخرى !!
وعودة إلى موضوعة الإتيقا في الإشتغال الفلسفي المعاصر، فإننا نجد في كتاب جاكلين روس ثلة من الفلاسفة المعاصرين الكبار يشتغلون على هذا الموضوع بدءاً من جيل دولوز وفيلكس غواتاري، وروبرت ميزراحي وكلاهما متخصصان في إتيقا إسبينوزا، بل يستوقفني هنا كتاب إسبينوزا فلسفة عملية لصاحبه جيل دولوز حيث خصص داخل هذا الكتاب فصلاً بعنوان "في الفرق بين الإتيقا والأخلاق"، أدعوكم للعودة إليه من هذا المنبر، ينصح بترجمة الدكتور عادل حدجامي نظراً لجودتها ودقتها، كما لدينا أندري كونت اسبونفيل وهو من كبار إتيقيي العصر الراهن خاصة كتابه عن الغبطة واليأس، بل ولديه مقال هو أيضاً عن الفرق بين الأخلاق والإتيقا* وهو القائل ب :"أن الأخلاق لا تعلمنا كيف نعيش"
هكذا تحاول الإتيقا الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف نعيش حياةً سعيدة ؟ أو كيف نعيش حياةً حكيمةً ؟ كيف نُحَصِّلُ السعادة ؟ أو ما هو السبيل القويم لتحصيل السعادة ؟ ما الذي يجعلنا جديرين بالسعادة ؟
كما أن موضوعات الإتيقا تتمثل في السعادة، الحب، الرغبة، الإرادة، الحرية، الحياة، تعلم العيش، ...إلخ.
هكذا انصرفت الإتيقا من خطاب ما ينبغي أن يكون -كما فعلت وتفعل الأخلاق- إلى خطاب ما هو كائن أي الحياة، لكنها خطاب غير آمر.
الإتيقا بهذا المعنى خطاب خصوصي وفردي ويبتغي النسبية لأنها عبارة عن فن للعيش الحكيم، عكس الأخلاق التي هي خطاب يريد الواحدية والوحْدَوِيَّةَ بمعناه الكوني حيث تسعى إلى الكمال والفضيلة، هكذا تريد الأخلاق أن تجعل من الناس كائنات فاضلة خلوقة أو بصريح العبارة كائنات مقدسة، أي أن تكون مثل القديسين والقساوسة.
كل خطاب أخلاقي هو خطاب آمر ينطبق عليه قول: يجب لأنه يجب، فالغاية في نهاية المطاف أن تصبح قديساً، أو أن تكون دينياً، بمعنى ألا نفعل كل الأفعال التي تحقق اللذة والمتعة أو الشهوة الجسدية خارج إطار الأخلاق (الزواج مثلاً بغض النظر عن كونه ميثاق فله بعد أخلاقي أيضاً).
تريدنا الأخلاق أن نكون أتقياء بدون رغبة وأن نكون متورعين، لهذا نفهم كيف أن الأخلاق لها بعد ديني، فالدين يحرم العلاقات الجنسية خارج إطاره ويحلل الزواج والصيام اللذان ينتميان إليه.
كما أن الدين يقدم وعوداً، أي هناك حياة أخرى سيكون كل شيء مباح فيها.
كما أن "في استطاعة الدين أن يكون أخلاقاً، أو إتيقا. فهو قادر على أن يقيم -كما أوضح لنا كانط- نماذج عن التخلق. ولكن أساس الإتيقا ليس دينياً. إذا كنا نعلم أن الله موجود، فإن الواجب يتلاشى لصالح الخوف أو الرجاء. [...] [هكذا] فالعقل العملي هو عقل مستقل عن كل معرفة دينية أو نظرية." [2].
ويمكن أن نستخلص من هذا أن الإتيقا تريد أن تكون مستقلة عن حقلي الأخلاق والدين، بمعنى أنها ليست أخلاقاً أو لا تقدم معايير وقيم أخلاقية، كما لا تقدم تعاليم دينية يجب اتخاذها تشريعات لولوج الجنة أو النار!
"إن الإتيقا هي علم الحسن والسيء. وهذا العلم ينطلق من مبدأ أساسي:
ليس من القيم الترنسندنتالية** الموجهة ضد الحياة، وليس من الأهواء الحزينة وما يواكبها من مآسي البغضاء والحقد، ولكن [تنطلق الإتيقا من مبدأي] قوة الحياة والرغبة." [3].
هذا التصور يذكرنا بكل من كانط الذي تحدث عن الإرادة الخيرة bonne volonté وكذلك يذكرنا بنيتشه صاحب قوة الإرادة وإرادة القوة volonté de puissance وكلاهما معاً شكلان من أشكال الإتيقا.
وقبل أن نختم مقالنا الذي هو عبارة عن مدخل إلى التمييز بين الأخلاق والإتيقا نريد أن نوضح أيضاً إلى أن الإتيقا في الإشتغال الفلسفي المعاصر خاصة مع كل من دولوز وفيلكس غواتاري وروبرت ميزراحي بل حتى ميشيل فوكو ليست [أي الإتيقا] سوى إعادة إحياء لمذاهب فلسفية كلاسيكية يونانية ورومانية، فمثلاً مفهوم قوة الحياة Force vitale و مفهوم الفرح Joie الذي يكتب عنه كل من دولوز وفيلكس غواتاري وروبرت ميزراحي هي مفاهيم في الحقيقة تعود إلى أبيقور وإسبينوزا ونيتشه ...إلخ.
نقرأ لروبرت ميزراحي في مقاله الشهير "السعادة" [4] ما يلي:
"إن رغبة الفرح أمر أولي في تجربتنا الإنسانية. [...] إذا كانت رغبة الفرح الأساس الأصلي للوجود وللفكر على حد سواء، فإن الحياة الحقيقية ستتحدد إذن ببعض أشكال الفرح." [5].
هكذا تحولت الإتيقا مع روبرت ميزراحي إلى نظرة جلية إلى الواقع كما هو وعيش بعض مظاهر وأشكال الفرح سيجعل منا سعداء أكيد.
ونختم قولنا بتجربة ميشيل فوكو الذي حاول في أعماله الفلسفية الأخيرة البحث عن تحقيق نوع جمالي وحياة جميلة أو نمط عيش جميل، إن فوكو كان يبحث عن تكوين شكل من الإتيقا التي تشكل جمالية الوجود كما عاشها القدماء اليونانيين والرومان.
***
محمد فراح – تخصص فلسفة
..............................
Bibliographie:
[1]- Jacqueline Russ, La pensée éthique contemporaine, Dépôt légal 1re édition: 1994, Presses Universitaires de France/Humensis, p-p: 3‐7. (Adapté)
[2]- Même référence, p. 33.
[3]- Même référence, p. 35.
[4]- Auteur: Robert Misrahi Le bonheur: Essai sur la joie, p. 15 et suite.
-[5] "Le désir de joie est primordial dans notre expérience humaine. […] Si le désir de joie est le fondement originel de l'existence et de la pensée, alors la vie véritable se définirait par certaines formes de joie."
*André Comte Sponville, Différence entre éthique et morale:
https://asp-toulouse.fr/ethique-morale/
ثم الإطلاع عليه بتاريخ: 1 مارس 2025.
** الترنسندنتالية هنا بمعناه المتعالية وليس بمعناه الكانطي.