أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: لماذا أصبح الايمان بالله ضرورة!؟
تمهيد: اود التنبيه أنى اتناول موضوع المقالة من جنبة فلسفية وليس من جنبة دينية لاهوتية تقودنا الى انواع مختلفة متباينة ومتطاحنة من الايديولوجيات الدينية السياسية المعاصرة في تعطيلها تفكير العلم والعقل خاصة في بلدان الوطن العربي..
منذ ولادة الانسان المفكر خرافيا سحريا كانت الميتافيزيقيا البدائية العمياء صنو وجوده الحيواني – البشري. وفي مرحلة متقدمة لاحقة فرضتها عليه الطبيعة كان تكيّفه لها يشبه تكيّف الحيوان الانقيادي المذعن لطبيعة لا تعقل وجوده لكنها بقيت مصدر بقائه حيا بعيدا من الانقراض كما حصل مع انقراض حيوان الماموث وسلالات الديناصورات.. وحتى انقراض انواع بدائية قبل وصولنا انسان نادرتال.
نجد في مراحل بدائية متقدمة عن سابقاتها غادر الانسان البدائي خوفه من ظواهر الطبيعة التي لم يكن تفكيره بها يقوده الى تعليل اسبابها فانتقل الى مرحلة خوفه الاشد روعا هي مرحلة خوفه من افكاره الخرافية البدائية والسحرية هل ما يفكر به صحيحا يرضي القوى الغيبية التي يخشاها حتى وصل به الخوف من افكاره والشك بها الى ان يجعل من الحيوانات والجمادات الطبيعية والمصنوعة من قبله بدائيا آلهة يعبدها (الطوطم).
كان خوفه من افكاره في تعطيل تفكير العقل المنتج في حدوده الدنيا معدوما. وكانت افعاله بما يبقيه على قيد الحياة يتصورها تثير غضب قوى لا يعرف ماهي ولا كيف يواجهها. الى ان توصلنا الى ان تلك الافكار والتصورات الخرافية الغيبية التي عاشها الانسان في عصور قديمة جدا هي ما اصطلح تسميته اليوم (الميتافيزيقا) وصرنا نؤمن ايمانا قطعيا يقينيا راسخا ان الانسان كائن ميتافيزيقي قبل معرفته الاديان منذ بداياتها والى الوقت الحاضر وحسب مقولة الاستاذ سعد البزاز الحرب تلد اخرى فلم تكن الميتافيزيقا تلد الاديان بل الاديان ولدت الميتافيزيقا.
لا نجانب الصواب قولنا اننا كائنات ميتافيزيقية قبل ان نكون كائنات عقلية او لغوية او اجتماعية وحتى قبل ان نكون كائنات علمية تنكر جميع انواع التفكير الميتافيزيقي الغيبي في تعطيلها العقل العلمي اليوم. ولم يستطع جبروت العلم القضاء على الانسان الاسطوري الميتافيزيقي الثابت في عقولنا الباطنية اللاشعورية الذي نتوارثه في جينات DNA اننا كائنات ميتافيزيقية بداية ونهاية.
بعلاقة مع ميتافيزيقا الاديان اذكر ان ليفي شتراوس احد رواد الفلسفة البنيوية ونتيجة دراساته المعمّقة باثنولوجيا الاقوام البدائية التي لا تاريخ لها بسبب ان تلك الاقوام لم تكن تعرف التدوين الذي جاء متاخرا جدا بحدود ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد. قال شتراوس عبارته الشهيرة والتي تلقفها منه فوكو باهتمام مبالغ فيه انه انكر شيء اسمه انسان او عقل او تاريخ وهاجم فوكو ومعه فلاسفة البنيوية قاطبة كل شيء يمت بصلة مع الحداثة منها السرديات الكبرى في طليعتها سردية اللاهوت الديني وسردية الماركسية.
