أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: رحلة في صحراء صينية

الراهب البوذي شوانزانغ xuanzang ذهب عام 632م برفقة زميل له في رحلة في صحراء جوبي Gobi بمقاطعة لانتشو الصينية. الغرض من الرحلة كان العثور على الماء. فجأة شاهد الرجلان وادي يشبه أرض زرقاء. التفت شوانزانغ الى زميله قائلا"انظر، هناك ماء". لسوء الحظ، تبيّن ان اللون الازرق اللامع عبارة عن سراب. مع ذلك، عندما وصلا الى الوادي، وجد شوانزانغ ماءً مختبئا تحت صخرة كبيرة. السؤال هو هل عرف الراهب البوذي ان أمامه هناك ماء ؟ بكلمة اخرى، هل ان اعتقاده الاول بان هناك ماء في الوادي يُعتبر معرفة؟ هذا الموقف لشوانزانغ يمثل ما يسميه الفلاسفة اليوم حالة جيتيه Gettier case. هذه هي مشكلة فلسفية اشتهر بها ادموند جيتيه (1927-2021) في محاولة لنقد الطريقة السقراطية التقليدية او النظرية الافلاطونية في المعرفة باعتبارها "اعتقاد حقيقي مبرر". وفق تلك الطريقة، امتلاك عقيدة مبررة وصحيحة هو شرط ضروري وكاف للمعرفة. اذا كانت لدى احد ما عقيدة مبررة وصحيحة، فهو لديه معرفة. لكن، مع ان العقيدة الصحيحة والمبررة هي حقا شروط ضرورية للمعرفة، جيتيه بيّن انها غير كافية. هو قام بهذا عبر عرض مختلف المواقف التي يمتلك فيها المرء عقيدة مبررة وصحيحة لكنها مع ذلك تفشل في ان تكون معرفة. هنا سننظر في صياغة جديدة لمشكلة جيتيه، وايضا ننظر في طريقة للرد على حالات جيتيه من خلال تأسيس شرط رابع للمعرفة.
اولاً، كيف نستطيع معرفة اننا لدينا أي معرفة؟ دعونا نعود مرة اخرى لعام 632م. طبقا لنموذج العقيدة المبررة والصحيحة، شوانزانغ لديه معرفة بان هناك ماء في الوادي بناءً على الظروف التالية:
1- هو لديه تبرير في ايمانه بان هناك ماء في الوادي لأنه يرى لونا ازرق يعتبره ماء.
2- هو يعتقد ان هناك ماء في الوادي.
3- شوانزانغ يجد ماءً، لذا من الصحيح ان هناك ماء.
هنا يشير "التبرير" الى دليل داعم – مثل اعتراف شوانزانغ بان اللون الازرق ماء. سقراط والفلاسفة اللاحقون طرحوا شرط التبرير لحماية ادّعاءات المعرفة ضد الحظ. التخمين المحظوظ لا يُعتبر معرفة طالما لا يوجد هناك سبب جيد للاعتقاد انه صحيح.
