أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: اللغة والقصد

لا تكتمل ممارسة الخطاب إلا بوجود مكوناته، ما يكتبه الكاتب، وما يقرأه القارئ، على اعتبار أن الخطاب رسالة من الكاتب إلى القارئ، فضلاً عن دور الأخير في عملية انتاج نص آخر يترتب عن قراءته لنص الكاتب. لكن تبقى هذه الممارسة الخطابية، مع اكتمال مكوناتها، بحاجة إلى قصدية المؤلف في كتاباته، فالخطاب لا يأخذ قيمته إلا ضمن العملية التفاعلية بين المتكلم والمُخاطَب، فلا بد أن يكون القصد جلياً وواضحاً، فالمقاصد هي المنطلقات الشخصية للمتحدثين، فهي نوايا القائلين، وبهذه الكيفية نتمكن من وصف الفعل الكلامي بأنه قصدي، متى ما كان قصد المتكلم هو جعل المخاطب يتعرف على شيئين على الأقل:
- قصده التواصلي: قصد أن المخاطَب يعرف قصد المتكلم في بناء فعل تواصلي.
- قصده التكلمي: قصد أن المخَاطب يعرف الهدف من الفعل التكلمي، وأن تعرّفه عليه يتم بالتلفظ بهذا الفعل.
وتتعزز سلطة المتكلم في مقصديته، لأنه الذي يحدد معاني كلامه سلفاً، ويترتب عن هذا منطقياً أن المتلقي ليس له أي دور في مسألة إضفاء المعنى على الألفاظ؛ لأنها وليدة معانٍ مسؤولة عن تمظهرها سابقاً، وما على القارئ إلا أن يبحث عنها من خلال الألفاظ ذاتها، أو أن يجتهد لبلوغها إذا كانت مستترة وراء ألفاظها.
والقصدية كما يعرفها (جون سيرل/ العقل واللغة والمجتمع: ص102) هي سمة العقل التي توجه بها الحالات العقلية، أو تتعلق بها حالات عقلية أو تشير إليها، أو تهدف نحوها في العلم؛ وما يميز هذه السمة أن الشيء لا يحتاج أن يوجد فعلياً لكي تمثله حالتنا الشعورية. وتمثل بشكلٍ عام الأرضية التي تُبنى فوقها الخطابات العادية منها والفنية؛ إذ يقف المقصد وراء كل نظم يُقدم عليه الإنسان، ويلعب القصد دوراً حاسماً في حقلي الدلالة والسيميولوجيا؛ إذ من الضروري ارتباط القصد بالعلامة (الدليل)، عن الاستعمال أو التواصل، لينجح المرسل في خطابه، ويضطلع القصد بدور في تصنيف هذه العلامات، فالباحثون يفرقون بين العلامات ذات الدلالة الطبيعية والعلامات ذات الدلالة المقصودة. ويذهب (بول ريكور) إلى إن الفعل الأول للوعي هو المعنى، والقصدية هي تحديد هذا المعنى بالعلامة، التي تتوسط علاقة الوعي بالأشياء... ولقد ربط (ريكور) بين قصدية الوعي ورمزية الكتاب المقدس، ليصل بهذا الربط إلى معنى أعمق للأشياء على نحو ما هي عليه بالفعل (إديث كريزويل/ عصر البنيوية: 138). ويؤكد (جون سيرل/ العقل واللغة والمجتمع: ص207-208) على أن المعنى هو شكل قصدي، يتحول إلى كلمات وجمل، ورموزٍ إذا ما أحسن النطق بهذه الكلمات والجمل؛ بحيث تكون ذات معنى، فإنها تنطوي على قصدية مشتقة من أفكار المتكلم، فهي لا تنطوي على مجرد معنى لغوي تقليدي فحسب، بل على معنى يقصده المتكلم أيضاً، فالمتكلم حين يؤدي فعلاً كلامياً فإنه يفرض قصديته على هذه العلامات والرموز.
وإن عملية الاتصال اللغوي بين طرفي الخطاب لا تخلو من تعقيد؛ وذلك بغية معرفة القصد، خصوصاً عندما يتمايز قصد المُرسل من المعنى الحرفي للخطاب، وعلى ذلك يصبح اللغز الذي يبرز مباشرة هو كيف يمكن أن يُدرِك المرسَل إليه هذه المقاصد المتعاكسة والمعقدة التي يعنيها المُرسِل؟. ويُرجع أحد المتخصصين (جورج يول/ معرفة اللغة: ص132-133). ذلك التعقيد إلى تعدد معنى الخطاب الواحد، وفي تعدد أفعاله الإنجازية، فإنه قد يُنتج خطاباً يقبل أكثر من تأويل في السياق الواحد. ويبرز دور السياق-من جهة أخرى- في تقليص سوء الفهم حول المحتوى الخبري، ويُفلِح جزئياً في التغلب على مصاعب عدم إمكان نقل التجربة والمقاصد، وهذا ما يشير إليه (بول ريكور/ نظرية التأويل: ص45)، حيث يقول: "تتمثل الوظيفة السياقية للخطاب في حجب تعدد المعاني في الكلمات، وتقليص الاستقطاب في أقل عدد ممكن من التأويلات؛ أي غموض الخطاب الناشئ عن التعدد المُنكشف في معاني الكلمات".
ونتيجة لما تقدم، يتضح لنا أن للقصدية منزلة كبيرة في ميادين فلسفة اللغة، لصلتها المباشرة بالمعنى والدلالة، ولكونها تقوم على تثبيت المكانة الهامة للخطاب والمخاطبة، باعتبارها المحور الرئيس في مطاردة القارئ لقصدية المؤلف.
***
د. حيدر عبد السادة جودة