ولم يسلم من هذه المعمعة سوى الفيلسوف الالماني المخضرم يورغن هبرماس المعاصر الذي جنّد نفسه مدافعا مستميتا عن الحداثة وهجومه على فلاسفة ما بعد الحداثة من البنيويين. مقولة شتراوس الاستفزازية المريبة قوله ان مشكلات الانسان واحدة على مر العصور والتاريخ هي ذاتها مشكلاته منذ العصور الحجرية والى يومنا هذا لم تتبدل في جوهرها الوجودي الانثروبولوجي.. طبعا العبارة في منطوق علمي تاريخي انثروبولوجي يجعل من بطلانها خارج منطق الفلسفة اكثر من وارد.
ولولا اختراع الانسان للعلم لكنا الى اليوم كائنات ميتافيزيقية تعيش على قناعة وممارسة اصل الحياة هو الدين اللاهوتي بكل طبعاته الوثنية والتوحيدية. ولو لم تكن حقيقتنا الوجودية اننا كائنات ميتافيزيقية بالفطرة فكيف لنا تمرير انه في امريكا ودول اوربية غالبية من شعوبها يؤمنون بالسحر والجان والخرافات والشعوذة والسحر وجميع اشكال الدجل خارج جوهر الدين؟ اذن هل نجد غريبا علينا اليوم اننا اقدم حضارة وتقدما من الغرب في الوقت الحاضر في ايماننا بالخرافات والسحر والشعوذة ومحاربتنا بالوعي الجمعي المتخلف التفكير العلمي حتى اصبح من واجبنا الحضاري الخرافي تصدير جميع خرافاتنا السحرية واليوتوبيات الفارغة وايماننا بعالم الجان للغرب المتحضر بالعلم والذكاء الصناعي والريبوتات الذكية عالم الغرب المتخلف بتفكير العقل الايماني المعتدل السليم؟
إله الفلاسفة
اذكر قرأت أن امراة متزمتة دينيا وقفت امام بيرتراند رسل وعنفته بلهجة شديدة قائلة له ماذا ستقول لله يوم الحساب والقيامة في الاخرة بعد موتك وانت تجاهر بالحادك؟ اجابها رسل وقتها اسال الله لماذا حجبت عني البراهين التي تثبت وجودك لاعبدك.؟
وعن نفس السؤال لانشتاين اجاب سائليه ساقول له – يقصد الله - انا على دين إله اسبينوزا. وكان يقصد مذهب وحدة الوجود الذي انكر فيه اسبينوزا المعجزات الدينية واعتبرها مجافية لمنطق العقل وقال الله جوهر كلي لا تدركه عقولنا ازلي خالد، وبدلالة الجواهر الموزعة في اعجاز الطبيعة بموجوداتها نستدل على وجود الله الجوهر الكامل الكلي الازلي الخالد اللانهائي. فاتهموه بالالحاد الذي كان انشتاين مسرورا انه وجد في مذهب اسبينوزا مخرجا له ينقذه من مازق اتهامه بالالحاد.
اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود اصاب بمقولة له الماركسية والوجودية بمقتل لابراء منه بسهولة حين قال (اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود) ومعلوم ان ما تؤمن به الماركسية يقينا مطلقا اننا بدلالة الوجود المادي نفهم الصفات الخارجية والجوهر بالاشياء. اسبينوزا لم يكتف بتغليب الفكر على المادة خلاف الماركسية بل ذهب ابعد من ذلك حين اعتبر اننا بغير دلالة الجوهر الكلي الكامل الخالق الله لا ندرك الوجود ولا الجوهر في موجودات الطبيعة والاشياء. ما حدا بالماركسية للخروج من احراج اسبينوزا المثالي قولها البحث عن الجوهر في الطبيعة وموجودات العالم الخارجي خرافة ساذجة لاقيمة لها. واعتبرت الماركسية ان ادراك الصفات الخارجية للاشياء كافية ولا قيمة تذكر للجوهر.