مع ذلك، يبدو انه رغم ان عقيدة شوانزانغ كانت صحيحة، لكن هذه كانت فقط مصادفة محظوظة، وليست نتيجة لإستنتاجه من رؤية ضباب ازرق في الوادي. جيتيه حفز وعلى نطاق واسع نقاشا فلسفيا عبر عرض حالات من حوادث عرضية لعقيدة صحيحة، مبيّنا ان فكرة المعرفة كعقيدة صحيحة لا تصمد ضد الحظ (في الأصل في ورقته الموجزة "هل العقيدة المبررة الصحيحة معرفة؟"، تحليل،1963). هنا سوف لن نناقش حالات جيتيه الخاصة، بل سوف نطبق استنتاجاته على شوانزانغ. هل يمكن استبعاد إدّعاء شوانزانغ الاولي في المعرفة عبر استنتاجه ان الماء كان ببساطة مجرد حظ؟
لاشك ان تلك مسألة حظ في عثوره على الماء، لأنه لاتوجد علاقة سببية بين اعتقاد شوانزانغ انه يرى ماءً وعثوره الحقيقي على الماء. لكن بدون علاقة سببية بين وجود ماء هناك واعتقاده بوجود ماء لايمكن لتلك العقيدة ان تكون شكلا للمعرفة. هذا يؤكد فكرة ان الشروط المحددة بـ "عقيدة مبررة وصحيحة" هي ضرورية لكنها ليست كافية للمعرفة طالما ان المعرفة تتطلب اكثر من مجرد عقيدة ثبتت صحتها بطريق الصدفة. لذلك، في الرد على حالات جيتيه، العديد من الابيستيمولوجيين المعاصرين طوروا شرطا رابعا للمعرفة : وهو ان صحة العقيدة يجب ان لا تكون عرضية. المنظرون مثل الفين جولدمان Alvin Goldman يجادل ان شوانزانغ ستكون لديه معرفة فقط اذا كانت هناك علاقة سببية بين عقيدته بان هناك ماء وحقيقة ان هناك ماء (انظر"نظرية سببية للمعرفة"،مجلة الفلسفة، 1967:64:12). يرى جولدمان ان عقيدة شوانزانغ الاولية ليست معرفة لأنها على الرغم من انها صحيحة ومبررة، فهي غير مرتبطة سببيا بحقيقة ان هناك حقا ماء. لهذا السبب، هؤلاء المفكرون يجادلون ان سببية العقيدة يجب ان تشكل اساسا المعرفة.
هذه النظرية السببية للمعرفة مع انها حسنة النية لكنها لا تخلو من العيوب. طبقا لـ جريفت و جيبهارتر Grefte&Gebharter في (النظرية السببية للمعرفة مراجعة: اتجاه تدخّلي"دار راتيو،2021،34:3)، حتى لو كان اعتقاد الفرد مرتبطا سببيا بالحقيقة التي صاغها الاعتقاد، لايزال من المحتمل لصاحب الاعتقاد ان تنقصه المعرفة. فمثلا، دعنا نفترض ان شوانزانغ لم ير سرابا أمامه وانما بدلا من ذلك شاهد كمية حقيقية من الماء. دعونا ايضا نفترض انه بسبب الظروف المناخية في منطقة لانتشو، كانت هناك مساحات هائلة وكثيرة جدا من السراب لا تحتوي أي ماء لكنها لا يمكن تمييزها من بُعد عن الماء الواقعي. شوانزانغ، وعن طريق الصدفة، ينظر حاليا فقط في البحيرة الحقيقية في منطقة لانتشو. بالنسبة لجولدمان، عقيدة شوانزانغ ستُعتبر معرفة لأنها نتجت بسبب وجود مساحة حقيقية من الماء في الافق. لكننا نستطيع وبشكل معقول الادّعاء ان عقيدة شوانزانغ لا ترقى حقا الى المعرفة لأنها نشأت من حظ معرفي. لو انه نظر في واحدة من بين عدة حالات للسراب، فان عقيدته ستكون زائفة. لذلك، هناك سبب لرفض النظرية السببية للمعرفة لنفس السبب الذي رُفضت بموجبه العقيدة المبررة الصحيحة. أي، عدم قدرتها على الصمود ضد الحدوث التصادفي.
لذا حتى العقيدة الصحيحة والمبررة وكذلك النظرية السببية للمعرفة تفشل في تحديد المعرفة بشكل كاف. مع ذلك رغم ان شوانزانغ لم يحصل ابدا على معرفة في سفرته في الصحراء، لكن سعيه يمثل تحولا مستنيرا في الابيستيمولوجي. في احيان كثيرة، اعتُبرت حالات جيتيه كركائز فلسفية قوية وعميقة حظيت بالإجماع في النقاشات المعاصرة. قصة شوانزانغ التي تسلط الضوء على التوتر بين المعرفة والحظ الابستمي، تقرّبنا خطوة لإدراك معنى ان نعرف حقا.
***
حاتم حميد محسن
............................
Source of knowledge: Xuanzang &the Gettier problem, Philosophy Now, Aug/Sep 2025