أقلام فكرية
آمال بوحرب: جدلية التفكر والمنهج النقدي عند ديكارت
![](/images/1/amal_boharb.jpg#joomlaImage://local-images/1/amal_boharb.jpg?width=&height=)
التفكير هو النشاط الأساسي الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات فهو ليس مجرد عملية عقلية، بل هو أداة للتفكر في الذات والعالم من حولنا. عبر التفكير، نستطيع أن نطرح الأسئلة الأساسية التي تشكل هويتنا ككائنات واعية. لكن التفكير وحده لا يكفي؛ يحتاج إلى توجيه ومنهجية لضمان الوصول إلى الحقيقة. هذا ما حاول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت تحقيقه من خلال نهجه النقدي الشهير. فبالشك المنهجي، تحول التفكير من مجرد نشاط عشوائي إلى عملية بناء معرفي متماسكة. في هذا المقال، سنستكشف كيف استخدم ديكارت النقد كأداة لتحقيق اليقين، وكيف يمكن لهذا النهج أن يلهم الفكر الإنساني بشكل عام.
يبدأ ديكارت رحلته المعرفية بالشك المنهجي، حيث يضع كل المعتقدات القائمة على طاولة الشك لاختبار صحتها. هذا الشك ليس سلبيًا بل هو عملية تنظيف ضرورية للوصول إلى أسس اليقين يقول ديكارت في "تأملات فلسفية": "إنني لا أستطيع أن أتصور أي شيء كائن إلا إذا كنتُ أفكر فيه" و هذه العبارة تعكس أهمية النقد الذاتي والتفكيك العقلي للوصول إلى الحقيقة ويمكننا رؤية تطبيق فكرة الشك المنهجي في الأدب من خلال شخصيات مثل هاملت في مسرحية شكسبير "هاملت"، حيث يدخل البطل في حالة من التأمل والنقد الذاتي حول حقيقة الواقع ومصير الإنسان وبهذا الشك المنهجي، ينتقل ديكارت من مجرد قبول المعتقدات التقليدية إلى البحث عن أسس جديدة للمعرفة.
"أنا أفكر، إذن أنا موجود" هذه المقولة هي أساس لنقد اليقين فبعد أن وضع ديكارت كل الأفكار المشكوك فيها جانباً، اكتشف أنه لا يستطيع الشك في حقيقة وجوده ككائن واعٍ هنا يظهر مبدأه الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" هذا المبدأ ليس مجرد إعلان عن وجود الذات، بل هو نقطة انطلاق لنقد شامل لكل الأفكار والمفاهيم التي يتم قبولها بشكل عشوائي. يرى ديكارت أن العقل يجب أن يكون حرًا تمامًا من القيود التقليدية أو العادات الاجتماعية التي قد تحجب الرؤية الواضحة للحقيقة وفي في كتابه "مقال عن المنهج، يقول ديكارت: "لا يمكننا أن نثق بأي فكرة إلا إذا تم اختبارها بناءً على أسس واضحة وصريحة" وهذا الموقف النقدي يجعل منه نموذجًا للعقلانية الحديثة التي تضع العقل في مركز البحث عن الحقيقة. وبهذه الطريقة، يربط ديكارت بين الشك المنهجي واليقين المعرفي، مما يعزز أهمية النقد في بناء المعرفة.
النقد عملية بناء من جانب آخر، فإن النقد عند ديكارت ليس فقط عملية سلبية لإزالة الخرافات والأوهام، بل هو أيضًا عملية بناء. بعد أن يتخلص الفرد من جميع الأفكار المشكوك فيها، يستطيع بناء نظام معرفي جديد يستند إلى اليقين. يشير ديكارت إلى أن المعرفة الصحيحة يجب أن تكون قائمة على "المبادئ الواضحة والضوئية" التي لا تتطلب سوى الإدراك المباشر وهذا النهج النقدي يشبه إلى حد بعيد مناهج العلم الحديث الذي يعتمد على التجربة والعقل وفي رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، نجد بطل الرواية يقوم بعملية نقدية مشابهة عندما يعيد النظر في ذكرياته ومعتقداته السابقة، مما يؤدي به إلى اكتشاف حقيقة جديدة عن نفسه وعن العالم هذه العملية النقدية تؤكد أن النقد ليس فقط أداة لتدمير الأفكار القديمة، بل هو أيضًا مصدر لبناء أفكار جديدة. ولقد لاقت هذه الرؤية انتقادات كثيرة لنهج ديكارت وعلى الرغم من أهميته فقد تعرض لانتقادات من فلاسفة آخرين رأى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، على سبيل المثال أن ديكارت لم يأخذ بالاعتبار دور الحواس في بناء المعرفة. كان يعتقد أن العقل وحده لا يمكنه أن يصل إلى كامل الحقيقة دون تعاون مع الحواس وهذا النقد يعكس التنوع في وجهات النظر حول كيفية بناء المعرفة ومع ذلك، فإن إسهام ديكارت في تطوير النقد الفلسفي لا يزال له تأثير كبير حتى اليوم، حيث يظل نموذجًا للفكر النقدي الذي يجمع بين الشك واليقين.
يمكن القول إن النقد عند ديكارت كان ثورة في الفكر الإنساني لقد حول العقل من مجرد أداة لتلقي المعلومات إلى كيان نشط قادر على التحليل والاختيار. هذا النهج النقدي لا يزال يؤثر على الفلسفة والعلم وحتى الأدب. فالقدرة على التشكيك في المعتقدات السائدة والبحث عن الحقيقة هي واحدة من أعظم الهبات التي قدمها ديكارت للبشرية.
لم يكن لديكارت أنصار فحسب، بل واجه أيضًا انتقادات حادة من معاصريه ومن جاءوا بعده. فبينما أشاد به البعض باعتباره رائد العقلانية الحديثة وأحد مؤسسي الفلسفة الغربية الحديثة، انتقد آخرون تركيزه المفرط على الذات العارفة وتجاهله لأهمية الخبرة الحسية. الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، على سبيل المثال، اعترض على فكرة "الأفكار الفطرية" التي دافع عنها ديكارت، مؤكدًا أن العقل هو صفحة بيضاء يملؤها التجربة. ورأى باروخ سبينوزا أن ديكارت وقع في ثنائية مضللة بين العقل والجسد، مما أدى إلى مشاكل فلسفية لا حل لها وحتى في العصر الحديث، لا تزال فلسفة ديكارت موضوع نقاش وجدل مستمر، مما يدل على عمق تأثيره الدائم على الفكر الغربي والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يمكننا حقًا أن نصل إلى اليقين المطلق؟ أم أن البحث عن الحقيقة هو العملية المستمرة التي لا نهاية لها؟
***
د. آمال بوحرب - باحثة وناقدة