كثيرا ما استوقفتني عبقرية باسكال الايمانية بالله الذي توفي مبكرا ولم يكمل مشواره الفلسفي الايماني البراجماتي. كانت عبارته الايمانية البراجماتية ما معناه عليك الايمان بوجود الله وتصرّف بالحياة بما يمليه عليك الايمان فانك بذلك سوف لن تخسر شيئا وتكون كسبت دنياك. واذا ثبت لك يوم الدينونة والحساب ان الله غير موجود فايضا سوف لن تخسر شيئا واذا تحقق لك وجوده تكون ربحت دنياك وآخرتك. اجد ان الدين عموده الفقري الايمان القلبي بالله وممارسة الطقوس العبادية الخاصة. ثم تليها مرحلة اخرى هي مرحلة الالتزام السلوكي بالقيم التي مصدرها الضمير وبالاخلاق وما يتفرع عنها من جوانب في عمل الخير والصلاح ومحبة السلام الخ. لا دين بلا قيم روحانية.
مقولة باسكال البراجماتية النفعية الايمان بالله بلا تجربة اثبات اقتبسها ماكس شيلر بتعبير آخر قائلا: " النظرية الجديدة ان الانسان نفسه اصبح مركز العالم او المحل الاوحد الذي يدرك فيه الله ذاته ويحقق ذاته. هنا شيلر يذكرنا بالفكرة التي نادى بها كل من اسبينوزا وهيجل ان الموجود الاصلي – المقصود الله – يشعر بذاته من خلال الاشياء وقد اصبح مدعما في صميم الوجود الالهي. وانتهى شيلر بايمانه الديني بفكرة (الظهور المتبادل للانسان والله). المصدر ص 390. طبعا واضح من كلام شيلر ان الخالق يدرك وجوده الالهي بدلالة ايمان الانسان به بوحدانيته وقدراته غير المحدودة وصفاته السامية المثالية التي يخلعها الانسان على معبوده.
قبل 3500 قبل الميلاد قال الفيلسوف اليوناني بروتوغوراس مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء) وهو كان وقتها يقصد الانسان مركز كل فكر يتعلق بالوجود والطبيعة ولم يكن يقصد الانسان مركز تفكير ميتافيزيقا اللاهوت الذي لم يكن معروفا وقتذاك في الايمان بتعدد الالهة عند الاغريق والرومان.
اليس من الغريب ان نقول ان مقولة بروتوغوراس يمكننا اسقاطها الصائب على اللاهوت الديني المعاصر في مركزية الانسان اليوم.؟ وان الانسان اصبح مقياس كل شيء.؟
في كتابه الشهير"اصل الدين" يذهب فيورباخ فيلسوف المادية الطبيعية الصوفية الى ان الانسان والطبيعة والاله توليفة واحدة مركزيتها علاقة الانسان بالطبيعة في اختراعه الاله. وهو بهذا الطرح يلتقي بمذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا وصوفية الاديان الوثنية الشرقية عامة. بفارق واحد هو ان فيورباخ كان ماديا في صوفيته اي معتبرا الطبيعة مصدر الهام الانسان اختراعه الدين.
اسبينوزا كان متأرجحا في فلسفته مذهب وحدة الوجود بين الايمان والالحاد فهو من جهة ادان وانكر المعجزات الدينية واعتبرها اعتقادات بالية منافية للعقل. وكي يبعد عنه شبهة الالحاد التي لاحقته وجعلت الكنيست اليهودي في هولندا تعتبره مهرطقا منبوذا من طائفته الدينية اليهودية ما جعله يمضي بقية حياته متنقلا باسماء مستعارة كما فعل ديكارت نفس الشيء بعد هروبه من فرنسا محاكم التفتيش الى هولندا حتى وفاته. عمد اسبينوزا اختراع مذهب وحدة الوجود.
مذهب وحدة الوجود الصوفي في فلسفة اسبينوزا كان غريبا جدا فلا هو ينتمي حقيقة الى الايمان ولا هو يماليء المذاهب الصوفية التي حاولت تطويع التصوف لتبعية الفلسفة واخفقت. السبب الحقيقي هو ان منبع التصوف بجميع مذاهبه كان الشرق موطنه الاصلي في بلاد العرب والفرس والهنود والصين. هذا الهاجس جعل الاسكندر المقدوني يقوم بحملته التي فتح بها الهند وبلاد فارس والعراق البابلي ومصر الفرعونية ومات عام 321 قبل الميلاد دون ان يحقق حلمه في رغبته مزاوجة منطق اليونان الفلسفي العقلي مع صوفية الشرق التي ملكت قلبه. ويؤرخ الفلاسفة موت الاسكندر المقدوني هو بداية تاريخ العصر الهلنستي بالفلسفة الذي حاول إحياء حلم الاسكندر المقدوني في مزاوجة فلسفة اليونان مع صوفية الشرق بين مصر وروما.
بالعودة لشيلر نجده يؤكد مذهب وحدة الوجود متاثرا بطروحات اسبينوزا وهيجل رغم الاختلاف والبون الشاسع الاختلافي بينهما. قائلا اننا بدلالة الانسان نشعر بوجود عظمة الخالق. كذلك فيورباخ الذي مررنا به لم يغادر مقولة مركزية الانسان في وحدة الوجود الصوفية المادية التاملية التي اثارت حفيظة ماركس ضده. معتبرا فيورباخ اصل الدين هو من اختراع الانسان في علاقته بالطبيعة.
فيورباخ كان متاثرا بالطبيعة بشكل مذهل ما جعله يكتب رسالة لابيه يخبره بها انه ترك دراسة اللاهوت ليجد كل ما يتمناه بالطبيعة فاصدر ثلاثة كتب محورها دور الطبيعة في نشوء الاديان واختراع الانسان لها. يحضرني عناوين اثنين فقط من كتب فيورباخ هما كتاب (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية).
وفي هذا التعلق المستميت بالطبيعة كانت مادية فيورباخ لقبه باليونانية قناة النار. التي استعارها ماركس منه باقرار مكتوب حين وضع قانون المادية التاريخية الجدلية في مؤلفاته بعضها ثلاثة اطروحات كتبها عن فيورباخ نشرت بعد وفاة ماركس. كما اخذ ماركس الجدل المقلوب الواقف على راسه من هيجل.
برايي الشخصي رغم مادية فيورباخ الالحادية المشكوك بها الا انه وجد ضالته الميتافيزيقية بمركزية الانسان على انه كائن ميتافيزيقي ديني بالفطرة رغم ايمان فيورباخ المادي ان علاقة الانسان بالطبيعة خلقت إله السماء. كما هو الانسان كائن اجتماعي بالفطرة ايضا ومن الخطا القول الانسان حيوان ناطق بالفطرة بل حيوان لغوي ناطق بالخبرة المكتسبة. تعلم اللغة غير موروث فطري بل اكتساب من العائلة والمحيط والمجتمع.. اود الاستطراد المختصر السريع حول فطرية تعلم اللغة عند الطفل غير الرجل البالغ توجد مدرستين فلسفيتين الاولى يطلق عليها مذهب (السلوك اللفظي) رائدها سكينر تؤمن بفطرية اللغة. وكذلك مدرسة ثانية تزعمها نعوم جومسكي تناوىء مدرسة السلوك اللفظي وتؤمن بالاستعداد الفطري لتعلم اللغة بما اطلق عليه (التوليدية اللغوية ). وهي الاكثر مقبولية.
توجد مقولة تنسب لتولستوي على ما اعتقد قوله الله ضرورة لو لم نجده على الارض لاخترعناه. ولم تسلم هذه المقولة في اسقاطها على الشعر الغنائي حين قال نزار قباني في قصيدة ماذا اقول له؟ غنتها الرائعة نجاة الصغيرة (الحب بالارض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه).
***
علي محمد اليوسف - باحث فلسفي
.................
الهوامش:
الاقتباسان في المقال هما نقلا عن زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة